حرية ـ (23/9/2024)
كان لافتاً في اليومين الماضيين أن أعداداً لا بأس بها من اللبنانيين عبّروا عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن عزمهم مغادرة البلاد بشكل فوري ونهائي، أو عن استعدادهم لمثل هذه الخطوة، وبالعادة هذا الخيار مُتاح لمن يحملون جنسية ثانية إلى جانب هويتهم اللبنانية.
وإن كانت أوروبا هي الوجهة الأقرب، وتاريخياً احتضنت مئات آلاف اللبنانيين وغيرهم من شعوب المنطقة في ظروف مختلفة بمعظمها كان بفعل الصراعات والحروب، فمع اشتداد الأزمة الحالية وجنوحها نحو تصعيد عسكري أكبر وأوسع يأتي السؤال أين هي أوروبا من كل ما يحدث؟
اختفاء الدبلوماسية الأوروبية؟
قبل يومين من “طوفان الأقصى” في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، نشر “مركز الإصلاح الأوروبي” دراسة عن التطورات في الشرق الأوسط، وانطلق التقرير الأوروبي بجملة تقول “إن الشرق الأوسط الجديد ربما ينشأ في ظل ذوبان الجليد وتضاؤل نفوذ الولايات المتحدة. وتحتاج أوروبا إلى سياسات مختلفة للتعامل مع المنطقة المتغيرة”. والاستنتاج هذا جاء عقب الاتفاق السعودي الإيراني والدور الصيني المتزايد في المنطقة والمبادرات الاقتصادية العملاقة وغيرها.
وبالنسبة لناشر البحث لويجي سكازييري، فإن “الشرق الأوسط الجديد يبشر بالفرص والتحديات”، وأنه من المؤكد أن منطقة “أكثر استقراراً وازدهاراً ستعود بالفائدة على أوروبا. وربما يعتقد العديد من الأوروبيين أيضاً أن تقليص التدخل الأميركي في المنطقة قد يكون مفيداً إذا كان من شأنه أن يجعل واشنطن أقل ميلاً إلى المغامرات العسكرية المزعزعة للاستقرار”.
لكن المشكلة، أن أوروبا “لا تملك نظرة موحدة” حول المنطقة، وهي تحتاج إلى “إعادة النظر في نهجها في التعامل معها، ففيما يتصل بالأمن، سوف يظل نفوذهم معتمداً على قدرة الدول الأعضاء على صياغة استراتيجية متماسكة”، بحسب سكازييري.
وفي 10 تشرين الأول (اكتوبر) 2023، كتب الباحث في معهد “كارنيغي أوروبا” بيار فيمونت، بعد أن عرض لتطورات وتداعيات الحرب في ذلك الوقت، أن “الدبلوماسية الأوروبية، التي بدأت تختفي تدريجياً من الجغرافيا السياسية للمنطقة في السنوات الأخيرة، يبدو أنه لا يوجد مجال للمبادرة، على الأقل في الوقت الراهن”. وينهي مطالعته بالقول إنه بمجرد انتهاء الصراع، فإن “الحاجة إلى تسوية القضية الفلسطينية من خلال التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والشعب الفلسطيني سوف تظل قائمة. ومن ثم، تستطيع أوروبا أن تلعب دوراً مهماً من خلال استخدام نفوذها المالي والاقتصادي لإقناع إسرائيل والقيادة الفلسطينية المتجددة بالعودة إلى المفاوضات الجادة ووضع حد للعنف المتواصل”.
وفي مطلع العام الجاري حذّر جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، من أن “الوضع المأساوي في غزة بات أولوية فورية” وأن هذا مع ما يحدث في أوكرانيا قد يضع أوروبا في “خطر”. وأمس الأحد عبر بوريل عن “قلق شديد إزاء التصعيد بين لبنان وإسرائيل”.
تلفون أوروبا!
في هذه الأجواء الماطرة بالتصعيد، يقول مصدر دبلوماسي عربي، فضلّ عدم الكشف عن اسمه، إنّ “مشكلة أوروبا هي الانقسامات في ما بينها”، ويستشهد هنا بكلام لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر برده على أسئلة أحد الصحافيين حول دور أوروبا بالقول: “ما هو رقم تلفون أوروبا… بمن عليّ أن اتصل إن أردت التحدث إليها؟” أي بمعنى أنّه لا يوجد شخص أو طرف واحد يمكن التنسيق معه نيابة عن الكل.
ويقول الدبلوماسي المخضرم، في حديثه لـ”النهار العربي”، إنه إزاء ما يشهده الشرق الأوسط من عنف متصاعد، فإنّ أوروبا “أمام فرصة لإثبات ما إذا كان القانون الدولي مجرد شعارات أم أنه عبارة عن مبادئ وأسس”. ويتابع مستطرداً: “مجريات الأمور منذ حرب غزة تشي أنه مجرد شعارات”.
وبالتالي بالنسبة للمصدر عينه، فإن أحداً لا يعوّل على أوروبا لإيجاد حلّ نهائي للصراع وتطبيق مبدأ حلّ الدولتين، على الرغم من أن الوسائل لتحقيق ذلك متوافرة مثل العقوبات وغيرها. ويؤكد أن الحلّ في الولايات المتحدة.
ويرى أن “أوروبا هي الخاسر الأول لأنها فقدت دورها كوسيط نزيه، بعد أن أغدقت على العالم شعارات تتعلق بحقوق الإنسان والديموقراطية وحقّ تقرير المصير وغيرها من المبادئ الإنسانية”، معتبراً أن “أوروبا هي من أسقط هذه المبادئ من خلال سياستها المتبعة”.
أما بما يتعلق بتفاقم حدّة الحرب في الأيام الماضية، يحذّر المصدر الدبلوماسي نفسه من أن “تداعيات الانفجار ستكون على شواطئ أوروبا وعليها توقع موجات هجرة أكبر من تلك التي شهدتها عقب الحرب السورية، ما سيرتب عليها خيارات صعبة منها تضرر أنظمتها بشكل دراماتيكي، والأضرار هذه ستنعكس بذات الطريقة على بنية الاتحاد الأوروبي بشكل عام”.
في المرتبة الثانية
بالعودة إلى نظرية كسينجر، في أوروبا دولتان تشكلان مركز الثقل هما ألمانيا بما تمثله من أنها العمود الفقري الاقتصادي، وفرنسا التي تمثل “الفيتو” السياسي الأوروبي داخل مجلس الأمن، على اعتبار أن بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، وعليه يفترض بهذين القطبين نظرياً أن يشكلا مسار السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.
قبل يومين، تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مباشرة إلى اللبنانيين عبر مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ليؤكد أن “المسار الدبلوماسي موجود” وأن “الحرب ليست حتمية… ولا أحد لديه مصلحة في التصعيد”.
وبعد أقل من 24 ساعة على كلمته، تناقلت الوكالات العالمية خبر “التلاسن الحاد” بين ماكرون ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وبحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن ردّ نتنياهو على تحذيرات الرئيس الفرنسي من دفع المنطقة إلى الحرب كان: “بدلا من الضغط على إسرائيل، حان الوقت لفرنسا من أجل زيادة الضغط على حزب الله لوقف هجماته”.
الموقف الإسرائيلي، ربما ما يفسره بشكل أوضح ما كتبه الباحث الإسرائيلي ايهود يعاري لـ”معهد واشنطن” مطلع تموز (يوليو) الفائت أن “أوروبا أحيلت إلى المرتبة الثانية في الشرق الأوسط”، وأضاف: “أثبتت المحاولات التي بذلتها العديد من الحكومات الأوروبية لإيجاد حلول مستقلة للأزمات في المنطقة عدم جدواها”.