حرية ـ (21/9/2024)
في الذاكرة وتحت قناع كل شخص مهما علا شأنه صندوق أسود، فيه أسراره الصغيرة والكبيرة، وما يخجل أحياناً من البوح به، وقد يحتوي على أنواع من العقاب تعرض لها في فترات مختلفة من حياة أدارها الأهل أو التربويون أو الأشقاء أو الأقرباء، منها ما أصبح مدعاة للسخرية والدعابة ومنها ما ترك ندوبه في الأرواح وربما في الأجساد.
الحزام الجلدي، وملعقة الخشب، والحذاء، والخيزران، والمسطرة، والفلفل الحار، والدبابيس والإبر واللائحة تطول، تبدو بالنسبة إلى بعض الأطفال لها أدوار أخرى، فهي في ذاكرتهم أدوات تأديب.
لم أضرب كما ضربت
القصاص والعقاب كلمتان لهما وقع كبير قلوب الجميع فكيف إذا كان جمهورهما الأطفال؟ يتذكر فريد كيف كانت والدته تعاقبه في طفولته باستخدام الفلفل الحار وتضعه على لسانه وشفاهه، فيبدأ بالقفز عالياً من شدة الألم، كما يذكر أنه نال حصة لا بأس بها من حرق الأصابع، هذا عدا حزام والده الجلدي الذي وجد طريقه إلى جسده قبل أن يبلغ الـ 10 من عمره،
يقول فريد ضاحكاً “لم يبق أحد من العائلة ولم تبتل يده بي، الكل أراد تربيتي وترويضي، ولكل منهم وجهة نظر، ولكل منهم أداته الخاصة، من صفعات عمي إلى قصاص خالتي وحرماني من المثلجات والشوكولاتة إلى محاضرات عماتي وتأنيبهن على كل كبيرة وصغيرة بخاصة أنني كنت الابن الأول لأهلي وهم يعيشون مع بيت جدي، جدتي كانت الوحيدة التي كنت أكن لها الحب في صغري، كانت حنونة وتحاول قدر الإمكان أن تجنبني الضرب والقصاص بأنواعه، حتى إنها كانت تضع الزيت على شفتي بعد أن تعاقبني أمي بالفلفل، ولطالما وقفت أمام سوط أبي ورجته أن يكون رحيماً معي”.
العقاب قد يترك آثاراً نفسية مدى الحياة على الطفل
ويروي، “لم أضرب أولادي يوماً حتى إنني أتفادى استخدام الصوت العالي، الأسلوب الوحيد الذي استخدمه معهم هو الحوار، وفي مرات قليلة جداً أحرمهم من شيء يحبونه قد يكون الحلوى أو المصروف أو الإنترنت وأطلب منهم التفكير بما فعلوه في وقت الحرمان حتى يفهموا خطأهم، مرة واحدة ضربت والدتي ابنتي فظهرت علي كل أشباح العنف التي عشتها، وطلبت من الجميع عدم التدخل في تربية أولادي ومن لديه ملاحظة فليقلها لي وليس لهم، في الواقع لم أكره أهلي لكني أعرف إنني خفت منهم، ولم أعتبرهم جهة الأمان في حياتي، أماني الوحيد كان جدتي وعندما توفيت خسرته وبات علي وحدي مواجهة أهلي، ولم أستطع، لذا في طريق التعافي من ذلك الماضي فعلت عكس ما فعل أهلي تماماً،،، اليوم قلما أجد أحداً من أصدقائي يستخدم استراتيجيات أهلنا القديمة في العقاب ربما لأننا جيل عايش ذلك الظلم فأبى أن يستخدمه”.
عالقة في دوامة العقاب
تخبر سارة عن العنف الكبير الذي تعرضت له بسبب قلة الدرس ووضع المكياج والخروج عن طاعة أهلها في أمور بسيطة كعدم جلي الصحون أو تنظيف البيت، أو حتى عندما ضبطت وهي تقرأ كتاباً لنوال السعداوي، إذ حرق والدها الكتاب ووضع بعض رماده في فمها معتبراً أنها تفسد أخلاقها، وتقول “لم يذهب هذا العنف من جهازي العصبي ولا تفكيري حتى أنني أحياناً أضرب أولادي بالطريقة نفسها أو بأقل قليلاً، ثم انتبه أنني أنتقم من أهلي بأولادي فأتوقف وأبكي، بالطبع لا أضرب أولادي بسبب أي قراءة أحاول أحياناً أن استنفذ جميع الطرق قبل أن يصل الموضوع إلى الضرب، وقال لي زوجي مرة إنه علي أن أنفس عن غضبي عند معالج نفسي وليس على الأولاد، فهو هادئ جداً وقادر على حل كل المشكلات من دون أي عقاب قاس، ويقضي وقتاً طويلاً يتحاور مع الأولاد، وهم بالطبع يحبونه أكثر مني، ولم يترك لي أهلي أي موقف لأحبهم، حتى أنهم قاطعوني بسبب زواجي، كل ما علي فعلاً أن أجنب أولادي ما عشته لكنني ما زلت أجد صعوبة في تحقيق ذلك”.
من جهتها تستذكر تهاني عقاب الأهل لها ولإخوتها، من التأنيب أو الحبس في غرفة أو المقاطعة أو الصراخ، وتقول إنه أصبح لديها رد فعل من الصراخ على رغم أنها تصرخ على أولادها لكن ليس كما كان أهلها يفعلون، كما تحبس أولادها لوقت معين وتحرمهم من شيء يحبونه لفترة معينة، وأحياناً تقاطعهم لكن لوقت قصير، وتقول “ربما استخدم طريقة أهل مخففة”.
الخوف من الغضب
أما آلاء فهي ضد العقاب بالإجمال، وتقول “لم أتبع نظاماً معيناً وقمت بجهدي لجعل غضبي كاف لجعل ولدي يشعران بالعقاب، فهما يحزنان فعلاً لحزني، وأحرص أن أذكرهما أن الزعل لا يلغي المحبة، وحتى لو لم أكن راضية فهذا لا يقلل حبي لهما، اكتشفت أن الحرمان المادي أو الضرب لا يجعل الولد يتراجع عما يريد القيام به بشكل واع، حتى إنه قد يشكل لديه عقد، وبالنسبة إلي أن يتجنب ابني أو ابنتي أمراً مدارة لمشاعري أهم بكثير من الخوف من العقاب والضرب”.
أما جومانا فتقول “لطالما عاقبنا أهلنا بالركع قرب الحائط، هذا كان أقسى عقاب، لكني كنت أخدش أولادي إذا أتعبوني، ثم أندم، وأراضيهم من دون أن أقول شيئاً فأطهو لهم ما يحبونه، ولما كبروا تغير المشهد وأصبحنا أصدقاء وطلبت منهم السماح، وأما الآن كجدة أرفض أم يضرب أبنائي أبناءهم لأن الضرب غير مجد”.
المكافأة أجدى
ويذكر عدنان أنه كان يضرب أولاده لأسباب ثلاثة، التقصير في المدرسة والكذب وإذا تصرفوا بشكل سيئ مع والدتهم أو جدتهم، ويقول “لاحقاً اكتشفت أن التحفيز للدراسة أفضل من الضرب، ونتيجة التحفيز تحول أولادي للكبار إلى متفوقين، وتفوقهم شكل حافزاً لباقي أخوتهم ليكونوا أكثر تفوقاً، أما في موضوع الكذب، فاكتشفت أن الزعل من الولد أهم من الضرب وأفضل نتيجة، وهذا سمح مع الزمن ببناء علاقة صراحة مع الأولاد تتفاوت بين ولد وآخر، وأصبحت أتلقي من أولادي رسائل مصارحة ومعاتبة مكتوبة ورقياً ولاحقاً عبر ‘واتساب’، أولادي الثلاثة الأصغر تلقوا عقوبات أقل من أولادي الثلاثة الكبار بسبب الإحساس اللاحق بخطأ الأساليب القديمة، وبخاصة أن بعض العقاب كان فيه ظلم، كأن تعاقب ولداً على فعل لم يقترفه وإنما ربما فعله شقيقه أو أحد آخر، وهذا العقاب لا ينساه الولد، كنت أحفزهم على القراءة وأقدم مكافأة مالية لمن يلخص لي كتاباً أو قصة، مما جعل بعض أبنائي قارئاً ممتازاً إلى الآن، وبعضهم تعاطى مع الأمر كعمل وكبر ونجح في أعماله”.
العنف المعنوي والجسدي في العقاب
تقول المتخصصة في العلاج الانشغالي ومدربة البرمجة اللغوية فرح الشيخ علي في حديثها إلى “اندبندنت عربية” إن من أبرز الأخطاء الشائعة التي يمكن أن يمارسها الآباء وهم يعاقبون أطفالهم هو استخدام العنف المعنوي أو الجسدي، وفي كلتا الحالين هذا يؤثر جداً في المدى الطويل على نفسية الطفل وشخصيته وحتى سلوكه الاجتماعي بالمطلق.
وعن العنف المعنوي تضرب مثالاً كأن يتلقى الطفل ملاحظات قاسية وينعت بصفات بشعة مثل “أهبل وحمار أو ينتقد ويقال له أنه لا يعرف، أو تلقى على مسامعه عبارات ندم مثل: ليتني لم أنجبك”، كما أن التعبير عن رغبة بالتخلص منه أو تركه وصعوبة الحياة بوجوده، وهذا نوع من السيناريوهات الذي قد تمارسه بعض الأمهات عن غير قصد يجعل الطفل يستشعر الخوف والقلق وعدم الأمان، ويشكل له هويته عن نفسه من خلال الكلام الذي قيل له، بالتالي يصبح هذا الطفل في تحد أن يعرف نفسه بشكل سليم لأنه عادة يأخذ تعريفه عن نفسه من خلال الأهل كيف يصفونه فوصفه بهذه النعوت في لحظات المشاعر الشديدة تبرمج دماغه بطريقة تجعله يشكل فكرة سيئة عن نفسه.
ما يقوله الأهل لأطفالهم من مصطلحات تشكل هويتهم في الحياة
أما العنف الجسدي فأثره الأساس عدم تجرؤ الطفل على التعبير عن نفسه بأي شكل من الأشكال، ويصبح خائفاً من فعل أي شيء، وهذا الخوف ينتقل معه من عائلته الصغيرة إلى تفاصيل حياته كافة في المجتمع والخارج، ويجعله شخصاً ضعيفاً، أما الأطفال الذين يتعرضون لعنف جسدي مبالغ به فيعتادون عليه لدرجة يصبح هذا العقاب بالنسبة إليهم ليس عقاباً، ويتحول نوعاً من الاستفزاز للأهل.
وترى ضرورة “التنبه إننا في مجتمع يميل إلى التطلع على السلوكيات السلبية للطفل بدل الإضاءة على الإيجابية منها، فمن الضروري إعطاء محفزات للطفل على السلوك الإيجابي الذي يقوم به، والثناء عليه والقول له إنه جيد، فإذا كان الطفل معتاداً على تكسير الأغراض، على سبيل المثال، ومر وقت من دون أن يفعل ذلك نعبر له بكلمة محفزة مثل: أحسنت أنك لم تكسر شيئاً، ويكون التحفيز بشكل لفظي بالكلام، وتحفيز بالشكل المادي كتقديم الحلوى أو مكافأة استخدام الإنترنت وسواها، فتقدم له رفاهية استخدام هذه الأمور كمكافأة لأنه تصرف بشكل صحيح”.
الحوار مفتاح الحل
تركز فرح على “الحوار ثم الحوار ثم الحوار، فمن المهم إدراك أن الطفل لم يولد ولديه المعرفة بالقيم والقوانين في المجتمع، وعلى الأهل أن يفسروا له ويعلموه المنظومة القيمية بلطف وتوصيل المعلومات وعلى قدر استيعاب عقله بطريقة تجعله يدرك ما هو الخطأ والصواب، وإعطاء إجابات مقنعة تساعده في الفهم بدل تنفيذ الأوامر، وفي كل عمر نناقش الطفل بحسب قدرته على الاستيعاب، وبعكس ما يفترض الأهل إن الطفل عندما يصبح لفظياً أي يتواصل بالكلام، وحتى عندما يستجيب للإشارة ويلتفت إلى الابتسامة فهو ينمي مهارته في الذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي، وبناء عليه فردود الفعل وكيفية إيصال المعلومة للطفل إن انزعج الأهل من السلوك الذي قام به وليس من الطفل، وعدم قول عبارة لم أعد أحبك لأنك تصرفت بهذه الطريقة، يجب أن نوصل للطفل في كل فئاته العمرية أن حبنا له غير مرتبط بسلوكه، وإن رد الفعل على فقط السلوك، ومن ناحية أخرى فإذا كانت مقاربة الأهل لما فعله لطيفة فهذا يساعده في إدراك أخطائه بالتالي التصرف بطريقة أفضل”.
أنواع العقاب
وفي موضوع أنواع العقاب تقول فرح إنه يجب أن يكون مبنياً على فكرة أننا مهتمون بالطفل وسلوكه الإيجابي، وعلى الحوار وتفسير ما هو الصواب والخطأ، والطلب منه والحصول على وعد عدم تكرار الخطأ، مما يجعل الطفل ينحو باتجاه بناء ثقة مع الأهل، وهذا يعد تربوياً الدور الأساس للمربي، وإذا تعرض الطفل لكثير من العنف المعنوي والمادي فسيعتاد الأمر ولا يتأثر إيجاباً بل سيتفاقم سلوكه السلبي، فاللين واللطف والتقرب هو الحل، إضافة إلى جعل الطفل يشعر بوجود الأهل وليس بمعاقبته وهم مشغولون بأي شأن آخر، فالكلمات الجوهرية في الشق التربوي ربطاً بالثواب والعقاب، والحضور الكامل للأهل وإعطاء الاهتمام للطفل أولاً، ثم استخدام وسيلة الحوار للتفاهم على الصح والخطأ والمسموح والممنوع، ومن الضروري تعزيز معادلة مثلما هو مطلوب من الطفل أن يعتذر علينا معرفة أننا كأهل ممكن أن نخطئ وعلينا أن نعتذر من الطفل إذا قمنا بضرب أو صياح أو استخدمنا مصطلحات غير جيدة، وفي كل مرة نعطي الطفل قيمة في المصطلحات التي نستخدمها معه كلما مال للتصرف بشكل جيد لينال هذا الإطراء، وعلى الأهل أيضاً ألا يكونوا مقصرين في الكلام الجيد وإظهار العاطفة في الحضن والتقبيل.
وقد يكون من أمثل طرق القصاص إعطاء وقت للتفكير والمتعارف عليه في الحضانات “Naughty Chair” وهذا التعبير غير سليم، ولكن يمكن أن نعطي وقت تفكير للطفل بحسب عمره على معدل كل عام يساوي دقيقة، فيجلس الطفل ذو الخمس سنوات في زاوية أو مكان للخمس دقائق، ثم نذهب إلى الحوار، أو يمكن أن يكون العقاب بالحرمان مقبولاً شرط أن يكون محكوماً بزمن معين حتى لا يفقد قيمته، والأفضل أن يكون لساعات محددة ليس أكثر حتى لا يتعود الطفل على غياب ما يحب وتصبح الطريقة غير ذي فائدة.
لا تحملوهم جرح طفلكم الداخلي
تعتبر فرح أنه من الضروري عدم وضع اللوم على الطفل أنه هو السبب في إهانته أو ضربه أو شتمه، فالسلوك الصادر من راشد يجب أن يكون الراشد مسؤولاً عنه 100 في المئة، ويستخدم الأهل عادة الصورة الذهنية التي نشأوا عليها وقد يكونون تعرضوا فيها لعنف جسدي ومعنوي، وللتخلص من هذا علينا معرفة أنه في اللحظات التي نقوم بردود فعل مبالغة على تصرفات الطفل أنه ليس ذنب الطفل، بل هو صوت طفلنا الداخلي المجروح من أفعال معينة وليس مرتاحاً لما تعرض له وما قد يجعل بعض ردود الفعل هستيرية، فمثلاً إذا كان رد الفعل مبالغاً فيه تجاه طفل كسر كوباً، فالأمر لا يستحق رد فعل قوي من شخص راشد قد يحدث أن يكسر كوباً وبالطبع لن يكون رد فعله عنيفاً على ذاته، ولكن هذا الحدث قد يكون حفز حالاً نفسية معينة لدى الراشد جعلته يتصرف بهذه الطريقة، وعندما نصبح أكثر وعياً لردود الأفعال هذه ونبتعد قليلاً من دون رد فعل إذا شعرنا بفقدان السيطرة، ونعود الطفل على تأجيل مناقشة الموضوع لحين الهدوء، فهذا يحسن ردود فعله.
وتختم فرح حديثها بقولها إنه من المؤكد أن القصاص والعقاب القاسي للطفل يترك آثاراً نفسية سلبية ترافقه وهو يتحول إلى راشد، عدا عن الألم النفسي الكبير، وما يتولد عنه من شعور عدم الاستحقاق وعدم الثقة بالنفس التي ترافقه وتؤثر في كل جوانب حياته.