حرية ـ (23/9/2024)
خصصت مجلة «أحوال مصرية» عددها الاخير- رقم 93- للطبقة الوسطى المصرية، بدءًا من الدراسة الافتتاحية لرئيس التحرير د.أيمن عبدالوهاب وحتى آخر كلمة فى العدد. كل مواد العدد عن الطبقة الوسطى.
بعض الدراسات اهتمت بالجانب التاريخى وكذلك الاجتماعى، فضلًا عن البعد الفلسفى والثقافى والاقتصادى والسياسى، «أحوال مصرية »، وهى مجلة فصلية يصدرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام.
اهتمام دورية رصينة بهذه القضية يعنى استشعار هيئة التحرير وفريق المستشارين أهمية دراسة الطبقة الوسطى مجددًا، وهذا يعنى استشعارهم أن هناك أزمة كبرى تستوجب التذكير بأهمية وقيمة هذه الطبقة فى المجتمع.
منذ عدة عقود، حين كان الراحل أحمد بهاء الدين رئيسًا لتحرير «مجلة العربى» الكويتية، كتب مقالًا افتتاحيًا عن الطبقة الوسطى فى مصر وأهمية دورها التاريخى فى تماسك المجتمع والحفاظ على قيمه، لأنها تخشى على وضعها لا تريد التقهقر، حيث الطبقة الدنيا، ذكر أيضًا أن الطبقة الدنيا ليس لديها ما تخاف عليه فتندفع إلى أى اتجاه، أما الطبقة العليا فليس لدى أفرادها ما يخافون منه، الوسطى لديها ما تخاف عليه ومنه، لديها أيضًا ما تطلع إليه وتسعى لتحقيقه، أى تملك الطموح.
وأشار بهاء كذلك إلى معاناة أفراد هذه الطبقة مع «تحريك الأسعار» وتخلخل بعض الأوضاع، الذى صاحب سياسة «الانفتاح الاقتصادى»، لم يكن الأستاذ، ضد سياسة الانفتاح، هو من صاغ ورقة أكتوبر التى أصدرها الرئيس السادات بعد انتصار أكتوبر العظيم، الورقة بشرت بالانفتاح، هو كان ضد ما أسماه «الانفتاح.. السداح مداح». فرضت مظاهرات يناير ١٩٧٧أن يتقبل كثيرون هذا التوصيف الذى أطلقه الكاتب والصحفى الكبير، حتى الرئيس السادات نفسه، الذى كان يتحسس الكثير مما يقول به كبار الكتاب، لم يعارضه.
مظاهرات يناير ٧٧، أو انتفاضة الخبز، فرملت الكثير من السياسات وجعلت السادات يعيد النظر فى بعض الأمور، بل إن الدولة أنشأت أكشاكًا فى الشارع لبيع ساندوتشات الفول والطعمية بنصف سعرها فى المطاعم العادية، الأمر الذى لم يحدث حتى فى سنوات «الاشتراكية العربية».
كان أحمد بهاء الدين يمتلك فى مقالاته مقدرة سردية، أقرب إلى ما يسمى «السهل الممتنع»، لا تقعر.. لا ثرثرة، هادئ، قوى بلا حدة ولا زعيق.
تحول هذا المقال والآراء التى وردت به إلى ما يشبه نصًا مقدسًا أو مانفيستو لكثير من الباحثين والكتاب، إلى يومنا هذا، عديد من الدراسات العلمية ورسائل الماجستير والدكتوراه بأقسام الاجتماع وبعض المتخصصين فى الاقتصاد السياسى، حول نفس الموضوع، جميعها تدور حول محاسن الطبقة الوسطى وحول معاناة أفرادها فى ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة.
ومع التحولات الاقتصادية، طغى منطق المظلومية، خاصة مع صدور كتاب د. رمزى زكى اللافت «وداعًا للطبقة الوسطى»، سنة 1998، وقد اختارت اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع وقتها الكتاب لتصدر منه طبعة ضمن «مكتبة الأسرة»، كى يكون متاحًا قراءته لأكبر عدد، تكررت طباعته من شدة الإقبال عليه.
ولا يمكن إنكار أن عددًا غير قليل من الدراسات، نجحت فى أن تضيف إلينا فهمًا جديدًا لبعض جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية فى مراحل عديدة من تاريخنا، مثل دراسة د. نيللى حنا عن بداية تشكل طبقة وسطى فى المجتمع المصرى قبل حملة نابليون، وأنه كانت هناك فرص للتطور والنهوض دون الحملة الفرنسية/الاستعمارية.
والملاحظ أن كثيرًا من الدراسات تتبنى معيار الدخل المادى والممتلكات فقط، لتحديد الوضع الطبقى للفرد وللأسرة، لا أظن أن ذلك وحده كاف، قد يكون مراوغًا أو مضللًا فى بعض الحالات.
مثلًا المتسول الذى يفترش الشارع حافيًا، شبه عار، تعلو جسده وملابسه المهلهلة كميات من التراب المتراكم، ثم نكتشف أن لديه ملايين فى البنوك أو «تحت البلاطة»، أين يصنف طبقيًا واجتماعيًا؟.
ليتنا نتذكر السيدة التى كانت تقيم تقريبًا فى نفق قريب من دوران شبرا وجاءت السيول، شتاء سنة 22، لتحاصرها، ضجت مواقع التواصل بصورها ومعاناتها، واتجهت الإدانة للحكومة التى تهمل المواطنين، فأرسلت وزيرة التضامن لجنة لنقلها إلى إحدى دور الرعاية، لكن السيدة أبت وتشبثت بمقر إقامتها، فتدخلت وزارة الصحة ولما حُملت السيدة وجدوا فى طيات البطانية، مبلغ ٣٤ ألف جنيه، كان ذلك المبلغ حصيلة يوم واحد، وهكذا.
وهل نذكر ذلك الرجل فى إحدى مدن الصعيد، كان مسجلًا ضمن برنامج «تكافل وكرامة»، يتسول ويجد تعاطفًا شديدًا من المواطنين، كان قد قضى أكثر من عشرين عامًا فى دولة عربية وعاد مدعيًا أنه تعرض لعملية نصب هناك وفقد كل عوائد عمله؛ ولما انتقل إلى رحمة الله، تعالى، اكتشف أولاده أن لديه حسابًا جاريًا بأحد البنوك قدره ١٣ مليون جنيه، حتى الأبناء اصابهم الذهول.
نحن هنا لسنا إزاء حالة فردية ولا استثنائية، بل حالات تكاد تشكل ظاهرة، ليست موجودة فى مصر فقط، بل فى معظم البلدان، حتى فى رام الله نفسها، رغم كل الظروف القاسية التى يعيشها المجتمع الفلسطينى.
فى بداية عملى الصحفى اهتممت بالتحقيقات الاجتماعية/الميدانية، وذهبت إلى منطقة الدويقة، لأرصد حياة هؤلاء المواطنين المهمشين، الذين لا يجدون من يهتم بهم أو يرعاهم، وجدت هناك سيدة أغلقت شقتها المريحة فى شارع الهرم، وذهبت لتقيم فى غرفة ودورة مياه مشتركة، بين سكان الإيواء، حجتها كانت «راحتى هنا، وسط الناس، بابى مفتوح طول النهار، كل حاجة هنا سهلة». لم تكن هذه السيدة الحالة الوحيدة، كلٌّ لديه أسبابه ودوافعه.
هذه الملاحظة وغيرها حول معايير التصنيف الطبقى، هل هى ثابتة أم متغيرة، قابلة للتطور وهل هى واحدة فى كل المجتمعات أم أن كل مجتمع له معاييره وفق ظروفه الاجتماعية والثقافية، يحسمها الدارسون والمتخصصون؟!.
الطبقة الوسطى المصرية أشبه الآن بالاتحاد الاشتراكى العربى، سنوات الستينيات أو الحزب الوطنى سنوات التسعينيات، تضم الكادحين والمتعبين وتضم أيضًا معظم رواد الساحل الشمالى، عديد من الأجنحة والمستويات أو الشرائح، كوكتيل طبقى.
فى الحديث عن المحاسن أو الفضائل، يمكننا أن نقول خصائص ومميزات الطبقة الوسطى، لدينا الكثير والكثير، هى العمود الفقرى للمجتمع وهى كذلك مستودع أو مخزون القيم والأخلاق العامة، هى التى يقع عليها العبء الأكبر فى تحمل الظروف الصعبة والضاغطة التى قد يتعرض لها الوطن، سواء كانت ضغوطًا وطنية وسياسية أو اقتصادية، وهى كلها لا تنفصل عن بعضها.
يحدث ذلك بحكم العدد، هذه الطبقة تشكل أغلبية الشعب؛ لذا كان معظم المرابطين على جبهة القتال بين هزيمة يونيو 67 وانتصار أكتوبر، كانوا من أبناء هذه الطبقة، يقاس استقرار المجتمع بمدى اتساع الطبقة الوسطى.
فى حديث المحاسن أو الفضائل هناك الكثير، لكن ذلك كله لا يبرر المبالغات لدى بعض الكتاب، إلى حد إنكار أى دور أو فضل للآخرين فى المجتمع، أقصد الفقراء من جانب والأثرياء من جانب آخر، من أسف أن هناك من يصر على إنكار أو تجاهل وجودهم، وإن تذكرهم فيكون باستخفاف وربما تحقير أو حدة وعدوانية ويكون ذلك مع الأثرياء.
وبغض النظر عن هذا كله فإن الأمانة العلمية والنزاهة الفكرية تلزمنا أن نتذكر المحاسن وأن نبحث كذلك فى الوجه الآخر، لنقل سلبيات أو نقاط ضعف.
الطبقة الوسطى فى مصر، منذ معاهدة سنة 1936، التى وقعها مصطفى النحاس (باشا)، زعيم الطبقة الوسطى وفق تعبير د. علاء الحديدى، ربما قبل ذلك، وحتى يومنا هذا تقود المجتمع والدولة. الوقوف على الوجه الآخر لهذه الطبقة يمكن أن يضعنا أمام السلبيات ونقاط الضعف التى أعاقت تقدمنا وأحدثت لنا مشاكل وأزمات عديدة نحاول تجاوزها.