حرية ـ (17/9/2024)
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة ومصطلح “جرائم الحرب” يتردد في نشرات الأخبار، فما دلالات هذا المصطلح؟ وما الفرق بين الجريمة العادية وجريمة الحرب؟
تطوَّر استخدام “جرائم الحرب” باستمرار، لاسيما منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في العام 1918. ويكمن جوهر مفهوم “جرائم الحرب” في فكرة أنه يمكن تحميل الأفراد المسؤولية الجنائية عن أفعال الدولة أو جنودها عند انخراطها في حرب مع دولة أخرى.
وتعد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من أخطر الجرائم في القانون الدولي. وهي خطيرة لدرجة أنه لا توجد فترة تقادم لمثل هذه الجرائم، ما يعني أنه يمكن محاكمة ومعاقبة مرتكبيها بغض النظر عن الوقت المنقضي على ارتكابها.
تطوّر فكرة “جرائم الحرب” عبر التاريخ
كانت أول محاولة منهجية لتعريف مجموعة واسعة من جرائم الحرب هي قائمة بالتعليمات الموجهة إلى حكومات الجيوش المشاركة في الحرب العالمية الثانية منذ العام 1939 وحتى 1945.
ومع ذلك بدأت فكرة تحديد عدد من “جرائم حرب” غير المسموح بممارستها خلال النزاع، في صورة سلسلة من القوانين الأخلاقية التي فرضت بين الجيوش المتحاربة خلال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1863.
وعُرفت تلك القوانين التي سنها حينها الرئيس أبراهام لينكولن باسم “قانون ليبر”، نسبة إلى الفيلسوف والفقيه السياسي الأمريكي فرانز ليبر، الذي وضع كتاباً بعنوان “قوانين الحرب”، واستُخدم لاحقاً كأساس للاتفاقيات الدولية بشأن إدارة الحرب في أرض المعركة، وفقاً للموسوعة البريطانية.
واعتبر “قانون ليبر” مثلاً أن “إرغام رعايا العدو على العمل وخدمة الحكومة المنتصرة يعد انتهاكاً خطيراً لقوانين الحرب”، كما حدد القانون “حظر العنف الوحشي المرتكب ضد الأشخاص في الدولة التي تم غزوها”، بما في ذلك الاغتصاب والتشويه والقتل. على أن يكون جزاء كل من تلك الجرائم هو الإعدام.
وفي الآونة الأخيرة تم تقنين تعريفات جرائم الحرب في القوانين الدولية وإعادة تعريفها، ومثال ذلك قائمة “جرائم الحرب” التي أقرتها المحكمة الجنائية الدولية ومحاكم جرائم الحرب في يوغوسلافيا ورواندا، لاستخدامها في محاكم جرائم الحرب الدولية.
وعلى عكس التعريفات السابقة، فإن التعريفات الحديثة أكثر توسعية، وهي تجرّم بعض السلوكيات التي يرتكبها المدنيون والأفراد العسكريون على حدٍّ سواء.
تأثير الحرب العالمية الأولى في تطور الفكرة
بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة شكلت قوى الحلفاء المنتصرة (بريطانيا وفرنسا وروسيا) لجنة خاصة معنية بمحاسبة مسؤولي الحرب وإنفاذ العقوبات. وأوصى تقرير اللجنة في العام 1918 بإجراء محاكمات جرائم الحرب أمام المحاكم الوطنية التابعة للدول المنتصرة، أو أمام محكمة مشتركة بين الحلفاء عند الحاجة.
وقد أعد الحلفاء قائمة أولية بحوالي 900 مجرم حرب مشتبه بهم وقدموا القائمة إلى ألمانيا في ذلك الوقت.
ورغم أن رؤساء الدول كانوا يتمتعون تقليدياً بالحصانة من الملاحقة القضائية، كان الهدف الرئيسي للجنة هو إمبراطور ألمانيا ويليام الثاني، الذي كان معظم دول الحلفاء -بخلاف الولايات المتحدة- يرغبون في تحميلهم المسؤولية عن انتهاكات عديدة لقوانين الحرب.
ومع ذلك، لجأ ويليام إلى هولندا، التي رفضت تسليمه للقضاء، ولم تتم محاكمته قط.
وقد نجح معظم مجرمي الحرب المشتبه بهم المتبقين في القائمة بالمثل في تجنب الملاحقة القضائية، وذلك لأن ألمانيا كانت مترددة في تسليمهم إلى الحلفاء بحسب الموسوعة البريطانية.
“جرائم الحرب” بعد الحرب العالمية الثانية
قبل الحرب العالمية الثانية كان من المقبول عموماً ارتكاب الأهوال في الحرب، إذ كانت جزءاً من طبيعة النزاع، وتعود الأمثلة المسجلة لجرائم الحرب إلى العصر اليوناني والروماني.
إلا أن المحاولة الرئيسية لمحاكمة مجرمي الحرب حدثت في أوروبا وآسيا بعد الحرب العالمية الثانية. وطوال الحرب استشهدت دول الحلفاء بالفظائع التي ارتكبها النظام النازي لأدولف هتلر، وأعلنوا عزمهم على معاقبة المذنبين بارتكاب “جرائم حرب”.
وفي ختام الحرب، وقع ممثلو أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي والحكومة المؤقتة لفرنسا اتفاقية لندن، التي نصت على تأسيس محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي حرب دول المحور الرئيسيين، الذين لم تقع جرائمهم في مواقع جغرافية محددة.
ووفقاً للموسوعة البريطانية، فقد تم دعم هذه الاتفاقية من قبل 19 حكومة أخرى وتضمنت “ميثاق نورمبرغ”، الذي أنشأ محكمة في مدينة نورمبرغ الألمانية، وصنف الجرائم ضمن اختصاصها.
وقد أدرج الميثاق ثلاث فئات من الجرائم، هي:
1- الجرائم ضد السلام: والتي تضمنت التحضير والشروع في حرب عدوانية.
2- جرائم الحرب: والتي تضمنت القتل وسوء المعاملة والترحيل.
3- الجرائم ضد الإنسانية: والتي تضمنت الاضطهاد السياسي والعرقي والديني للمدنيين. وتضمنت هذه الفئة الأخيرة ما يسمى بالإبادة الجماعية.
مصطلح “الإبادة الجماعية”
صاغ الباحث القانوني البولندي- الأمريكي رافائيل ليمكين مصطلح “الإبادة الجماعية”، وظهر لأول مرة في العام 1944 في مطبوعة كتبها بعنوان “قاعدة المحور في أوروبا المحتلة: قوانين الاحتلال وتحليل الحكومة ومقترحات الإنصاف”.
وقد عرّفت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948، الإبادة الجماعية بأنها تشمل: القتل أو إلحاق إصابات جسدية أو عقلية خطيرة بأفراد جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، وذلك بقصد تدمير الجماعة كلياً أو جزئياً.
كما جعلت الاتفاقية “الإبادة الجماعية” جريمة دولية يمكن مقاضاتها في محكمة أي دولة.
ماذا عن “عدالة المُنتصر”؟
لطالما رفض النقّاد محاكمات “جرائم الحرب” باعتبارها “عدالة المنتصر”، لأنه يتم فيها على الأغلب مقاضاة الأفراد المتورطين في الحرب من طرف الدول المهزومة فقط.
وقبل القرن العشرين، كانت الجيوش تتصرف بوحشية مع جنود العدو وغير المقاتلين على حد سواء، ودائماً ما انحصرت فكرة إنزال العقوبة على من فاز بالحرب في نهاية المطاف.
ووفقاً لموقع BBC، نادراً ما تحاول دولة منتصرة محاكمة أفراد شعبها لارتكاب جرائم حرب، ونتيجة لذلك كانت تبدو محاكمات جرائم الحرب مثل محاكمات انتقامية.
لكن هذا ليس هو الحال دائماً، فقد حوكم العديد من الأمريكيين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في نزاع فيتنام على سبيل المثال.
تعريف “جرائم الحرب” اليوم
تبنت هيئة الأمم المتحدة -بموجب قرار الجمعية العامة 1946- مبادئ محكمة نورمبرغ الألمانية، ووسعت المحكمتان الدوليتان الخاصتان بيوغسلافيا ورواندا (1993-1994) من مفهوم تلك الجرائم لتشمل “انتهاكات جسيمة” أخرى لاتفاقيات جنيف الأربع.
وفي العام 1998 في روما، حاولت حوالي 150 دولة إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة. أسفرت المفاوضات في نهاية المطاف عن اعتماد 120 دولة لقانون أساسي لمحكمة جنائية دولية (ICC) يكون مقرها بشكل دائم في مدينة لاهاي غرب هولندا.
وبحسب الموسوعة البريطانية، يمتلك النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الولاية القضائية للمحاسبة على جرائم العدوان والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
ودخلت المحكمة الجنائية الدولية إلى حيز الوجود، في 1 يوليو/تموز 2002، وبحلول عام 2016 تم التصديق على قوانينها من قبل حوالي 120 دولة؛ لكن ثلاثة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي الصين وروسيا والولايات المتحدة، لم يوافقوا عليها بعد حتى يومنا هذا.
ويتم اليوم تعريف جرائم الحرب من خلال اتفاقيات جنيف، ومحاكم نورمبرغ التي بات يشار إليها كمصدر لقوانين وأعراف الحروب، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (ICC).
وتنقسم جرائم الحرب إلى ثلاث مجموعات، أو أربع مجموعات إذا أدرجت الإبادة الجماعية:
1- الجرائم ضد السلام
وتكون بالتخطيط أو التحضير أو الشروع في أو شن حرب عدوانية أو حرب تنتهك المعاهدات أو الاتفاقات المتبادلة أو الضمانات الدولية بين طرفين. وكذلك المشاركة في خطة مشتركة أو مؤامرة لتحقيق أي مما سبق ذكره وفقاً لـBBC.
2- “جرائم الحرب” والجرائم ضد الإنسانية
وهي ارتكاب أي انتهاكات لقوانين أو أعراف الحرب ومواثيق حماية الإنسان وحفظ حقوقه المتعارف عليها دولياً بموجب اتفاقية جنيف، وتشمل:
- اقتراف الفظائع أو الجرائم ضد الأشخاص أو الممتلكات، والتي تشكل انتهاكات لقوانين وأعراف الحروب.
- القتل العمد أو سوء المعاملة أو الإجبار على العمل بالسخرة والمحاربة ضمن صفوف الدولة المعتدية بالإجبار، أو ارتكاب أي تجاوز آخر يتعلق بالسكان المدنيين في الأراضي التي يُشن عليها التحرك العسكري المعتدي.
- قتل أو سوء معاملة أسرى الحرب.
- أخذ أو قتل الرهائن.
- قيام دولة الاحتلال أو الدولة المعتدية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها.
- إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو شرائح معينة منهم داخل هذه الأرض أو خارجها.
- التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك إجراء التجارب البيولوجية.
- نهب الممتلكات العامة أو الخاصة.
- التدمير والتخريب المتعمد للمدن والبلدات والقرى.
- ارتكاب أعمال تدميرية في المنشآت لا تبررها ضرورة عسكرية.
- تعمّد توجيه هجمات إلى المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية والآثار التاريخية، والمستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى.
- استخدام السموم أو الأسلحة الكيميائية.
- استخدام الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات، وجميع ما في حكمها من السوائل أو المواد أو الأجهزة.
- استخدام الرصاصات التي تتمدد أو تتسطح بسهولة في الجسم البشري، مثل الرصاصات ذات الأغلفة الصلبة التي لا تغطي كامل جسم الرصاصة، أو الرصاصات المحززة الغلاف أو الرصاصات المتفجّرة.
- استخدام أسلحة أو قذائف أو مواد أو أساليب حربية تسبب بطبيعتها أضراراً زائدة أو آلاماً متعمدة أو عشوائية.
- الاعتداء على كرامة الشخص وبخاصة المعاملة المهينة والمضرة بالكرامة.
- تجويع المدنيين كسلاح حرب بحرمانهم من مواد المعيشة الأساسية، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف التي تقرها المواثيق الدولية.
- تجنيد الأطفال دون الـ15 من العمر إلزامياً أو طوعياً في القوات المسلحة، أو استخدامهم للمشاركة فعلياً في الأعمال الحربية.
وكذلك الفظائع والجرائم التي يتم ارتكابها ضد السكان المدنيين، قبل الحرب أو خلالها، بما في ذلك: القتل، الإبادة، الاستعباد، الإبعاد والإجلاء، الاغتصاب الجماعي المنهجي والاستعباد الجنسي في وقت الحرب وأي عمل غير إنساني آخر، بحسب الجزيرة.
بالإضافة إلى اضطهاد ومحاكمة مواطني الدولة المحتلة أو التي يُشن عليها الحرب على أساس سياسي أو عرقي أو ديني، سواء كان ذلك وفقاً للقانون المحلي للبلد الذي ارتكبت فيه أم لا.
المسؤولية عن مثل هذه الجرائم
ووفقاً لموقع BBC، تقر المواثيق الدولية أن مسؤولية ارتكاب “جرائم الحرب” تقع بشكل مباشر على القادة والمنظمين والمحرضين والمتواطئين الذين شاركوا في تخطيط ووضع وتنفيذ الجرائم المذكورة أعلاه. ويتم تحميلهم المسؤولية الجنائية الكاملة عن كل ما يفعله أي شخص أياً كان منصبه في تنفيذ مثل هذه الخطط.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى حقيقة أن شخصاً ما كان يطيع أمراً صادراً عن حكومته أو رؤسائه لا تعفيه من المسؤولية، ولكن قد يتم اعتبارها عند إقرار الحكم، وقد تخفف العقوبة الصادرة بحق الشخص الجاني.