حرية ـ (1/10/2024)
يواجه الاقتصاد الروسي مزيجًا معقدًا من الفرص والتحديات، حيث تُلقي العقوبات الغربية بثقلها على قطاعات عديدة، إلا أن روسيا تسعى للالتفاف على تلك الضغوط من خلال تعزيز تعاونها مع دول الشرق، ومجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي، فضلاً عن الاستفادة من احتياطياتها الضخمة من الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، كركيزة أساسية لدعم الاقتصاد.
وعلى الرغم من التحديات المتعلقة بنقص العمالة والتوترات الجيوسياسية، تبقى الفرص قائمة لتعزيز الشراكات مع دول غير غربية وتحقيق الاستقرار النسبي للإيرادات من قطاع الطاقة، مما يعزز من قدرة الاقتصاد الروسي على التكيف ومواجهة الضغوط المستقبلية.
وفي هذا السياق، يشير تقرير لـ “بيزنس إنسايدر” إلى أنه بينما تتحرك مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي والتضخم في روسيا “في الاتجاه الخاطئ”، يبدو أن السيناريو الأسوأ لأي اقتصاد يلوح في الأفق أمام موسكو.
قال البنك المركزي الروسي في ملخص اجتماعه الأخير: “هناك مؤشرات على تباطؤ الطلب المحلي.. ومع ذلك، لا يوجد تخفيف للضغوط التضخمية”. هذا الاقتران غير المحبب، المعروف عادة باسم الركود التضخمي، هو ما يفضل صناع السياسات تجنبه بأي ثمن.
ويوضح التقرير أنه سيناريو يصعب التصدي له أكثر من الركود. فعندما يتباطأ الاقتصاد، تخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة لتحفيز النشاط. ولكن إذا استمر التضخم في الارتفاع، تصبح الأمور معقدة، حيث يجب أن تبقى أسعار الفائدة مرتفعة للحد من نمو الأسعار، مما يترك الحكومات في حالة من الشلل.
وبينما ذكر تقرير لبلومبرغ أن بنك روسيا لم يشر إلى الركود التضخمي، فإن الظروف التي وصفها تجعل هذه المخاوف حقيقية.
وفي تقرير منفصل هذا الشهر، توقع البنك أن يتباطأ الناتج المحلي الإجمالي بشكل حاد العام المقبل. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الروسي ازدهر في ظل طفرة زمن الحرب، فإن العقوبات وقيود الإنتاج ونقص العمالة الشديد ستؤثر عليه بحلول عام 2025.
ويشير ملخص السياسة إلى أن تخفيضات إنتاج النفط من مجموعة “أوبك+” تؤثر أيضًا على النمو الروسي.
وفي ظل هذا السياق، لا يزال التضخم في تصاعد داخل روسيا. وقرر البنك المركزي رفع أسعار الفائدة إلى 19 بالمئة هذا الشهر، حيث لم تؤدِ الجهود السابقة إلى إبطاء التضخم.
ويرجع السبب في ذلك إلى الإنفاق الدفاعي لموسكو، والذي من المتوقع أن يظل عند مستويات قياسية حتى عام 2025. ويشير مشروع الميزانية الأخير للبلاد إلى أن الإنفاق سيتراجع قليلاً في السنتين التاليتين، وفق التقرير.
كما يسهم نقص العمالة في المشكلة؛ فمع الحاجة إلى القوات الروسية في الجبهة الأوكرانية، اضطرت الشركات إلى زيادة الأجور لجذب عمال جدد. وبنهاية العام الماضي، كان يُعتقد بأن البلاد تعاني من نقص في حوالي 5 ملايين عامل.
هناك جانب إيجابي محتمل لمخاوف الركود التضخمي: إذا استمر الطلب المحلي في التباطؤ، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض التضخم معه.
ويختتم تقرير بيزنس انسايدر: “مع ذلك، فإن الظروف لا تبشر بالخير لروسيا. فعندما ضرب الركود التضخمي الولايات المتحدة في السبعينيات، اضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى إحداث ركود عميق لإنهاء الاضطرابات”.
فرص
الأستاذ بكلية موسكو العليا للاقتصاد، رامي القليوبي، أشار في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن التقديرات المتعلقة بالاقتصاد الروسي (التي يُروج إليها الإعلام الغربي) قد لا تكون دقيقة؛ إذ إن الحرب مع أوكرانيا أصبحت قاطرة غير متوقعة للاقتصاد الروسي بشكل عملي.
وأضاف: “خالفت روسيا التصورات التقليدية التي تربط الدول في حالة الحرب بالمجاعات والفقر، حيث أظهرت أن الدولة التي تخوض عمليات عسكرية محدودة يمكنها أن تحقق نموًا اقتصاديًا”، موضحاً أن المصانع الحربية في روسيا تعمل بكامل طاقتها، ويعمل في هذا القطاع حوالي مليوني شخص.
كما أشار إلى أن مئات الآلاف من الجنود، وربما أكثر من مليون، يقاتلون على الجبهة، ويتقاضون رواتب تبدأ من 2000 دولار شهريًا، وهي مبالغ تتجاوز متوسط الدخل في روسيا وتعود لتدوير عجلة الاقتصاد من خلال الإنفاق على القروض العقارية والاستهلاك.
وبحسب القليوبي، فإن العقوبات الغربية لم تتمكن من عزل روسيا اقتصاديًا؛ لأنها أحادية الجانب ولم تمر عبر مجلس الأمن الدولي، ما جعل الالتزام بها غير ملزم للدول غير الغربية. وأكد أن روسيا نجحت في تعزيز شراكاتها مع دول مثل الهند وتركيا والصين والدول العربية والأفريقية، ما عوض إلى حد كبير خسارة السوق الأوروبية، لافتًا إلى أن بعض الدول الأوروبية، مثل النمسا، لا تزال تعتمد على الغاز الروسي.
ومع ذلك، أشار القليوبي إلى أن الاقتصاد الروسي يواجه تحديات على المدى الطويل، منها نقص العمالة بسبب انشغال مئات الآلاف في القطاع العسكري، وتشديد روسيا لإجراءات الهجرة بعد الهجوم على “كوروكو سيتي هول”. كما تحدث عن التأثيرات السلبية على الوضع الديموغرافي نتيجة الحرب، إذ إن الأغلبية من المقاتلين في سن الإنجاب، إضافة إلى الهجرة من روسيا، ما قد يترك آثارًا هيكلية سلبية على الاقتصاد الروسي مستقبلاً.
تحديات جسيمة
على الجانب الآخر، فإن خبير العلاقات الدولية والأستاذ بجامعة لوباتشيفسكي الروسية، الدكتور عمرو الديب، أكد أن الاقتصاد الروسي يواجه تحديات جسيمة جراء “تسونامي العقوبات الغربية” الذي يلعب دورًا سلبيًا لا يمكن تجاهله. ومع ذلك، تحاول روسيا مواجهة هذه التحديات عبر الاعتماد على مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي، بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها الثنائية مع دول الشرق الأوسط ودول الاتحاد السوفييتي السابق.
وأوضح الديب في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن الاقتصاد الروسي يعتمد بشكل كبير على الموارد الريعية، لا سيما مبيعات النفط والغاز، والتي أصبحت تلعب دورًا حيويًا بعد توقف بعض خطوط الأنابيب مع السوق الأوروبية، مثل خط الأنابيب الشمالي المتجه إلى الصين.
وأشار إلى أن تأثير هذه العقوبات، رغم خطورته، لا يزال تحت السيطرة في ظل استقرار إمدادات الطاقة. لكنه حذر من أن أي اضطراب في أسعار النفط أو الغاز، أو توقف إمدادات الطاقة الروسية إلى الأسواق العالمية، قد يتسبب في تأثير سلبي كبير على الاقتصاد الروسي، نظرًا لأن الإيرادات الفيدرالية تعتمد بشكل مباشر على أسعار الطاقة. وفي ظل استمرار استقرار أسعار الطاقة عند مستوياتها الحالية، لا يُتوقع حدوث سيناريوهات سلبية خطيرة على المدى القريب. لكن إذا تأثرت الأسعار أو توقفت الإمدادات، فإن السيناريوهات السلبية قد تصبح واقعًا قاتمًا على المدى القريب والمتوسط.