حرية ـ (1/9/2024)
حادثة غرق اليخت “بايزيان” Bayesian البالغ طوله 56 متراً والتي وقعت خلال شهر أغسطس (آب) وذهب ضحيتها قطب التكنولوجيا البريطاني مايك لينش وضيوفه إضافة إلى طاقم اليخت، أتاحت للرأي العام نظرة نادرة إلى عالم اليخوت الفاخرة.
من الحجم الهائل للصارية (74 متراً، أي ما يقارب حجم سبعة منازل من طابقين مكدسة فوق بعضها بعضاً) إلى قيمة سعر اليخت (عرض “بايزيان” للبيع عام 2014 للمرة الأولى وبلغ سعره 30 مليون دولار، أي نحو 23 مليون جنيه استرليني)، إلى الفخامة البالغة التي يتمتع بها (الديكورات الداخلية من تصميم ريمي تيسير، الذي صمم أيضاً الـ”بينتهاوس” الجديد لفندق كلاريدج [بمدينة لندن])، فإننا نلمح تفاصيل من عالم لا يشاهده في العادة إلا قلة من الناس.
هناك اليوم 12626 يختاً فاخراً من هذا النوع في المياه حول العالم، إضافة إلى 1166 يختاً قيد الإنشاء أو تحت الطلب. وإن تسنى لأحدكم زيارة جزيرة يونانية هذا العام، أو ربما ساحل أمالفي [بإيطاليا]، فقد يكون شاهد بعض تلك اليخوت يدخل المرافئ ويغادرها وتساءل عمن يمكن أن يملك هكذا يخت، أو عمن يمكن أن يتحمل نفقة استئجار أحدها، والتي تبلغ بمعدلها الوسطي قرابة الـ180 ألف جنيه استرليني (نحو 240 ألف دولار) للأسبوع الواحد.
وإذ يمكن أن يفكر المرء بنجوم من مؤثري (الإنترنت) وأسماء من لائحة كبار أثرياء العالم، فإن مجتمع اليخوت الفاخرة هو مكان يفرز فيه أصحاب الملايين من أصحاب المليارات وأصحاب المئات من المليارات، أي الفئة التي تبلغ نسبتها 0.001 في المئة من سكان العالم. ومن النادر أن يجد المرء نجماً من المشاهير لديه قدرة مالية تسمح له بامتلاك يخت كالذي يملكه لينش، إذ تكون هكذا يخوت مملوكة عادة من عملاقة مجالاتهم غير المعروفين على نطاق واسع.
إذاً، ما الذي يجعل “اليخت الفاخر” فاخراً؟ بحسب “بوت إنترناشيونال” Boat International، إذ أعمل، يمكن للصفة المذكورة أن تُطلق على أية سفينة أو يخت شراعي أو يخت ذي محرك يتجاوز طول أي منها 24 متراً. فالحجم بعالم اليخوت الفاخرة هو كل شيء واليخوت مع الوقت تزداد حجماً. وبالفعل يظهر قسمنا البحثي “بوت برو” BoatPro أن المعدل الوسطي لطول اليخت المبني حديثاً ارتفع الآن إلى 39.2 متر بعد أن كان 38.5 متر خلال العام الماضي.
أما اليخت الأكبر في العالم راهناً فهو “عزام” Azzam -يخت ذو محرك – الذي يبلغ طوله 180.6 متر، أي تقريباً بطول ملعبي كرة القدم، وهو أكبر بثلاث مرات من يخت مايك لينش “بايزيان”. وبالنسبة إلى المالكين فيمكنهم شراء يخوت “شبه مخصصة” (أي منجزة جزئياً، مثلما يجري شراء بيت جديد ويجري التعديل على خريطة بنائه بحسب رغبة الشاري، لكن بمقاييس أكبر بكثير)، أو “مخصصة بالكامل” (أي مبني بكامله بحسب متطلبات المالك ورغبته).
لكن عملية البناء في كلتا الحالتين ليست عملية سريعة. إذ يمكن أن تتطلب قرابة أربعة أعوام من مرحلة التصميم إلى مرحلة إنجاز العمل، إذ يكون هناك نحو 300 شخص أو أكثر يعملون في كلتا المرحلتين. وهذا كله يفسر ربما المقدار المذهل الذي قد تبلغه كلف بناء اليخت.
وبينما يتغير هذا وفقاً لتقلبات السوق والطلب، فإن اليخت المصمم خصيصاً بطول 100 متر مع جميع الكماليات والإضافات يبلغ سعره نحو 200 مليون جنيه استرليني (نحو 260 مليون دولار). وهذه مجرد البداية. واعتماداً على حجم اليخت وعمره ستحتاج إلى إنفاق ما لا يقل عن 5-10 في المئة من سعر الشراء سنوياً على كلفة صيانته وتشغيله (لذا، في هذه الحالة 20 مليون جنيه استرليني على الطاقم والوقود والضرائب والتأمين ورسوم الميناء).
واحدة من الصور الأخيرة الملتقطة لليخت الفائق الفخم “بايزيان”
وفي هذا الإطار يحب بعض المالكين تعويض عديد من النفقات التشغيلية عبر تحويل يخته إلى مشروع فندق صغير وتأجيره. اليخت التجاري الناجح في المنحى المذكور (يضم ديكوراً داخلياً محايداً [أي يتوافق مع مختلف الأذواق]، وجاكوزي، وكثيراً من ألعاب مكتبية [أدوات ممتعة وذكية مثل كرات نيوتن]) سيحظى بعدة مستأجرين خلال العام ويغطي الوجهات التقليدية، أي البحر المتوسط صيفاً والكاريبي شتاءً.
اليخت “بولد” Bold مثلاً البالغ طوله 85 متراً مجهز بسينما في الهواء الطلق ومنصة لهبوط طائرات مروحية، وجهاز شواء “تيبانياكي” الياباني ومجسمات قابلة للنفخ، وأدوات للتزلج المائي، يكلف استئجاره 665 ألف جنيه استرليني (نحو 875 ألف دولار) في الأسبوع.
يفضل عدد من مالكي اليخوت البقاء بعيداً من الأضواء، إلا أن بعضهم أمثال مصمم الأزياء تومي هيلفيغر يحب البروز واستخدام يخته للترفيه (على منوال هيلفيغر أيضاً كريس جينير من عائلة كارداشيان). لكن في غالب الحالات يبقى مالكو اليخوت شديدي الخصوصية (لينش كان من أولئك المالكين الذين يفضلون الخصوصية وعدم الاستعراض). وحتى عمليات بناء اليخت يمكن أن تتم غالباً تحت غطاء من السرية، ولا يعلم المهندسون والفنيون الذين يتولون تنفيذ الأعمال هوية المالك.
اليخوت وعلى نحو يختلف عن السيارات، لا تخسر من قيمتها بصورة حادة. الشرط في هذا يتمثل بضرورة المحافظة عليها في حال ممتازة. إن ذلك يتطلب جهداً كبيراً من الأمور الحقيقية الواردة في مسلسل “بيلو ديك” Below Deck على “نتفليكس” هو أن أفراد الطاقم (على متن اليخت) يقومون فعلاً بتنظيف الفراغات بين بلاطات الأرض بأعواد الأسنان.
ثابر على تنفيذ صيانة ممتازة وسيخدمك اليخت لـ70 عاماً أو أكثر. “كريستينا أو” Christina O اليخت الفاخر والأيقوني الذي امتلكه مرة عملاق النقل البحري أريستوتل أوناسيس وزوجته جاكي أو. ما زال متيناً بعمر الـ81 سنة. وقد عرض خلال الآونة الأخيرة للبيع بسعر 90 مليون يورو (68 مليون جنيه استرليني).
ويحتاج المرء لطاقم مؤلف من 20 فرداً إن كان يخته بطول 100 متر. والطاقم هذا ليس لتصوير مشاهد تلفزيونية، بل يجب أن يتمتع أفراده بمؤهلات احترافية عالية وأن يكونوا أهلاً للثقة كي يعتنوا بهذه الملكية التي تساوي قيمتها عشرات ملايين الجنيهات.
“عزام” هو اليخت الأكبر ذو محركات في العالم حالياً
وفي هذا الإطار هناك طلب كبير على قباطنة مهرة، والذين يمكنهم طلب الراتب الذي يريدونه. إذ إن الإبحار بالضيوف لمناطق مدهشة وفريدة من العالم ليس سوى جزء بسيط من مهام أولئك القباطنة. إذ عليهم التخطيط لطرق إبحار آمنة وحجز المراسي في الموانئ (قد يبلغ إيجار المرسى خلال أسبوع “جائزة موناكو الكبرى” [لسباق الفورميلاً وان]، قرابة 117 ألف يورو، أي ما يعادل الـ99 ألف جنيه استرليني تقريباً)، وتولي إدارة الطاقم وقيادته والتعامل مع كم هائل من المعاملات الورقية والإدارية، والإشراف على زيارات الكشف والصيانة.
فالمسألة ليست مجرد زيارة لمرآب خدمات وميكانيك محلي، وذاك يفسر السبب الذي يستدعي من الزوار خلع أحذيتهم عندما يعتلون متن اليخت كي يتم الحفاظ على خشب الساج النفيس الذي ينهض بمتن المركب.
وعلى عكس رموز المكانة الأخرى عند الأثرياء، كـ”السيارات الفاخرة” أو مجموعة الساعات الفخمة، لا يمكن للمرء أن يركن يخته الفاخر في مرسى وينساه هناك إلى أن يحين موعد إجازته الفخمة التالية. فاليخوت تحتاج إلى رعاية دائمة – وهو ما اكتشفت كلفته الحكومة الأميركية عندما صادرت اليخت “أماديا” Amadea، وهو يخت فاخر يبلغ طوله 106 أمتار ويملكه أوليغارشي روسي، إذ توجب عليهم دفع مبلغ 7 ملايين دولار (5 ملايين جنيه استرليني) سنوياً لصيانته.
ولهذا السبب تغدو اليخوت الفاخرة مشاريع شغف، وذلك بغض النظر إن كانت تستحق ذلك أم لا. لا يمتلكها أصحابها فحسب، بل إنهم يبذلون فيها كل ما في وسعهم. وهنا تبدأ الإثارة والمتعة.
وعلى رغم النقاط السوداء التي تلطخ سمعة القطاع بسبب “البهرجة والصنابير الذهبية”، فإن عدداً من أصحاب اليخوت، على العكس من ذلك، شديدو الابتكار في التعامل مع يخوتهم الفاخرة فيزودونها بأقسام وحجرات تحت المياه (لاستكشاف الحياة البحرية ومشاهدتها)، وحدائق داخلية وشلالات مياه وغرف ثلج وملاعب وقاعات سينما “آيماكس”… لا حدود للخيال.
الابتكار هو جوهر صناعة اليخوت الفاخرة وهو متوافق مع الحاجات. وهناك أصحاب يخوت يفضلون استخدام قوة الأشرعة على حساب المحركات، فيكونون بذلك على علاقة أقرب مع البحر. كما أن بعض المالكين يفضل مركباً يجوب العالم فيمكنه خوض البحار ورؤية هذا العالم.
“بايزيان” مثلاً بني كي يبحر إلى أماكن بعيدة، وقد أبحر مرات عديدة مع يخت شبيه هو “روزهارتي” Rosehearty (نسخة مطابقة تقريباً بنيت من قبل نفس المصنعين) في رحلات حول العالم، وبمختلف حالات الطقس، من دون أية عوائق.
ويطلب بعض المالكين بأن تبنى يخوتهم بهياكل قوية من فئة “كاسحة الجليد” كي يزوروا بها منطقة القطبين الجليديين. هذا النمط من اليخوت يعرف بـ”اليخوت الاستكشافية” وهي تتضمن مختبرات لضيوف علماء، وغواصات صغيرة وفتحات في متن القارب على طراز “جيمس بوند” تسمى “أحواض غوص” والتي تسمح للغواصات بالرسو داخل الهيكل، وما إلى ذلك.
لكن أحياناً لا يكون “اليخت الاستكشافي” كبيراً كفاية لاستيعاب كل ما يود المالكون المغامرون القيام به، فيأتي هنا دور المراكب الملحقة (يخوت ملحقة تستخدم لحمل الأجهزة والآليات المطلوبة، كالطائرات البحرية وسيارات الثلج وغيرهما). إذ لماذا الاكتفاء بيخت واحد عندما يكون المرء قادراً على تغطية نفقات يختين؟
يخت “كريستينا أو” بعد عملية ترميم وصيانة حديثة في صورة تعود لعام 2001
وفي الإطار عينه ثمة مالكون لديهم رؤى متطورة، فيخصصون أموالاً لأبحاث تهدف إلى التوصل إلى بدائل “خضراء” (بيئية) لتحل مكان محركات الديزل. “بروجيكت 821” Project 821 البالغ طوله 119 متراً هو أول يخت فاخر في العالم يعمل على الهيدروجين، وقد أفيد عن إبحاره للمرة الأولى خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي. أما “بروجيكت زيرو” Project Zero وهو يخت شراعي “خال من الوقود الأحفوري” والقادر على إنتاج الطاقة من الرياح والحرارة والشمس فسيبحر العام المقبل.
ويبقى هناك كثير من الافتراضات عن السبب الذي أدى إلى مأساة اليخت “بايزيان”. فاليخوت الفاخرة قد تتعرض للحوادث لكن بدلاً من أن تغرق بفعل عاصفة فإنها قد تتوه أو تتعرض لحريق (بطاريات الليثيوم تعد سبباً لحوادث الحريق في بعض الحالات). لكن في غالب الأحيان ونظراً إلى طول وقت يمر وتعقيدات التقارير التقنية، لا نعرف السبب الحقيقي أبداً.
المهمة الآن ملقاة على عاتق المحققين لاكتشاف السبب الذي أدى إلى غرق يخت كان يعد “عصياً على الغرق”. المعطيات الحقيقية أمامنا هي بناء “بايزيان” من قبل “بيريني نافي” Perini Navi الشركة المرموقة لبناء السفن، خصوصاً اليخوت الشراعية والمتمركزة في إيطاليا، البلد الذي يعد المركز الأهم في العالم لبناء السفن. وهناك يوماً بعد يوم يتباهى جيش من 30 ألف مهندس ومعماري ومصمم يعملون في أحواض بناء السفن واليخوت، بصنعتهم وحرفتهم التي لا يضاهيها أحد، ويستخدمون التكنولوجيا الهندسية البحرية المعقدة لتخطي حدود الممكن وإنتاج آيات هندسية مذهلة.
عالم اليخوت الفاخرة هذا قد يكون عالماً لن نكون أنا وأنتم جزءاً منه أبداً، لكن كما أظهرت مأساة “بايزيان”، فإنه يضم أكثر بكثير مما نفترض.