حرية ـ (28/9/2024)
حتى وإن لم يكن فيلسوف النقد إيمانويل كانط، المعتبر واحداً من كبار مفكري العقلانية والمنطق في عصر التنوير الألماني، البطل الحقيقي لحكايتنا هنا، فإنه هو الوجه الذي يهمنا أكثر من أي وجه آخر من بين تلك الوجوه ذا العلاقة بهذه الحكاية. ففي النهاية قد لا يعنينا كثيراً أن يكون العالم والمفكر السويدي سويدنبورغ قد اختار ومنذ بلغ الـ56 من عمره وبعد عقود طويلة من حياته أمضاها في رحاب العقلانية خلال الحقبة الأولى من عصر التنوير، أن يغوص في الغيبيات ويتخلى عن العقل بصورة مباغتة كما سنرى بعد سطور، ولكن يدهشنا بالتأكيد “احتضان” إيمانويل كانط تلك الحالة التي كان يمكن لها أن تثير سخريته في ظروف أخرى. لكنه هنا وكما يصور الأمر بنفسه في رسالة بعث بها إلى صديقة له في صيف عام 1758 نراه وسط دهشتنا يروي لتلك الصديقة، شارلوت دي كنوبلوخ، حكاية كان يمكن توقعها من أي شخص آخر ما عدا كانط. ويرويها ليس على سبيل التفكه بل بكل جدية باعتبارها حكاية يتبناها هو نفسه تماماً ولا يجد من سبب يدعوه إلى رفض كونها حكاية حقيقية شهدها هو نفسه كما يبدو بأم عينه.
حكاية العقلاني السابق
وما شهده كانط لا يتعلق به شخصياً على أية حال بل يتعلق بذلك العالم السويدي، العقلاني سابقاً الذي سنعود إلى حكايته. يقول كانط في رسالته إن السيدة هارتفيل التي كانت أرملة للمبعوث الهولندي إلى مملكة السويد والمقيمة في ستوكهولم، تلقت بعد حين من وفاة المرحوم زوجها رسالة من الصائغ المعروف كرون يبلغها فيها ضرورة أن تسدد له مبلغاً يتعلق بخدمات حرفية كان قد أداها للمبعوث الراحل. “ولما كانت الأرملة، بحسب ما يذكر كانط في الرسالة، على يقين من أن زوجها قد سدد الفاتورة حين وصلته، بادرت إلى الاحتجاج لكنها لم تتمكن من العثور على الإيصال الذي يدعم ردها ويبرئ سمعة زوجها الراحل. وبما أن المبلغ المطلوب كان كبيراً، لم تجد الأرملة مفراً من أن تلجأ إلى سويدنبورغ كي يعينها في الوصول إلى حل ما”. ويتابع كانط في رسالته وبلغة بالغة الجدية ليذكر أن مدام هارتفيل اتصلت فعلاً بسويدنبورغ وخلال اجتماعهما كررت أمامه اعتذارها عن اللجوء إليه لكنها قالت له في النهاية إنها ستكون ممتنة له وهو المعروف بقدرته على معرفة الغيب والاتصال بأرواح الموتى، إن تمكن من الاتصال بزوجها المرحوم لسؤاله عما إذا كان ثمة أساس من الصحة حقاً لما يطالبها به الصائغ.
إيمانويل سنودنبورغ (1688 – 1772) (غيتي)
مهمة بالغة السهولة
ويتابع كانط “قبل سويدنبورغ عن طيب خاطر تأدية تلك المهمة”، التي أضاف أن “القيام بها ولا أسهل بالنسبة إليه” كما يقول صاحب الفلسفة العقلانية النقدية في رسالته، مضيفاً “وبالفعل حدث بعد ثلاثة أيام مرت على اللقاء مع سويدنبورغ أن كانت السيدة قد جمعت في دارتها عدداً من أصدقاء من كبار القوم لتناول القهوة معها – ومن الواضح أن كانط نفسه كان من بين الحضور أو هو يوحي بذلك في الأقل – وحضر اللقاء العالم سويدنبورغ بدوره. وما إن اكتمل الجمع، حتى قال العالم الضيف للأرملة المستضيفة بكل دم بارد، إنه بالفعل قد تحدث إلى المرحوم زوجها ولقد أخبره هذا بأنه كان قد سدد المبلغ المطلوب للصائغ بالفعل من دون أدنى تأخير وذلك قبل رحيله بسبعة أشهر. ويمكنك يا سيدتي بحسب ما أخبرني المرحوم أن تعثري على الإيصال في خزانة موجودة في الغرفة العليا في هذه الدارة الكريمة”، يضيف كانط في رسالته نقلاً عن سويدنبورغ. وهنا قالت الأرملة إن هذا غير ممكن بالنظر إلى أن هذه الخزانة قد فتحت تماماً وتم البحث في شتى زواياها وأطرافها من دون طائل وسط جملة من وثائق وأوراق كانت موجودة فيها بالفعل… وهنا أخبر سويدنبورغ المستضيفة بأن زوجها قد كتب له لاحقاً يخبره أنهم إذا ما فتحوا درجاً خفياً موجوداً إلى اليسار على آخره سيعثرون على غطاء خشبي عليهم أن ينتزعوه من مكانه حتى يعثروا على مخبأ سري وضع الراحل الإيصال فيه بين حفنة من وثائق وأوراق مهمة بالنسبة إليه وتمثل مراسلاته مع القصر في هولندا.
مهمة أنجزت بنجاح
وبناء على تلك الإشارة الجديدة، يختم كانط الحكاية مؤكداً أن السيدة قد صعدت بالفعل إلى الغرفة العليا ونفذت ما وصلها من تعليمات المرحوم ففتحت الدرج المعني وانتزعت الغطاء لتجد المخبأ السري بالفعل وفي داخله الوثائق البالغة الأهمية ومن بينها الإيصال المذكور. و”لك يا سيدتي ـ أضاف إيمانويل كانط، في ختام تلك الرسالة الموجهة إلى صديقته شارلوت، قائلاً ـ لك أن تتصوري الدهشة التي طاولت كل أولئك الذين شهدوا ما حدث بأم أعينهم!”.
طبعاً لو أن أي شخص آخر كان في ذلك الزمن كاتب هذه الرسالة لما اهتم بها أحد، لكن الغريب في الأمر أن الكاتب كان الفيلسوف كانط، حتى وإن كان ما فيها يتعلق بفيلسوف آخر مجايل له. فقبل حادثة الدرج بسنوات قليلة كان من شأن سويدنبورغ نفسه أن يسخر من حكاية مثل تلك، كما كان من شأن كانط أن يكذب أي شخص يتنطح لكي يحكيها له. ولكن الذي حدث في عام 1743 تحديداً هو أن ذلك العالم الجليل المسمى بدوره إيمانويل كما ستكون حال كانط، الذي عاش بين 1688 و1772 وعرف أول الأمر بكونه مفكراً منطقياً كان له تأثير في مجال النزعة العقلانية على كانط نفسه، كما على عدد كبير من رفاق هذا الأخير، كان يتناول عشاءه في نزل هادئ حين أحس فجأة أن أبواب السماء قد انفتحت له وراح الملائكة يتحدثون إليه برعاية “العناية الإلهية”. وعلى الفور انقلبت حياته رأساً على عقب، وأوقف كل ما كان يشتغل عليه من أفكار عقلانية ومادية ليغوص في عالم آخر ويقرر أن يكتب سفراً عن “الكشف عن يوم الحشر”.
تنحية الفكر التنويري
وهو كان في ذلك الحين في الـ56 كما نوهنا وعلى أهبة إصدار خلاصات عقلانية لفكره التنويري، لكنه وضع ذلك جانباً وراح يشتغل على تفسير الأحلام ووضع باللاتينية كتاباً ضخماً عنونه “يوميات روحية”، واستقال تماماً من عمله الجامعي الذي كان باهراً وناجحاً ويجمع من حوله عدداً كبيراً من التلامذة والعلماء الشبان، لينصرف إلى تغذية نزعته ونزعتهم الروحية. وطبعاً كان من شأن حكاية سويدنبورغ هذه أن تمر مرور الكرام ولا يبقى لها أثر في التاريخ لكن الحيرة تبدأ هنا مع رسالة كانط الذي لم يكن من المتحمسين لسويدنبورغ إلى حد تبني حكايته ومهاراته “السحرية” في رسالة حميمية يكتبها لصديقة له من دون أن يرفق الحكاية بتعليق أو فكاهة هو الذي لم يكن من مريدي ذلك المفكر السويدي. فالحقيقة أن حكاية هذا الأخير اتخذت معنى مختلفاً تماماً منذ العثور على تلك الرسالة بخاصة أنها مؤرخة في حقبة شديدة العقلانية من حقب حياة كانط ولسوف تنشر، وهو أمر يضيف إلى الحيرة حيرة، أواسط القرن الـ19 بعد حدوث “الحكاية” نفسها بأكثر من قرن من الزمن، ضمن النصوص التي يتألف منها كتاب كانط المعنون “أنثروبولوجيا” ويتبعه في النص عدة فقرات تتعلق بالترابط بين الفيزياء المادية والأخلاق والتبادل بين عالمي المادة والروح من منطلق فلسفة الأخلاق!
إشادات شاعرية
ولا يمكننا على أية حال أن نختم هذه العجالة من دون إشارة لا بد منها إلى أن كانط نفسه لم يكتف في اهتمامه بسويدنبورغ بتلك الحكاية العابرة، بل إنه خلال الفترة نفسها كان منكباً على دراسة حالته ولكن تحديداً من منطلق عقلاني خالص – لم يوصله إلى أية نتيجة قاطعة باعترافه – ولا سيما منذ قيل له ذات يوم بأن غوتنبورغ نفسه قد نبه ذات يوم إلى حتمية اندلاع حريق معين في ستوكهولم بينما كان موجوداً في غوتبورغ على مبعدة مئات الأميال من ستوكهولم نفسها! وهذا كله من دون أن ننسى كلاماً إيجابياً كتبه عدد من كبار الفرنسيين في حق سويدنبورغ ومن بينهم دي نرفال وبلزاك وشارل بودلير ولكن على خطى الروسي الكبير بوشكين الذي خصه بنص بالغ القوة.