حرية ـ (30/9/2024)
طوني فرنسيس
لم يترك سياق تطورات الحرب الإسرائيلية ضد “حزب الله” منذ منتصف سبتمبر (أيلول) الجاري مجالاً للشك في أن القيادة الإسرائيلية تعمل على توجيه ضربة قاصمة للحزب وإنهاء مرحلة من “التعايش” استمرت منذ عام 2006 وبقيت قائمة بنسبة كبيرة على رغم حرب إسناد حركة “حماس” في حربها الغزية منذ نحو عام.
لم يكُن هذا التوجه وليد اللحظة، وإن كان اتخذ خلال الأسبوعين الأخيرين أشكاله التنفيذية، وإنما هو جاء نتيجة الدرس الذي لقنته “حماس” لإسرائيل في هجمة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، عندما أظهرت القدرة على إنجاز اختراقات مفاجئة لدفاعات إسرائيل وإيقاع الضرر بمستوطنيها وممتلكاتهم، وربما احتلال وتحرير أجزاء من الأرض التي أقيمت عليها المستوطنات والتحكم بالمقيمين عليها قتلاً وتنكيلاً أو اتخاذهم أسرى للمقايضة بهم في وقت لاحق.
رأت إسرائيل في غزوة “حماس” تجسيداً لما كان يهدد به “حزب الله” على لسان زعيمه حسن نصرالله منذ أعوام، عندما كان يكرر مقولته إن إسرائيل هي كيان “أوهن من بيت العنكبوت” وإن قوات الحزب التي يجري إعدادها تحت مسمى “قوة الرضوان” ستتولى في يوم من الأيام اختراق الجليل وتحريره في شمال الدولة.
لم يقُم نصرالله بهذه المهمة، لكن يحيى السنوار قام بها من غزة، على وقع الاهتمام الإيراني بتوحيد ساحات المقاومة وتنظيم عملها في إطار محور تقوده طهران ويضع نصب عينيه إزالة إسرائيل من الوجود، وهي المهمة التي لن يستغرق تنفيذها، في تقديرات مسؤولين إيرانيين، أكثر من سبع دقائق ونصف الدقيقة.
فهمت إسرائيل بعد “الطوفان” ثم فتح “حزب الله” جبهة الشمال ضدها، أن التهديد “الوجودي” لم يعُد خطاباً إيرانياً وأن محاولة استغلالها “حماس” في غزة لإزعاج السلطة الفلسطينية وحركة “فتح” كما دأب نتنياهو على فعله لأعوام، باتت وصفة ساقطة، وأن “التسامح” مع “حزب الله” في حروبه السورية والإقليمية والداخلية لم يعُد مفيداً فيما كان الحزب يكدس تحت أنظارها وأنظار أميركا ودول الغرب، تجربة وصواريخ وعدة وعتاداً وعديداً.
أوقع السنوار الفأس في الرأس الإسرائيلية ليتبلور وسط المستوى السياسي الصهيوني نهج جديد ينطلق من ضرورة مواجهة تهديد وجودي من الشمال والجنوب، يتطلب الخلاص منه القضاء عليه، بل إبادته بكل ما للكلمة من معنى.
مارست إسرائيل هذه الإبادة في القطاع، فدمرت البنى التحتية والمساكن والمؤسسات وتلاعبت بمصائر مليوني فلسطيني وقتلت منهم نحو 50 ألفاً وعاندت في قبول أي تسوية قبل القضاء الجسدي على عدوها، وخلال معركتها هذه جمعت حولها أبرز القوى الدولية وفي مقدمتها أميركا، ولم يؤثر التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني في تعديل موقف إسرائيل أو الحكومات الداعمة لها، ففصلت تلك الحكومات بين الشعب و”حماس” وبدأت تتحدث عن دولة فلسطينية من دون الحركة التي سبق وصنفتها إرهابية.
كان “حزب الله” بدأ حربه ضد إسرائيل من دون امتلاك حجج كتلك المتوافرة لـ”حماس” عندما أطلقت حربها كمنظمة فلسطينية، وأول من رفض حرب الحزب كان الحكومة اللبنانية التي جرى “تطويعها” لاحقاً. وفي الحقيقة أن “حزب الله” الذي يمسك بمفاصل ما بقي من سلطات لبنانية ذهب إلى القتال بمفرده ولم يستشِر أياً من القوى السياسية الأخرى التي تمثل غالبية سياسية وطائفية لبنانية، بل سارع إلى اتهام معارضيه بالخيانة والعمالة للصهاينة.
رفض “حزب الله” أي نقاش أو حوار حول الحفرة التي جر بلاداً بأكملها إليها، لكنه أصر على الآخرين أن يأتوا إليه للتحاور في شأن تعيين رئيس للجمهورية، مما رفضه كثيرون، وما زالت الدولة من دون رئيس منذ ما يقارب عامين.
في عزلة تامة تمسك “حزب الله” بمواصلة حربه التي قادت إلى تهجير مليون لبناني وتدمير القرى وقتل المئات، ولم يكُن هذا الإصرار على المضي في الحرب مفهوماً لدى دول العالم مثلما لم يكُن مقبولاً في الداخل.
وحدها إيران بقيت مهتمة بإبداء الدعم والتوجيه وإرسال المستشارين، لكن رياحاً جديدة هبت عندما بدأ المسؤولون الإيرانيون يتحدثون عن مفاوضات مع أميركا وعن أولوية السعي إلى رفع العقوبات عن إيران.
وجاء الهجوم الإسرائيلي الكبير الأول على الحزب غداة تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بأن لا عداوة مع الأميركيين (الشيطان الأكبر عادة) بل “أخوة” ينبغي ترسيخها، فوقع هجوم الـ”بيجر” في اليوم التالي لهذه التصريحات.
اعتبر نتنياهو أنها فرصة مناسبة تستفيد من تخلٍّ إيراني ما كما رأى كثيرون، وكان الجهد الاستخباراتي الإسرائيلي استعداداً لتفجيرات أجهزة الاتصال قائماً منذ وقت طويل لكن القرار اتخذ في تلك اللحظة “الإيرانية” وبدأ الهجوم “النهائي” على “حزب الله” في وتيرة جنونية وصولاً إلى اغتيال أمينه العام ومعه نخبة قيادته.
لم تقدم القيادة الإيرانية ما يخفف من الشكوك الحادة بموقفها مما جرى ويجري، فخامنئي كان تحدث ببرودة قاسية عن استبدال القادة الذين تقتلهم إسرائيل، وأدلى بذلك قبل الاغتيال الكبير بيومين، وبعد اغتيال نصرالله أصدر بياناً لا ذكر فيه للراحل، فقط فيه وعد بأن “جبهة المقاومة” سترد وهذا يعني أنه يعفي نفسه من المسؤولية، الأمر الذي عرضته رسائل التعاطف من الرئيس بزشكيان ونائبه وفيها من اللياقات العامة ما لا يرتقي إلى موجبات التحالف الجبهوي في إطار المحور ومسؤولية طهران المركزية فيه وعنه، ثم جاء موقف البرلمان الإيراني ليؤكد أن البلاد لن تتولى أي رد على اغتيال قائد “درة تاجها” كما سمته يوماً.
سهل موقف نظام الملالي القائم على الردود اللفظية بما في ذلك على اغتيال إسماعيل هنية، وضع الخطط الإسرائيلية موضع التنفيذ، وبعضهم يذهب أبعد من ذلك ويتحدث عن تواطؤ وخروق استخباراتية إسرائيلية في الجسم الإيراني سهلت مهمة تل أبيب في استهداف جسم “حزب الله” بالطريقة المذهلة التي فاجأت الحزب وجمهوره.
واستفادت إسرائيل في الوقت نفسه من إصرار قيادة الحزب على المضي في حرب الإسناد لتقدم نفسها ضحية لا تستطيع السكوت على تهجير عشرات الآلاف من سكانها في الشمال المحاذي للبنان، ومارست عملية تضليل كبيرة عندما أعلنت قبولها الأسبوع الماضي مبادرة أميركية- فرنسية لوقف النار مع “حزب الله”، لكنها كانت حسمت قرارها بمواصلة حرب التصفية.
القرار باغتيال نصرالله اتخذ مطلع الأسبوع الماضي، والأربعاء كان حديث الهدنة في ذروته، ذهب نتنياهو إلى نيويورك واستدعي رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي إليها فذهب بمباركة “حزب الله”، وفي لحظة إلقاء نتنياهو كلمته أمام الجمعية العامة كانت طائراته تغير على المقر العام للحزب لتقتل نصرالله وقادة آخرين.
قتل نصرالله، الرجل الذي قيل إنه أهم من قاسم سليماني في قيادة محور المنظمات التي تديرها إيران، وسط تكهنات بأن أولويات إيران تتركز على مصالح نظامها الخاصة، وعشية انتخابات رئاسية أميركية ينتظرها العالم بأجمعه.
لم يسفر الاغتيال عن تحول في رؤية المنظومة الإقليمية والدولية لواقع لبنان والمنطقة، فالإدارة الأميركية اعتبرت فعل القتل “تحقيقاً للعدالة”، وثلاثي أستانا (روسيا وإيران وتركيا) ممثلاً بوزراء خارجيته التقى في نيويورك غداة الاغتيال و”دعا إلى ضبط النفس لمنع الهجمات الإسرائيلية على لبنان من التسبب في دوامة إضافية من العنف في سوريا”!.
غُيّب نصرالله وقادة حزبه في لحظة مفصلية، بدا فيها أن الجميع يرحب أو يتخلى، وإيران في طليعة المتخلين، لكن روسيا أيضاً تنأى بنفسها لأسباب أخرى، فبالنسبة إليها أن حرباً واسعة في الشرق الأوسط “لا تشكل خطراً عليها ، بل بالعكس تصرف النظر عن الحرب في أوكرانيا” على ما كتبت صحيفة “أوراسيا ديلي” الروسية.