حرية – (31/8/2024)
كشفت وثائق بريطانية عن مداولات سرية مكثفة بين الحكومة ولجنة شكاوى الصحافة والعائلة المالكة بشأن إمكانية فرض قيود على الصحافة البريطانية بعد الانتقادات الحادة التي حمّلَت الصحفيين جزءا كبيرا من المسؤولية عن مقتل ديانا أميرة ويلز السابقة.
في الحادي والثلاثين من أغسطس/آب عام 1997، قُتلت ديانا، قرينة الأمير تشارلز، ولي العهد في ذلك الوقت وملك بريطانيا الحالي، برفقة حبيبها، دودي الفايد، رجل الأعمال المصري الأصل في حادث سيارة مأساوي في باريس.
كانت ديانا، التي لُقبت بأميرة القلوب بسبب نشاطها الخيري ذائع الصيت في أنحاء العالم، محور اهتمام الصحف، خاصة الشعبية واسعة الانتشار، بعد انفصالها عن تشارلز، وعلاقاتها العاطفية مع رجال آخرين، كان الفايد أشهرهم. وعُرفت الأميرة أيضا بين البريطانيين بجرأتها على الخروج على القواعد الملكية المستقرة منذ سنوات طويلة.
وبعد حادث وفاة ديانا، الذي سبب صدمة في بريطانيا والعالم، أُلقِى اللوم على المصورين الصحفيين المتطفلين “الباباراتزي” الذين كانوا يلاحقون الأميرة وحبيبها أينما ذهبا.
وتكشف الوثائق إلى أنه رغم الضغوط السياسية والبرلمانية الهائلة، رفض وزراء بارزون في الحكومة البريطانية دعوات سن قوانين تقيد حرية الصحافة.
وخلصت التحقيقات الفرنسية إلى أنه بسبب ملاحقة الباباراتزي، ارتطمت سيارة ديانا ودودي بأحد الأعمدة الخرسانية في نفق ألما في العاصمة الفرنسية.
وواجهت الصحافة انتقادات شرسة، ما دفع الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى مطالبة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بمراجعة القوانين بهدف الحد من تطفل الصحفيين على حياة الناس الخاصة. غير أن بلير بدا متحفظا على الاستجابة لنصيحة شيراك.
وتكشف الوثائق عن أنه بعد ساعات من وقوع الحادث، جرى اتصال هاتفي بين الزعيمين.
ووفق سجل المحادثة، فإن “شيراك اقترح على بلير أن ينظر في تشديد قوانين الخصوصية الحالية في المملكة المتحدة”.
واتفق بلير مع شيراك على أن مشاعر الجماهير ملتهبة “لكنه تعمد ألا يقدم أي التزام بالنظر في قوانين الخصوصية في المملكة المتحدة”.
وعلق السكرتير الخاص لبلير على المكالمة قائلا إنه “إذا كان للحكومة الفرنسية أن تصدر أي إعلان يعكس الآراء التي ألمح إليها شيراك، فإن هذا سوف يثير أمامنا قضية حساسة تتعلق بموقف حكومة المملكة المتحدة من تطفل وسائل الإعلام”.
لم يكن الفرنسيون، الذين وقع الحادث المأساوي على أرضهم، وحدهم الذين أرادوا شن حملة على الصحافة.
فقد مالت هيلاري، قرينة بيل كلينتون الرئيس الأمريكي آنذاك، إلى انتقاد الصحافة علنا. وكادت تفعل هذا، بعيد وصولها إلى لندن للمشاركة في جنازة الأميرة، غير أنها تراجعت اتباعا لنصيحة العاملين معها.
وفي برقية سرية إلى مسؤول الاتصالات في مكتب بلير، قال رئيس هيئة موظفي مكتب رئيس الحكومة: “ميل هيلاري الشخصي كان هو الهجوم على الصحافة ولكن مستشاريها منعوها من فعل هذا”.
رواية حارس ديانا الشخصي
مع تصاعد موجة الانتقادات للصحافة بعد الحادث، تردد أن بلير ينوي إجراء مراجعة رسمية بشأن ممارسات الصحافة، خاصة في ملاحقة المشاهير.
تكشف الوثائق أن هذا شجع الضابط كولين تيبوت، سائق ديانا الانجليزي، على المبادرة بالاتصال بمكتب بلير عارضا الإدلاء بشهادته.
لم يرافق تيبوت الأميرة في الرحلة إلى باريس، غير أنه سافر إلى العاصمة الفرنسية بعد ساعات من وقوع حادث نفق ألما ليرافق جثمانها في رحلة العودة إلى لندن.
كان تيبوت ضابطا في فرع حماية أفراد الأسرة الملكية في جهاز الشرطة البريطانية. وتقاعد عام 1993، ثم ضمّته الأميرة لفريق سائقيها لحمايتها.
وفي رسالة إلى بلير، تحدث الضابط عن سعادة الأميرة البالغة عندما كان ينجح في قيادة السيارة وفيها الأميرة وابنها الأمير ويليام من مقر إقامتهما في ذلك الوقت دون أن يعلم أحد ، خاصة الصحفيين، بوصولهما.
وقال تيبوت إنه منذ طلاقها عام 1996 “فقدت الأميرة تدريجيا القدرة على الخروج وحدها، وكان علينا أن نتخذ تدابير بالغة الصرامة لمغادرة قصر كنزنغتون دون أن يرصدها أحد. وفي الشهرين الماضيين من حياتها بشكل خاص، كانت الصحافة التي تحاول متابعة كل طلعة للأميرة من القصر، وخاصة الرحلات الخاصة، تسبب لها قلقا نفسيا بالغا”.
بعد شهور قليلة، أثيرت قضية حرية الصحافة في أروقة الحكومة البريطانية.
ففي شهر فبراير/شباط عام 1998، أي بعد خمسة أشهر من موت ديانا، اقترح وزير الثقافة والإعلام والرياضة كريس سميث تعديلات قانونية تشترط ضرورة الحصول على موافقة أي فرد قبل نشر صورته، في محاولة لتجريم اختراق المصورين الصحفيين لخصوصية الناس، بما فيهم الشخصيات العامة.
وتشير الوثائق إلى أن الوزير أرسل رسالة بهذا المعنى إلى بلير، غير أن مرغريت بيكيت وزيرة التجارة والصناعة رفضت المقترح خشية تأثيرها على دور الصحافة وحريتها.
نوايا حسنة
ووفق وثائق مكتب رئيس الوزراء، فإن بكيت، التي كانت رئيسة الهيئة البرلمانية لحزب العمال الحاكم، قالت إنه رغم أن أفكار سميث تعني إجراء “تغيير محدود” في القانون، فإن هذا سيعني “تغييرا في التشريع الخاص بالخصوصية، وهذا ما قلنا إننا لن نطرحه” على البرلمان.
وكانت المخاوف تشير إلى أن المساس بقانون الخصوصية الذي يضمن التوازن بين حرية الصحافة والتعبير بما يخدم المصلحة العامة وبين الخصوصية الشخصية، سوف يُنظر عليه على أنه تقييد لحرية الصحافة.
وعندما، أخذ رأي المحامي العام (مستشار الحكومة القانوني) لورد فالكونر ثورتون، قال في تقرير رسمي إلى وزير الداخلية إنه “ينبغي ألا يخضع الصحفيون ذوو النية الحسنة، والذين يجادلون بأن النشر يخدم المصلحة العامة، للقيود المسبقة على النشر”.
أما وزير الداخلية جاك سترو، فقد كان أكثر صراحة في رفض أي تعديلات قانونية من شأنها المساس بحرية الصحافة.
وفي سياق النقاش السري بين وزراء الحكومة بشأن أي تعديلات قانونية محتملة، أصر سترو على “احترام السلطة القضائية الأوروبية التي تعزز حرية الصحافة”.
ودعا أيضا إلى أن يكون هناك “اعتبار للمصلحة العامة وأي ميثاق عمل ذي صلة”، في إشارة إلى ميثاق العمل الصحفي الذي تراقب لجنة شكاوى الصحافة التزام الصحف به.
وعندما أثيرت مسألة الأمر القضائي الاحتياطي بعدم نشر بعض التقارير بدعوي المساس بالخصوصية، استمسك سترو بتوفر شرط إثبات الإضرار بالمصلحة العامة.
وفي تقرير بالغ السرية، لم يطلع عليه إلا عدد قليل من الوزراء، قال سترو إن “الأوامر القضائية بعدم النشر على أساس الخصوصية يجب أن تمُنح فقط عندما يقنع طالب إصدار هذا الأمر المحكمة بأنه من المرجح أن يكسب أي قضية سوف يرفعها لاحقا (ضد الصحيفة) في حالة النشر”.
وردا على ذلك، قال سميث إن مقترحات وزير الداخلية “تتعامل بشكل جوهري مع مشكلة القيد المسبق على الصحافة الاستقصائية المسؤولة”.
ومن ناحيته، قال لورد الكسندر إيرفين، الوزير المسؤول عن استقلال المحاكم، إن المقترحات، التي تُصعّب استصدار أوامر منع نشر مسبقة مؤقتة، “استجابت لمخاوف الصحافة”.
وأضاف في رسالة إلى رئيس الوزراء أنها أيضا “تحقق التوازن الصحيح” بين الحريات الصحفية والخصوصية الفردية.
ورأي بلير أن أفكار سترو تحقق التوازن المطلوب بين حرية الصحافة وحقوق الأفراد الشخصية.
وفي شهر يونيو/حزيران، قررت الحكومة طرح مشروع قانون في مجلس العموم (البرلمان) يعالج الانتقادات الموجهة للصحافة والحقوق الفردية في الخصوصية.
وتكشف الوثائق أن بلير وعد بأن تتابع الحكومة أي أثار سلبية للقانون، بعد تطبيقه، على حرية الصحافة.
وقال، في إشعار بالغ السرية إلى وزرائه، إنه “لو ثبت أن أية قرارات تصدرها المحاكم تطبيقا للقانون سوف تقوض حق وسائل الإعلام في حرية التعبير، فإننا سوف ندرس استصدار تشريعا آخر لتصحيح ذلك”.
في هذه الأثناء، شُغلت لجنة شكاوى الصحافة، وهي جهة مستقلة عن الحكومة تراقب أداء الصحف، بالعمل حثيثا على تعديل ميثاق العمل الصحفي، استجابة للمطالب الشعبية والسياسية المستمرة. وكان همها الأكبر هو منع انتهاكات الصحافة المتمثلة في الاختراق غير المبرر لخصوصية الشخصيات العامة.
استمر العمل قرابة ثلاثة شهور، أقرت اللجنة مشروع مدونة سلوك جديدة أكثر صرامة. وتضمنت تغيرات غير مسبوقة بدأ تطبيقها في عام 1998.
وفي التقرير السنوي، قال اللورد جون ويكام، رئيس اللجنة، إن عام 1997 “شهد أكثر التغييرات أهمية في ميثاق عمل صناعة الصحافة”، مضيفا أن هذه التغييرات “اُدخلت بعد الموت المأساوي لديانا، أميرة ويلز والقلق الجماهيري والبرلمان من تطفل الصحافة”، على حياة الناس.
وأقرت اللجنة بأن الرأي العام السائد بعد وفاة الأميرة طالبنا بصوت عال وواضح بأن “علينا أن تضمن أن قواعدنا المتعلقة بالخصوصية والتحرش صارمة بالقدر الواجب”. وأضاف “لقد أنصتنا واتخذنا إجراءات، وفعلنا هذا بسرعة تفوق قدرة أي قانون مُشرع أو قاض على التصرف”.
طفلان “ليسا عاديين”
وفي تقرير سري بعث به إلى رئيس الوزراء، قال وزير الإعلام والثقافة والرياضة إن مسؤولي لجنة الصحافة اتخذوا تدابير تعالج الانتقادات الموجهة لها بعد موت ديانا.
ووفق تلك التدابير، أقر ميثاق السلوك الصحفي لأول مرة بأنه من حق أي شخص يتمتع باحترام حياته الخاصة. كما تضمن بندا جديدا يضبط معايير التقاط الصور “في الأماكن الخاصة”، بعد أن كانت الضوابط تتعلق فقط بالتصوير في ” العقارات الخاصة”. ونُظر إلى هذا التغيير على أنه توسيع للمساحة التي يتمتع فيها الشخص بالخصوصية الفردية.
وفيما يتعلق بممارسات المصورين المتطفلين، وسعت لجنة الصحافة مفهوم التحرش ليشمل تحريم تعقب الأشخاص بالدراجات النارية والتقاط الصور بعد “الملاحقة الملحة المستمرة”.
كما فرضت قيودا على استخدام المصلحة العامة كمبرر لنشر صور الأطفال أو ملاحقتهم أو اختراق خصوصيتهم. وقال الميثاق الصحفي المعدل إنه في الحالات التي يكون الأطفال طرفا فيها، يجب على رؤساء التحرير أن يثبتوا أن هناك “مصلحة عامة استثنائية” تبرر تجاوز المصالح الخاصة بالطفل التي هي عادة أهم من النشر.
وبسبب هذا البند، جرت اتصالات سرية مكثفة بين مختلف الجهات البريطانية بشأن حماية خصوصية الأميرين ويليام وهاري، نجلي ديانا. كان يبلغ ويليام 17 عاما، وهاري 15، وأثيرت مخاوف من أن تكون تحركاتهما هدفا للملاحقات الصحفية.
وتكشف الوثائق أن قصر سانت جيمس، مقر إقامة الأميرين ووالدهما، قدم شكوى إلى لجنة شكاوى الصحافة ضد صحيفتي ميرور وديلي ستار اللتين كانتا ترصدان تحركات الأميرين.
وأقرت لجنة الصحافة بضرورة حماية ويليام وهاري، اللذين عاشا معاناة هائلة، بعد وفاة والدتهما، كغيرهم من الأطفال، من تطفل الصحف على خصوصياتهم.
ورغم التعويل على حكمة رؤساء تحرير الصحف والتزامهم ببنود ميثاق العمل الصحفي الصارم الجديد، فإن اللجنة كانت واضحة في التأكيد على أن الأميرين شخصيتان مهمتان وموضع اهتمام شعبي.
وفي رسالة إلى رئيس الوزراء، قال رئيس اللجنة إن أخبار الأميرين محل اهتمام الجمهور لأن الطفلين غير عاديين.
وفي الرسالة السرية، قال لورد ويكام إن “القصر والصحافة يدركان دائما أنه بينما يتمتع الطفلان بكل احترام لخصوصيتهما، فإنهما، في الوقت نفسه، طفلان فريدان بسبب قربهما من العرش الملكي”.
وأكد على أنه “بينما ينبغي حماية خصوصيتهما، فإن الجمهور يتوقع أن يرى من وقت لآخر صورا لهما، ويقرأ تقارير عن تقدمهما (في التعليم) في الصحف والمجلات”.
وكشفت الرسالة تفهم القصر لدور الصحافة، وأكدت أن القصر وافق على ترتيب مناسبات لالتقاط الصور وإجراء مقابلات مع الأميرين”.
وتعهد لورد ويكام بأن تضمن بنود ميثاق العمل الصحفي الجديدة استمرار التفاهم بين القصر والصحافة “بطريقة يستمر بها احترام الخصوصية التي يستحقها الأمير ويليام والأمير هاري، والحماية، التي تحق لهما، من تطفل وسائل الإعلام”.
وطلب بلير “تحليلا” لرسالة اللورد “بأسرع وقت ممكن”.
وفي رده على الرسالة، أقر رئيس الحكومة في خطاب إلى لورد ويكام بصعوبة التوفيق بين دور الصحافة وضمان حق الخصوصية.
وقال “أدرك أن تحقيق توازن بين رغبة الصحافة في نشر قصص عن الأميرين، وحقهما في الخصوصية، مهمة صعبة”.
وختم الرسالة بالتعبير عن الامتنان لجهود اللورد “في تحقيق ما يبدو أنه نتيجة ناجحة”.