حرية ـ (22/9/2024)
في الطبعة الجديدة من كتاب “الأديان الأفريقية والفلسفة” قام المؤلف جون أس مبيتي بتحديث مادته لتشمل قضايا جديدة كاستغراق النساء في الدين والوحدة التي يمكن أن نجدها في ما كان يُعتقد من قبل أنها تكتُل من الأديان المنفصلة تماماً. ومن خلال قراءاته، أضاف مبيتي، وهو قس أبرشية في بورغدورف من أصل كيني، بعداً جديداً في فهم التاريخ والتفكير على امتداد قارة أفريقيا. وعلى رغم أن القضية تعالج من وجهة نظر أفريقية، فإنها تجذب اهتمام مجتمعات أخرى. ويرى مبيتي الذي سبق له العمل أستاذاً للدراسات الدينية في جامعة ماكيريري (أوغندا) أن على أفريقيا أن تبحث عن وعي ذاتي جديد، في المجالات السياسية والثقافية يربط المفاهيم الحديثة مع القيم الموروثة، ملاحظاً أن هذه القارة تبدو مستودعاً للديانات. كما لاحظ أن الأديان التقليدية في أفريقيا تمت مأسستها على نحو خطر، فباتت جزءاً من كل أقسام حياة الإنسان، وهو لذلك فقد قدرته على الاستمرار في ممارسة سيطرة أعلى حين واجه تحديات جديدة وتغيرات راديكالية فرضت نفسها على المجتمعات الأفريقية. ويضيف أن تفسخ أو تحطم النظام القديم يعني أيضاً تفسخ مأسسة الدين؛ سواء كان تقليدياً، أو سماوياً.
الكتاب بالترجمة العربية
ويرى المؤلف الذي سبق له العمل أستاذاً في جامعة بيرن (سويسرا) ودرَّس في جامعات بارينغتون (أميركا) وكامبردج (إنجلترا) هامبورغ (ألمانيا) أن الأديان التقليدية ليس لها كثير من الأنصار من المثقفين ليدافعوا عن قضيتها، أو لجعلها حديثة في المضمون والتعبير. ويعتقد مبيتي أن الأديان في أفريقيا يجب أن تسهم في صنع قيم ملائمة لمجتمع يتغير باستمرار، وأن عليها أن تحمي كرامة الإنسان في وجه العنف وإمكانيات التخريب والتدمير، والتقدم العلمي، والبحث عن السلام ولا إنسانية التصنيع.
وفي التمهيد الذي تصدَّر الطبعة المحدَّثة من الكتاب، ذهب مبيتي إلى أن رؤية الأديان التقليدية للعالم يجب أن تؤخذ بجدية، ومن ثم يتنامى البحث في مجال الدين الأفريقي، في أفريقيا نفسها، وفي كثير من بلدان الشرق والغرب على حد سواء. وفي هذه الطبعة أضاف مبيتي ملحقاً لقائمة من الكتب التي تناولت الموضوع نفسه منذ عام 1968. ولاحظ اهتماماً على مستوى العالم تجاه وضع المرأة ودورها في “الدين الأفريقي”. وخلص في دراسته في هذا الصدد إلى أن “الدين الأفريقي” ليس أبوياً على نحو كامل، ولا هو دين أمومي على نحو كامل أيضاً؛ “إنه من أجل الجميع رجالاً ونساءً، ويخص حتى من رحلوا عن دنيانا” (ص14). وأوضح أنه تحدث في الطبعة الأولى عن “الأديان الأفريقية” في صيغة الجمع؛ تأكيداً لتنوعها. وسعى مبيتي في الوقت نفسه إلى تأكيد “الطابع المشترك” و”الوحدة الممكنة”، وليس التماثل، داخل هذا التنوع. وذكر أنه في محاضراته يستخدم صيغة المفرد “الدين الأفريقي”، أكثر مما يستخدم صيغة الجمع، وهو ما يفعله باحثون آخرون في المجال نفسه.
التشابه والاختلاف
الكتاب بالأصل الإنجليزي
ورأى مبيتي الحاصل على الأستاذية كأستاذ زائر في جامعة هارفارد، أن دراسة الفلسفة الأفريقية “لم تكن مدركة وواضحة مثل الدين الأفريقي، ومع ذلك فهي تتقدم بطرق مختلفة، بخاصة على مستوى الجامعات”. وفي المقدمة كرَّر مبيتي المعنى نفسه بقوله إنه بينما الدين يمكن أن يُميَّز في حدود المعتقدات، الشعائر، الطقوس، والكاهن الديني، فإن الفلسفة لا يتم تمييزها بالسهولة نفسها. وأوضح أن دراسته التي يضمها كتابه هذا، تقوم على التفكير ملياً في الأديان المختلفة؛ لجهة حدود أوجه التشابه والاختلاف، “لتعطينا صورة حول الوضع الإجمالي في أفريقيا، ولكن نظراً إلى أنه لا توجد نظم فلسفية موازية يمكن رصدها في تعبيرات محددة مشابهة، سوف نستخدم المفرد، “فلسفة”، لنشير إلى الفهم الفلسفي للجماعات الأفريقية في ما يخص القضايا المختلفة للحياة؛ حيث من خلال الكلمة والفعل، قد يكون بإمكاننا تمييز الفلسفة الكامنة خلفها”. ولاحظ المؤلف أن الاعتقاد في استمرارية الحياة بعد الموت قائم في كل المجتمعات الأفريقية، ومع ذلك لا يوجد خط مرسوم بين الروحي والمادي في ظل ذلك الاعتقاد، فحتى الحياة في الآخرة تُرى في حدود مادية وجسدية. وهذا يفسر – كما يقول مبيتي – تركيز الديانات الأفريقية التقليدية على مسائل دنيوية، ومن ثم فإن الرؤية الأفريقية للزمان هي في غاية الأهمية. إن الأديان التقليدية والفلسفة معنيتان بالإنسان في حاضره وماضيه. ويشدد مبيتي في هذا الصدد على أن المعرفة الكاملة بالأديان الأفريقية التقليدية، يصعب تحقيقها وبالتالي يصعب وصف تاريخها، ومع ذلك فإنها قادرة على استيعاب الأفكار الجديدة واستعارة الممارسات من بعضها البعض.
كرامة الإنسان
وفي خاتمة دراسته رأى مبيتي أن عدم المبالاة بالدين أو بالاعتبارات الدينية، سيحول الإنسان إلى آلة تدلي بالأصوات المرجِحة للسياسيين، وتنتج سلعاً جديدة من أجل الرأسماليين. ولاحظ في هذا الصدد أن الدين هو الإحساس على نحو كامل بكرامة الإنسان كفرد، له أبعاد جسدية وروحية… “إنه يمنح صفة مشتركة ومقاماً مشتركاً للجميع في الأصل”. ويقول مبيتي إن الأديان في أفريقيا مستمرة في ممارسة حضورها وتأثيرها على ثلاثة مستويات على الأقل. أولاً: الاتصال بين الأديان، بحيث لا يشعر الإنسان في ظله بأي تناقض في حمل مزيج من المعتقدات والممارسات من اثنين أو أكثر من التقاليد الدينية. ولاح هنا أن المسيحية والإسلام تتداخلان مع الأديان التقليدية في عدد من النقاط، وذلك يجعل الأمر سهلاً ليكون الشخص مسيحياً أو مسلماً مقتنعاً، ومع ذلك يدمج في حياته عناصر من الأديان التقليدية… “إن حياته غير الواعية هي تقليدية على نحو عميق، إلا أن حياة اليقظة لديه متجهة صوب إحدى ديانات العالم. إنه أسس رابطة واتصالاً بين نظامين أو أكثر، وإنه في سياق ذلك الاتصال الديني يعرف نفسه واهتماماته”.
ثانياً، الدين العاجل أو المباشر، ويتجلى أساساً في لحظات الأزمات مثل المرض واليأس والطوارئ والموت والتراجيديا، ويظهر على السطح أيضاً في اللحظات المفصلية في الحياة مثل الميلاد والزفاف والموت أو الأحداث الوطنية. مثل هذه اللحظات تدعو إلى صلاة عاجلة مباشرة و”إله مباشر”، بتعبير المؤلف الذي يضيف أن الناس تلجأ جزئياً، في مثل تلك المناسبات، كما يفعلون في خلفيتهم التقليدية، إلى لفت الأنظار. يسمى ذلك “الدين القابل للتحويل” ما دام في الحاضر وبشكل عاجل. وهذا، كما يقول مبيتي، يعطي الناس إحساساً بأن لهم ديناً مباشراً عاجلاً يمكن التصرف من خلاله في مناسبات كهذه. ثالثاً، الدين المخترِق، ويدل – بحسب المؤلف – على أكبر قدر من التأثير على الشعوب، “هنا الدين يصبح نوعاً من الاتساق الاجتماعي، من دون عمق لاهوتي. إنه مجرد (هناك). وهذا هو شكل الحياة الدينية الذي يجب أن تعتمده أفريقيا لتصنع أثراً قوياً على القيم والأخلاق والمعايير والشروط الاجتماعية لشعوبها”… “إنه الدين خلف الكواليس” (ص385). ويخلص مبيتي كذلك إلى أن الشعوب قد ترفض التحول من دين إلى آخر، مع إيمانها بأن لكل دين أهدافاً نبيلة، موضحاً أن “الدين المخترِق” لا يحتاج إلى مناصرين رسميين، ولا مشاريع رسمية، ولا طقوس رسمية، ولا حتى دور عبادة ورجال دين؛ “إنه كامن في المثل والتعاليم والمعايير والمبادئ والأخلاق وتجارب الأديان المؤسسة: اليهودية، المسيحية، الإسلام، الهندوسية… الخ. إنه لا يستبعد مَن يكرسون النظم الدينية الرسمية. هذا هو التخلل الديني الذي أرى أن تتحرك الشعوب الأفريقية في اتجاهه”.