حرية ـ (21/9/2024)
حسام السراي
ربما تكون السوق العراقية والمشاريع التجارية الجديدة فيها تعبيراً عن حالة التجريب العامة التي تمر بها بلاد الرافدين، ويشوبها شيء من الارتجال والفوضى والرغبة في التميز. أي تميز أحياناً حتى لو كان غريباً أو مستهجناً، لكن المهم هو اختيار اسم أو تصميم لوغو مثيراً للجدل لا يخلو من جذب العملاء.
قبل فترة طرحت شركة تسويق إعلاناً في الشارع للترويج لنوع من الرز، استخدمت فيه شكل “قدر” مستعمل حرقته نيران الطهي كثيراً مع عبارة جاذبة وظفت فيها اسم واحدة من أهم الأكلات العراقية، كان هذا الإعلان ناجحاً بمقاييس التجديد ومخاطبة المستهلك بذكاء مع عدم الانجرار لإثارة مفرغة من المضمون.
في وقت تصح فيه الإشارة إلى حال من التطور لدى القطاع الخاص العراقي، سواء على مستوى إطلاق مشاريع فردية أم شركات جديدة تفكر بأبعاد جمالية لها صلة بثقافة المجتمع والارتقاء بذوقه والانطلاق من أرضية حرة في طرح الأفكار والمنتجات، أطلق بعض الشباب مشاريعهم باستحضار تسميات لها علاقة بالذاكرة العراقية، مثل “شاي التسعينيات” وهو استعادة لدلالة تتعلق بالحصار الاقتصادي تسعينيات القرن الـ20 وما أصاب الحياة وقتها من تراجع وضنك استهدف جودة المنتجات وبضمنها الشاي الذي قاوم مستهلكوه ما حل بالبلاد حينها، كي يبقى بذات الطعم الذي عرف به، وليس “شاي الحصة” الذي كانت توزعه الدولة أيامها.
أسماء كثيرة لجامعات ومطاعم ومقاه ومراكز تجميل وبراندات جديدة، استحضرت بعداً حضارياً، كما في (أنكيدو وسومر وآشور وجلجامش واينانا وشبعاد) – وهي أسماء حضارات – وأخرى استحضرت بعداً تراثياً من قاموس اللهجة البغدادية، مثل (رازونة وجكمجة ودربونة وجراوية)، وهي أسماء متداولة منذ عقود لدى البغداديين. إلا أن الحالة الارتجالية في بعض تسميات المشاريع موجودة على غرار “لغم برغر”، أو مطعم آخر يقدم عروضاً “نار” وغيره يتسمى بأسماء مثل “حرامي” و”جريمة”.
لجنة الذوق العام
رسمياً تعد غرفة التجارة في كل محافظة ودائرة هي الجهة المعنية بتسجيل ومنح الشركات والمشاريع رخص الأسماء، وهنا يقول المدير العام لدائرة العلاقات والإعلام في أمانة بغداد محمد الربيعي في حديثه لـ”اندبندنت عربية” إن “هناك جهات متخصصة في تسمية الماركة التجارية أو الاسم التجاري لأي مشروع، ومن بينها المطاعم التي تتضمن موافقاتها إجازة رسمية من وزارة الصحة في ما يتعلق بالجانب الفني، أما الجانب التجاري فتصرح به وزارة التجارة (دائرة تسجيل الشركات)، وغرفة التجارة لحجز الاسم”، وأضاف “غرفة التجارة بدورها لديها معايير محددة لتحديد الأسماء، كأن لا يكون الاسم بالإنجليزية أو اسم وطني (الرافدين، العراق، بلاد السلام) وما يرتبط بالأفق المحلي”.
انعكست حالة العنف التي مر بها العراق على أسماء الوجبات والمطاعم
ويؤكد الربيعي أن “أمانة بغداد ليس لديها صلاحيات لتحديد الاسم أو التدخل فيه، دورها ينحصر في إعطاء موافقة بناء وفق التخطيط الحضري ودائرة التصاميم تعطي هذه الموافقة بما يخص التصميم”، وتابع “وعلى مستوى لجنة الذوق العام في أمانة بغداد، فإننا نستطيع أن نعترض إذا كانت أسماء المشاريع تخدش الذوق العام وفيها عبارات مثل حرامي وغيره، وسنسعى إلى إطلاق لجنة مشتركة لتثبيت الأسماء وللحد من الأسماء التي ليس فيها بعد تراثي أو ما يرتبط بالهوية البغدادية”.
العراق بعد الغزو
من المؤكد أن مظاهر العنف التي مرت بها الحالة العراقية قبل أبريل (نيسان) 2003 وما بعدها، خلفت آثاراً تبرز إلى السطح بوجوه متعددة، ومنها ميل بعض أصحاب المشاريع التجارية إلى توظيف عبارات غريبة وصادمة تحمل طابعاً عنيفاً، وجعلها اسماً لتجربته الجديدة وفي ذلك أبعاد نفسية منظورة، منها الرغبة العارمة لدى فئات مختلفة في الالتحاق بالتريند العام وحجز موضع قدم فيه.
وفي إطار تحليل أسماء الماركات والمطاعم التي تتضمن دلائل عنف، وجدت فيها أستاذ علم النفس المساعد الدكتورة أثمار شاكر الشطري، “محاولات لجذب الانتباه وإثارة فضول نحو التجربة، إضافة إلى أن استخدام العبارات أو الكلمات التي فيها نوع من القساوة متداولة عند العراقيين منذ فترات طويلة مثل التعبير الدارج عن المحبة (أموت على فلان)”.
الشطري توقفت عند ظهور كلمات “لغم وجريمة” في السوق، معتبرة أن “هذه الكلمات أصبحت متداولة بفعل عدم الاستقرار الأمني الذي عاناه المجتمع العراقي لسنوات”، لكنها تعتقد أن هذه الكلمات بدأت تفقد جاذبيتها وإثارة اهتمام الناس، بفعل تغير المزاج والاستعداد النفسي للمواطن العراقي وبشكل ملحوظ، إذ نلاحظ أن الأسماء التي تعبر عن الفرح والراحة والبراندات مثلاً وأماكن السياحة هي من أخذت حيز اهتمام أكبر”.
أما بخصوص التوجه الآخر وهو التسميات التي تدل على التراث والإرث البغدادي، فإن الشطري تراها “دارجة أكثر اليوم حتى في الاهتمامات الأخرى لدى المواطن العراقي، كون مكانة الإرث في نفس المواطن متأصلة والاستقرار الأمني والتوجه الحكومي نحو الجانب الخدمي في شأنه تعزيز ذلك وبتزايد”.
الغرابة أولاً
دخول الأسماء غير العراقية وحتى العربية في السوق المحلية، أعطى زخماً للتنافس في سياق معنى الاسم ومقدار جاذبيته وقدرته على إحداث التأثير الأولي في نفس الزبون العراقي، بخاصة في ظل الوجود السوري الذي سجل نجاحه في سوق العمل، وأدخل ذوقه ولمساته وأسماءه إلى الميدان المحلي في بغداد والبصرة والموصل وأربيل ومدن غيرها، مع وجود لبناني ومصري وخليجي أقل، إذ الأسماء تتجاور مثل (الدمشقي، عروس دمشق، لبيروت، دياي أمي).
لذا كان التجريب العراقي في طرح الأسماء عالياً ومتعدداً، وبالقدر الذي جعل من اختيار الاسم مقياساً لمستوى الفكرة والتوظيف الفني لشكله المكتوب على مستوى رسم حروفه وطريقة صياغتها في لافتة المشروع الرئيسة.
“يبدو أن من يلجأ لهذه العناوين مهتم بشكل أساس بالغرابة في الطرح، متناسياً الذائقة الجمعية لعامة الناس، وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة تأكيد الاهتمام بالمفردات والعناوين التي ترسخ هويتنا الحضارية”، هكذا ينظر الخطاط وأستاذ التصميم في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد الدكتور أكرم جرجيس لأسماء بعض المطاعم والمشاريع الجديدة.
جرجيس اعتبر أن “تلك التوظيفات التجارية لا تمت إلى جماليات اللغة بأي شكل من الأشكال، فضلاً عن أنها تسهم وبشكل كبير في تردي الذائقة العامة عند معظم المتلقين والمشاهدين”. أما أسباب عدم استخدام جماليات الخط العربي في أسماء ما يطلق من مشاريع، فإنه يعود على حد تعبيره لـ”تجاهل المؤسسة التربوية منذ البدايات لهذا الفن العريق الذي يمثل هويتنا الحضارية والثقافية”.
“خالة جريمة” ترحب بكم
أساليب عدة ومتناقضة في طرح المشاريع التجارية، تبعه تغير في وسائل الترويج لها، ومن هذه الملامح المستحدثة نلمس ثلاثة توجهات، قسم يميل إلى استحضار رموز وعلامات تراثية وثقافية ومدنية، وقسم يفكر في التريند وإحداث المفارقة لدى الزبون باختيار أسماء لا تخلو من الطابع العنيف أو المستغرب، في حين يميل آخرون إلى طرح أسماء غير عراقية (أجنبية بالدرجة الأساس)، في مسعى إلى مواكبة ولفت أنظار شبان وعائلات يبحثون عن طابع عصري فيه شيء من التلاقي مع العالم الآخر.
“خالة جريمة”، وهو اسم لمطعم جديد افتتح قبل أشهر في العراق، أحد الأمثلة التي تختصر ما يحصل من رغبة في الانتشار، من دون التوقف عند الذائقة والأبعاد الجمالية المطلوبة في التسمية التجارية.
اعتمدت أسماء في اختياراسم مطعمها على إثارة فضول العراقيين -=حصاحبة المطعم نفسها تقر بأن “اسم المطعم غريب جداً”، لكنها أرادت إثارة فضول العراقيين. وتقول “سألني كثير من المواطنين، هل اسمك جريمة؟ بينما أنا سميت المطعم (جريمة أكل)، ولذلك أطلب أحياناً من بعض الزبائن قراءة الاسم المثبت على واجهة مشروعي، وبمرور الأيام أخذوا ينادونني (خالة جريمة)، وصراحة أحببت الاسم على رغم أن بعضاً منهم تحسس منه وعده غير جميل، جماعة الدايت يكسرون الريجيم عندي”.
الاسم الحقيقي لخالة جريمة هو أسماء وهي من محافظة السليمانية، تبرر أسباب إطلاق جريمتها في بغداد، بأن “كثيراً من المطاعم صارت تطلق أسماء متداولة ومكررة، بينما ما أطلقته هو شيء مميز وغريب والدليل تفاعل الناس معي ونجاحها خلال ثلاثة أشهر بوصفها “الخالة جريمة” دليل على جاذبية الاسم.
اتجاهات الانطباع الأول
الباحث الاقتصادي الدكتور ميثم لعيبي يركز في رؤيته على أنه “ليس بالضرورة أن يحمل الاسم معنى قيمياً أو أخلاقياً بقدر ما يجب أن يكون سهلاً على التذكر وأن يعلق بالذاكرة، وممكن أن يثير عاطفة معينة أو حنيناً للماضي”.
الاسم الذي ينعته لعيبي بـ”الانطباع الأول” لدى الزبون، يفصل اتجاهاته ما قبل 2003 وما بعدها إلى مستويات عدة، وهي المرتبط بأكلات معينة (كبة السراي، باجه الحاتي، بيتزا، كاهي وقيمر) المستوحاة من أدوات الطبخ ذاتها، ثم تلك المرتبطة بشخصيات اشتهرت بالطبخ وإعداد وجبات معينة مثل (برغر أبو يونان، ابن سمينة، قاسم أبو الكص، الشيف محمد سوادي)، أو المرتبطة بحدث أو مسلسل أو شخصية من الحكايات التاريخية (مناوي باشا، شهريار، السندباد). وهناك ما يأتي بأسماء مناطق وأكلات دول عربية (المطعم السوري، المندي اليمني، المطبخ الخليجي، المطعم الهندي، البيت اللبناني، النابلسي).
أسماء أخرى تحمل معان غريبة (دلع كرشك، وديناميت، ولغم، وعلماشي) وهذه أسماء بعضها يعد مسلياً وخفيفاً، وقسم غير محبذ لدى فئات معينة، وقد ينصح المتخصصون بالابتعاد عنها.
وأخيراً اتجاه جديد ينوه عنه لعيبي بالميل إلى أسماء أجنبية، مثل (كلاسيك، لافينتو، جيلي هاوس، فاير، كريل، جيكن)، و”هذه عادة ترتبط بماركات عالمية لها جمهور واسع يحب الأكلات السريعة في الغالب”.