حرية ـ (29/9/2024)
هدى رؤوف
في خطاب الرئيس الإيراني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وخلال لقائه ووفده من المفاوضين الإيرانيين وغير المسجل مع الصحافيين في نيويورك، تبرز الإجابة عن أسئلة كثيرة أثيرت على مدى عام، من بينها لماذا خرج المرشد الإيراني ليبرّئ بلاده من عملية “طوفان الأقصى”؟، ولماذا تحملت طهران الانتهاك الإسرائيلي لسيادة أراضيها مرات عدة آخرها اغتيال إسماعيل هنية؟، ولماذا توارت عن دعم “حزب الله” في مأساته الحالية؟، وأخيراً لماذا جاءت إيران برئيس إصلاحي على رغم أن المشهد الداخلي كان معداً منذ أعوام طويلة لسيطرة المتشددين؟.
المؤكد أن المشهد الإقليمي الذي تفجر مع “طوفان الأقصى” ويستمر في التدهور هو ما دفع إيران إلى تغيير المشهد الداخلي والإتيان بمسعود بزشكيان بعد رحيل إبراهيم رئيسي الغامض والمفاجئ.
لقد أحدث خطاب الرئيس مسعود بزشكيان في الجمعية العامة للأمم المتحدة جدلاً في الداخل الإيراني والأكثر جدلاً كان حواره مع الصحافيين الذين التقاهم في نيويورك خلال جلسة غير رسمية تطورت إلى مناقشة نادرة بما فيها من تصريحات، حتى لو أنكر بعضها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في ما بعد.
خطاب بزشكيان وحواره مع الصحافيين يؤسسان لعلاقات جديدة مع إسرائيل من جهة ويوضحان سبب تواري إيران عن المشهد المتصاعد حالياً في غزة ولبنان، ويبرزان كذلك لماذا جاءت إيران بالرئيس الإصلاحي في خضم مشهد إقليمي تتصاعد فيه التوترات على التوالي منذ عام. فقد انتشر تسجيل صوتي من تصريحات بزشكيان، يقول فيه إن “إيران مستعدة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً، وأن تأتي منظمة دولية إلى المنطقة لتوفير الأمن”.
ونفى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وقال للتلفزيون الرسمي “أنظروا إلى تصريحات بزشكيان، تمحورت حول إدانة الجرائم الإسرائيلية ودعم محور المقاومة التي هي جزء من المبادئ الأساسية لسياستنا الخارجية”.
وسبقت ذلك الجدل تصريحات لبزشكيان بخصوص واشنطن، قال فيها “لا نعادي الولايات المتحدة، عليها أن توقف عداءها تجاهنا من خلال إظهار حسن نيتها عملياً، نحن إخوة للأميركيين أيضاً”، كما أبدى استعداد بلاده للعودة إلى الاتفاق النووي، وحاول بزشكيان التركيز على أنه جاء من أجل الإصلاحات والوحدة الوطنية في الداخل والتعاون الإقليمي والدولي.
ربما كلمات بزشكيان المتعلقة بالقدرات العسكرية لإسرائيل تبدو رومانسية والهدف منها نزع سلاح الطرف الآخر باستخدام نظرية التوازن الصفري، وهو أمر غير واقعي، وهو يعي ذلك، لكن من جهة أهم كان يريد إيصال رسالة إلى إسرائيل بإمكان التفاهم والتفاوض وتجنب التصعيد.
ربما أثارت كلمات بزشكيان في نيويورك غضب بعض المتشددين الرافضين لأي مبادرة تستهدف إنهاء العقوبات، لكن الأمر الجلي والمؤكد أنه حصل على ضوء أخضر من المرشد علي خامنئي من أجل العودة لاستئناف مفاوضات الاتفاق النووي، ومعه فريق من المفاوضين الذين نجحوا سابقاً في التفاوض مع الغرب ومنهم عباس عراقجي وجواد ظريف.
السياق الإقليمي الذي شهد اندلاع “طوفان الأقصى” ترتبت عليه الحرب الإسرائيلية المستعرة في غزة منذ نحو عام في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ثم دخول “حزب الله” عبر ما يسمى “جبهة الإسناد” مع تصعيد التوترات في البحر الأحمر عبر هجمات الحوثي في أكتوبر 2023، وهذه التوترات الإقليمية دفعت طهران إلى هندسة المشهد الانتخابي بعد وفاة إبراهيم رئيسي للمجيء برئيس محسوب على التيار الإصلاحي في يونيو (حزيران) 2024، أي إنه في ظل تلك التوترات الإقليمية التي اشتعلت عبر وكلائها، كان على إيران المجيء بوجه إصلاحي يتبنى خطاباً معتدلاً يفتح نافذة للحوار والتواصل مع الغرب، تكون معززة بأوراق ضغط إقليمية في يد إيران متمثلة في الحوثيين و”حزب الله”.
ومن ثم فإن ما يشهده لبنان الآن من هجمات إسرائيلية تستهدف القدرات العسكرية والتنظيمية لـ”حزب الله”، جعلت بعضهم يتساءل حول الدور الإيراني والتدخل لدعم حليفها الرئيس، متوقعين أن تتدخل طهران لردع إسرائيل وتخفيف الضغط العسكري عن “حزب الله”، كل هذا توقع خيالي وغير واقعي ولا يتناسب مع المشهد الإقليمي الذي أججت إيران توتراته على مدى عام والمشهد الداخلي الذي عمت منه إلى رئيس إصلاحي والذي جعل إيران تمتص الضربات الإسرائيلية التي استهدفت سيادتها وكرامتها ولم تقُم بتوجيه ضربات انتقامية رداً على العمليات الإسرائيلية ضدها.
وحين سئل وزير الخارجية الإيراني حول استخدام القوة العسكرية لمساندة “حزب الله”، كان الجواب أن ليس الآن بسبب المفاوضات، وهل المقصود المفاوضات النووية؟، رداً على ذلك، قال عراقجي “’حزب الله‘ يتخذ قراراته بنفسه وهو قادر على حماية نفسه ولبنان والشعب اللبناني، لقد نجحت جبهات المقاومة و’حزب الله‘ على أرض المعركة حتى الآن، وستنتصر في النهاية”.
إن خطاب بزشكيان في الجمعية العامة للأمم المتحدة كان إيجابياً في ما يخص أهداف إيران برفع العقوبات والتفاوض مع الغرب ولكنه لم يفتح أي أرضية جديدة.
كما كرر مواقف إيران الثابتة في شأن قضايا الشرق الأوسط، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ولبنان، وهي مواقف تشكل سبباً للتوتر في العلاقات بين طهران والغرب، لكن الأهم هو ما جاء بالنسبة إلى إسرائيل والملف النووي.
ربما من المشكوك فيه أن يكون هناك أي تحرك في الملف النووي الإيراني حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية، وفي الوقت الحالي يتنافس الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء لإظهار من هو أقوى مؤيد لإسرائيل، وأي بيان أو إجراء إيجابي في شأن إيران من جانب بايدن أو هاريس أو ترمب سيتم استخدامه لتقويضهم من قبل منافسيهم، لكن بصورة عامة، فإن الملف النووي ومسألة العقوبات لا يمكن حلهما بمعزل عن نقاط النزاع الأخرى بين إيران والولايات المتحدة.
لكن الواضح والمؤكد أنه كلما تصاعدت التوترات في الشرق الأوسط، عملت طهران على استغلال الفرص في تقديم ذاتها كمفتاح لحل تلك الأزمات، ومن ثم فإن إيران عبر فريقها في نيويورك وخطاب الدبلوماسية والتعاون مع الغرب سواء الأطراف الأوروبية أو واشنطن أو أنها لا تستهدف التصعيد مع إسرائيل، تريد حل قضاياها الثنائية مع الغرب من خلال توظيف الوضع في لبنان وغزة الآن ومعهما البحر الأحمر بالتأكيد.
لكن يُذكر أن الأكثر أهمية في خطاب بزشكيان هو التأكيد أن بلاده لا تريد الحرب مع إسرائيل، واستخدامه اسم إسرائيل، وهو أمر جديد بين رؤساء إيران، فهو اعتراف واقعي بوجود إسرائيل ولم يقُل الكيان الصهيوني، وهي خطوة واعدة بالنسبة إليهم، فربما من خلال تغيير الخطاب نحو إسرائيل يتمكنون لاحقاً من التفاوض حول قضايا أخرى، من دون الحاجة إلى إقامة علاقات ودية.