حرية ـ (22/9/2024)
تُدعى اصطلاحًا “ملكة كيش السومرية”… و”كيش” أَول وأَقدم مدينة سومرية. نشأَت قبل نحو 3100 سنة قبل الميلاد. كان حبشور أَول ملك عليها (من هنا أَنه أَول ملك في التاريخ) وتاليًا كانت هي أَول امرأَة ملكة في قائمة الملوك السومريين.
فمن هي كوبابا التي يُعزى إِليها أَنها “أَول امرأَة ملكة (والوحيدة) في التاريخ القديم”!
وردَت في ملحمة غلغامش
في التاريخ أَن مدينة “كيش” (حاليًّا “تل الأُحَيْمِر”) مدينة أَثرية في العراق، تبعد عن بابل نحو 12 كلم إِلى الشرق، وعن بغداد نحو 80 كلم إِلى الجنوب. جاء في الميثولوجيات أَن كيش أَول مدينة حكمَها ملك، بعد انحسار الطوفان الكبير. وكان فريق علماءُ آثار فرنسيون نقَّبوا سنة 1912عن مدينة كيش السومرية فخلُصوا إِلى أَنها أَول أَمبراطورية في التاريخ، استمرت حتى أَطاحها الأَكاديون. وهي واردة في ملحمة غلغامش، وفيها اكتشفوا معبد إِنانا السومرية (إِلهة الحب والجمال والجنس والرغبة والخصوبة والحرب). لاحقًا عُرفت باسم عشتار لدى الأَكاديين والبابليين والأَشوريين.
رسم شهير لكوبابا ملكة سومر
حكمَت 100 سنة
يبالغ المؤَرخون فينسُبون إلى كوبابا أَنها حكمَت نحو 100 سنة من الرخاء والازدهار والسلام، في السلالة السومرية الثالثة (والأَخيرة) في تاريخها، وهي أَوسع وأَعظم حضارة في بلاد ما بين النهرين. من هنا أَن كوبابا – في سلسلة الملوك السومريين – هي أَول امرأَة حكمت في قوة وحزم. واللافت أَنها ابتدأَت نادلة تقدم كؤُوس النبيذ لدى حانة صغيرة في مدينة كيش السومرية. وراحت تتدرج حتى أَصبحت ملكة كما تذكر أَساطير السومريين وقصص بلاد ما بين النهرين.
حفر نافر في مكتشفات مدينة كيش
ملكة قبل كليوباترا
يسود في سلالة الملوك أَن الفراعنة في مصر هم أَول مَن عرفوا امرأَة حاكمة (حاتشيبسُوت وكليوباترا). غير أَن كوبابا ارتقت عرش سومر قبلهم بمدة طويلة. واللافت أَنها ملكة حكمَت باستقلالية فردية تامة، ولم تكن كسواها زوجة ملك أَو حاكم. من هنا أَنها أَول امرأَة في التاريخ تستحق لقب ملكة. وتتفاوت سيرتها الشخصية ومسيرتها الملكية بين التاريخ والأُسطورة. وفيها المقولة السائدة التي تناقلتْها المراجع: “نادلة الحانة التي أَصبحت ملكة”.
في التاريخ السومري القديم لم تكن للملك عاصمةٌ دائمة، فكان مركز الـمُلْك يتنقَّل من مكان إِلى آخر ومن سلالة إِلى أُخرى، تُباركه الآلهة أَينما يحلّ. وقبل كوبابا (الملكة الوحيدة على كيش في السلالة السومرية الثالثة) كان مركز المُلك مستقرًّا في مدينة ماري (11 كلم شمالي الفرات)، وبعد كوبابا انتقل المركز إِلى أَكشاك (شمالي حدود أَكَّاد).
تشبيه عصري لكوبابا
كيف ارتقت كوبابا الى الحكْم؟
يرجِّح مؤَرخون أَن كوبابا “استولَت” على الحكْم ولم يَؤُل إِليها تلقائيًا. وورَدَ في التاريخ البابلي القديم، كما ينقل خبير التاريخ الأَشوري أَلبرت كيرك غرايسون (كَنَدي م. 1935) أَن معظم الكتابات (المنقوشات) القديمة التي أَهملَت أَو شتمَت الإِله مردوك أَو أَنكرت فضل قرابينه في الهيكل، كان مصير أَصحابها أَسْوَد. وورد في تلك الكتابات أَن كوبابا في الحانة قدَّمَت طعامًا لصياد سمك وأَقنعته أَن يذهب، شكرانًا، إِلى إيزاغيلا (هيكل عبادة مردوك إِله بابل) متضرعًا إِلى الإِله مردوك أَن تتولى الحُكْم، فاستجاب مردوك وسمح لفتاة الحانة كوبابا أَن تحكم، لقاء إِحسانها إِلى صياد السمك برغيف وكأْس نبيذ. وجاءت بادرة مردوك خاصة بكوبابا مع أَن الحانات في ذاك الزمان كانت ملأى بالفتيات الساقيات. لكن كوبابا كانت “سيدة أَعمال ناجحة ذات إِدارة ناجحة نالت من الإِله حظْوَةَ أن تكون ناجحةً إِدارتُها مدينة كيش” كما كتبَت الباحثة الأَميركية كارول فونتين (م. 1950).
وحيدة في تاريخ سومر
وأَيا تكن ظروف تَولِّيها الحكْم (أُسطورية أَو تاريخية) فهي (من دون أَن تكون وراثيًّا زوجةَ حاكم أَو ابنة حاكم) كانت حاكمة وحيدة في تاريخ أَمبراطورية سومر التي امتدت نحو 1000 سنة. سوى أَن بعض المتعصبين من الحكَّام لاحقًا رفضوا أَن تكون حاكمةً لأَن المرأَة في زعمهم غيرُ قادرة على الحُكْم. ربما لذلك خبا ذكرها في العصور التالية، حتى عاد ذكرها إِلى الظهور مجددًا إِبان حُكْم الحثيين بصيغة إِلهة كارشيميش (مدينة على ضفاف الفرات).
خلاصةً: تبقى غامضةً بعدُ العلاقةُ بين كوبابا الإِلهة وكوبابا الملكة، خصوصًا بعد ما جاء به عالِم الآثار الأَميركي وليام أُولبرايت (1891-1971، وكان أَهم اختصاصي في منقوشات البحر الميت) من أَن لفظة “بابا” كانت تعني إِلهًا سومريًّا، ولفظة “كو” كانت تعني “المقدَّس”.
بعد 3000 سنة
ومهما يكن: إِلهة ميثولوجية أَو ملكة تاريخية حقيقية، ظلت كوبابا ممتدةَ الذكْر والتقدير والتقديس طوال حكم السومريين والحثيين، حتى جاءت في الميثولوجيات اليونانية والرومانية “أُمَّ الآلهات” كان يعبدها المؤمنون ولو بعد 3000 سنة من غيابها، وهي صفة غير عادية لفتاةٍ نادلةٍ ساقيةٍ بسيطة في خمارة بلغَت أَن تكون حاكمةً مطْلقةً في عصرها.