حرية ـ (15/9/2024)
إيلي ميور
قاست ألكساندرا ووكر خلال طفولتها أعواماً من التنكيل العاطفي على يد والدها حسب تعبيرها، ومع بلوغها الثلاثينيات من العمر وتفاقم إدمانه على الكحول أصبحت علاقتهما المتصدعة أساساً أصعب بعد. فقررت ألكساندرا قطع علاقتها به في فترة عيد الفصح خلال عام 2022. وبعد مرور عام أو أكثر من ذلك بقليل تلقت ألكساندرا اتصالاً من جيران والدها يخبرونها فيه بأنهم لم يشاهدوه منذ أسابيع عدة، وأن العشب نما كثيراً في حديقته وبريده متكدس. ثم وجدوه ميتاً داخل منزله بعد مرور شهر تقريباً على وفاته.
بعد ذلك اختبرت ألكساندرا طيفاً من المشاعر المختلفة وأحست بالذنب والخزي والحزن. وتقول لي “كان موضوع وفاة والدي مصدر توتر دائماً بالنسبة إليَّ لأنه قطع علاقته بكل الأشخاص في حياته تقريباً، وصدمني التعامل مع واقع وفاته وحيداً. شعرت بمزيج من الغضب تجاه الموضوع والعجز عن تصديق ما حصل ووقع عليَّ وقع الصدمة. ومن باب الصراحة التامة انتابني إحساس بالراحة كذلك لأنني لم أكن قادرة على رؤية أية خاتمة جيدة لوضعه [كنت أستبعد خاتمة جيدة]. عرفت بأن الأمور لن تتجه سوى نحو الأسوأ لأنه عزل نفسه”.
ليس في التعامل مع فقدان فرد من العائلة جمعتك به علاقة معقدة أية سهولة ولا بساطة. وهذا هو ما تمر به ماريا كاري على الأرجح بعد إعلانها عن وفاة والدتها باتريسيا وشقيقتها أليسون التي قطعت علاقتها بها في اليوم نفسه. ولم يُعرف سبب وفاتهما.
في كتاب مذكراتها الصادر عام 2020 بعنوان معنى (سيرة) ماريا كاري The Meaning of Mariah Carey وصفت المغنية وكاتبة الأغاني علاقتها بوالدتها، قائلة إنها تميزت بـ”الخيانة والجمال” و”الحب والهجران” وملأها مزيج من “الأنفة والألم والخزي والامتنان والغيرة والإعجاب وخيبة الأمل”. وتابعت بقولها “مثل جوانب متعددة في حياتي غصت رحلتي مع والدتي بالتناقضات والوقائع المتنافسة، ولم تكن أبداً واضحة ومباشرة بل مليئة بمشاعر متضاربة”.
ولفتت إلى أن معالجها النفسي نصحها بـ”إعادة تسمية وتحديد صورة” أسرتها وعلاقتها بها. وكتبت “أصبحت أمي بالنسبة إليَّ ‘بات’ Pat ومورغان شقيقي السابق وأليسون شقيقتي السابقة. كان عليَّ الكف عن توقع حصول معجزة تحولهم في يوم من الأيام إلى الأم والأخ الكبير والأخت الكبيرة، كما أردتهم في خيالي”.
وكتبت كاري أيضاً عن علاقتها المعقدة بشقيقتها أليسون قائلة إن شقيقتها كانت “مذهلة وغير سوية” ومرت بتجارب “عطبت طفولتها وعرقلتها”. وزعمت بأن شقيقتها “خدرتني بعقار فاليوم وقدمت لي كوكايين بحجم ظفر الخنصر وألحقت بي حروقاً من الدرجة الثالثة وحاولت أن تبيعني إلى قواد”. وبعد ذلك تقبلت أن قطع التواصل مع شقيقتها بدل مواصلة علاقتها معها يضمن لها “الأمان العاطفي والجسدي أكثر”.
قد يتظاهر أشخاص كثر بأنهم نسوا كل الأحداث السيئة التي وقعت. ويمكن لهذا التصرف أن يكون ضرباً من الإيهام والخداع، ويمكن أن يجعل البعض يشعرون بعزلة كبيرة.
سارة لي معالجة نفسية
عبرت جانيت مكوردي الممثلة التي بلغت النجومية في طفولتها عن حال الحزن المعقدة التي تكلمت عنها كاري في كتابها الذي حقق أفضل المبيعات “أنا سعيدة لوفاة أمي” والصادر خلال عام 2022. وتستعيد مكوردي في الكتاب علاقتها بوالدتها ديبرا التي تصفها بأنها كانت تسيء إليها وتقحم نفسها في كل جوانب حياتها لتسيطر عليها، بدءاً من صداقاتها ووصولاً إلى الشعر على جسمها. وارتاحت مكوردي عندما توفيت والدتها وانتهى معها فصل التنكيل في آخر المطاف، لكن ذلك لم يعن بأنها لم تشتق إليها أو تحزن على فراقها. وقالت مكوردي في حديث إلى صحيفة “غارديان” أثناء ترويجها للكتاب “تعاطيت بصورة معقدة جداً مع اشتياقي إليها، كنت أشتاق إليها ثم أشعر بالغضب لأنها لا تستحق شوقي إليها. وكانت (والدتي) تنكل بي فكيف ما زلت أحمل حباً لهذا الشخص؟ انتابني حزن مشوش جداً”.
للحزن طبقات متعددة. لكن إن أضفنا إليه سياق العلاقة المتصدعة – أو المؤذية – أحياناً تصبح التجربة أكثر إيلاماً بكثير من خسارة شخص تجمعك به علاقة طيبة. وتخبرني سارة لي المعالجة النفسية التي تعمل في المجلس البريطاني للعلاج النفسي مع أطفال ناجين من صدمات في مانشستر بأن تجربة فقدان فرد من العائلة ألحق بك الأذى في السابق، يمكن أن تشعر الشخص بعزلة. فعادة ما يطالبنا المجتمع بالحديث عن الموتى بطريقة واحدة فقط، أي إن نتكلم عنهم باحترام ووقار وحزن. أي لا يشجع على تناول مساوئ الشخص كما حسناته.
وأثناء حديثنا اقترحت “لي” عليَّ سيناريو افتراضياً حول شخص بالغ يحضر مراسم دفن أحد والديه الذي كان ينكل به، ويشاهد الاحتفاء بحياة الميت وتصويرها بصورة إيجابية. وتقول “ربما يشعر ذلك الشخص بحزن عميق في الجنازة لأن الجميع يتكلم عن روعة المتوفى، ثم يعود إلى منزله ويبدأ بالتفكير فيقول لنفسه مهلاً ‘ماذا عن الأوقات التي تركني فيها وحدي كي يخرج ويشرب الكحول؟ أو عندما قال لي إنه يكرهني؟ أو إن حياتي بلا معنى؟’ ثم يتملكه الغضب”. وتقول لي إن هذا مثال واحد على “التقلب بين حال وحال” الذي يصاحب هذه العملية من الحزن.
أعلنت ماريا كاري وفاة والدتها وشقيقتها اللتين كانت تجمعها بهما علاقة معقدة
وتضيف لي بأن هذه المشاعر قد يصاحبها جلد للذات أو كراهية للذات. وعلى رغم اختلاف أوجه الحداد والحزن غالباً ما تتبنى الجماعة اعتقاد “الاكتفاء بذكر محاسن الموتى” والابتعاد من هذه الأعراف قد يثير انتقاد البعض. وتقول لي “قد يغضب الإنسان لأنه لا ‘يحزن بالصورة المناسبة’، وكذلك لأنه يشعر بنظرة الآخرين وإطلاقهم الأحكام عليه”. وقد يحاول البعض تبرير أخطاء الميت أو تصويره بطريقة أكثر إيجابية، وهو ما قد يؤدي إلى شعور فرد (أو أفراد) العائلة الذين طالهم منه الأذى بعزلة إضافية”. وكما تشرح لي “في الأسر المتفككة نظام نكران ضخم. قد يتظاهر أشخاص كثر بأنهم نسوا كل الأحداث السيئة التي وقعت. يمكن لهذا التصرف أن يكون ضرباً من الإيهام والخداع. ويمكن أن يجعل البعض يشعرون بعزلة كبيرة”.
وفي حال ألكساندرا لم يرد والدها إقامة جنازة لذلك لم تضطر بعد وفاته لحضور أي حدث يشارك فيه أشخاص عرفوه. لكن منذ ذلك الوقت تهتم بالتكلم عن تجربتها. وقد تركت عملها في إحدى الشركات لتتخصص مجدداً في مجال التدريب على إدارة الحياة وهي تساعد الآن آخرين يمرون بتجارب صادمة. ومع ذلك شعرت بأن ما يتوقعه منها الآخرون يقضي بعدم التحدث عن عيوب والدها صراحة. وحسب شرحها “عادة ما يعاني الأفراد مع الحزن. لكن من أعرفهم أنا، أي أصدقائي وعائلتي عانوا أكثر من الاعتيادي. بعض أفراد العائلة والأصدقاء كانوا مذهلين فعلاً وجلسوا معي (وأصغوا إلي). ولا ألوم من لم يقدر على ذلك. لكن ذلك أشعرني بوحدة أكبر لأن كثيرين لم يتمكنوا من التعاطي مع تلك المسألة بسبب صعوبتها. وأعتقد أنهم يخضعون للضغط لكي يتخطوا الموضوع دون أن يفتحوه بعد ذلك”.
وتقول ألكساندرا إنها تؤمن ببر الوالدين لكنها تدرك في الوقت ذاته وجود حالات “يعي فيها المرء وقوع أذى. وإن لم ننشر الوعي حول التنكيل العاطفي لن يفهم الآخرون مدى ضرره، لكنني أعتقد أن البعض لا يزال يقول “هذه ليست سوى إساءة عاطفية وليست أمراً جللاً يعتد به”. إنما لو نظرتم إلى الدلائل سترون أنها تخلف تبعات عاطفية وجسدية على الأفراد”. وتضيف بأنها عانت في بداية شبابها من مجموعة مشكلات نفسية منها الوسواس القهري والقلق والأرق المزمن وهي ترى الآن أنها مرتبطة باضطرارها أن تبقى متيقظة دائماً بجوار والدها والتنبه لتقلبات مزاجه وغضبه في طفولتها.
هناك حكمة تذهب إلى أن الحزن “يأتي على دفعات”. وفي حال ألكساندرا حزنت على علاقتها بأبيها عندما انقطعت العلاقة بينهما عام 2022. لكن وفاته أثارت عواطفها مرة جديدة. وتسمي لي هاتين التجربتين “الحداد الأول والثاني” وهي حال تنطبق عادة على وفاة أفراد العائلة الذين بينك وبينهم قطيعة. وعندما يقطع شخصان العلاقة بينهما قد يصلان إلى مرحلة من تقبل الوضع. لكن عندما يتوفى الشخص الآخر يصبح الوضع مقيداً أكثر. وتفسر لي بأنه “في بعض الحالات حتى بعد حداد كبير في المرحلة الأولى تثير الوفاة مشاعر الحداد مرة ثانية. إذ لا يعود بإمكانك بعد وفاة الشخص أن تعقد الآمال على أن يستيقظ ذات يوم ويندم على طريقة معاملته للآخرين”. ويتخذ الحداد للمرة الثانية صورة “تقبل عدم عودته [رحيله]”.
وتضيف لي أنه عادة ما يجري إسقاط مشاعر الخزي على الأشخاص الذين يقرون بشعورهم بالارتياح بعد وفاة أحدهم. ثم تخبرني بأن “البعض يقول لي ‘أشعر بسوء شديد لكنني لست آسفاً على رحيلهم’ أو ‘لا أعتقد بأنني سأشعر بالحزن عند وفاتهم’. ثم يسألونني ‘هل يجعلني ذلك شخصاً سيئاً جداً؟’ وأجيب بـ’لا لأن علاقتك مع هذا الشخص كانت رهيبة. ومن المنطقي جداً في الحقيقة أن تنتابك هذه المشاعر’. من الصعب أن يعترف الشخص بهذه الأمور لكن تمكنه من التعبير عنها يحرره كثيراً أيضاً [من عبئها]”.
وتنوه بأن هذه المشاعر لا تجعل من الإنسان شخصاً شريراً. ولا تمحي امتنانه للأشياء الجيدة في تلك العلاقة. وتنهي بقولها “لا بأس بمشاعرك مهما كانت، وأنت لست شخصاً سيئاً بسببها”.