حرية ـ (3/10/2024)
نبيل فهمي
أثارت الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتى ستجرى فى أواخر عام 2024، نقاشًا عالميًا جديًا حول مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية. كان تركيز الولايات المتحدة الأساسى فيما مضى منصبًا على الاتحاد السوفيتى، ولكن مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى، حول المحللون السياسيون تركيزهم نحو آسيا، وبالأخص نحو محاولة استقراء قدرة الصين على المنافسة.
بينما أدت الأحداث والتطورات العالمية الأخيرة، مثل: حرب أوكرانيا – والتوترات التى تلت ذلك مع روسيا – والصراع فى غزة، إلى تحويل الانتباه مؤقتًا عن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، يظل هذا الملف محوريًا للغاية.
وعلى مدار مسيرتى الدبلوماسية الطويلة، كان لى شرف مقابلة مسؤولين أمريكيين رفيعى المستوى، بمن فى ذلك وزراء الخارجية، والاستماع إليهم يتبادلون أفكارهم حول أولويات السياسة الخارجية الأمريكية والقوى الدافعة لها. وكانت الفكرة الثابتة التى كونتها هى أن السياسة الخارجية الأمريكية يتم تحفيزها دائمًا من خلال «العدو المُتصور»، فهو المبرر الأكثر إقناعًا على مستوى الداخل الأمريكى للتكلفة الباهظة والمخاطر المرتفعة المرتبطة بممارسة أمريكا للسلطة والنفوذ على مستوى العالم.
على الجانب الآخر، أتاحت لى أيضًا خبراتى الدبلوماسية فرصًا كثيرة للتعامل مع مسؤولين صينيين رفيعى المستوى فيما يتعلق بسياسة الصين الخارجية. وهكذا، فإن ملاحظاتى هنا تتشكل من خلال فهمى للسياسة والدبلوماسية الخارجية الأمريكية، ولوجهات النظر الصينية حول المفاهيم والسياسات الأمريكية المتعلقة ببكين؛ ولذا فإن لهذه الملاحظات أهمية خاصة لأنها تؤثر بشكل كبير فى التوقعات المتعلقة بالإدارة الأمريكية القادمة، خلال السنوات المقبلة. سواء أكانت بإدارة هاريس أم ترامب.
بكين.. تهديد متزايد
نتج عن نمو الصين البطىء فى البداية، بالإضافة إلى مواقفها السياسية الخارجية الحذرة، تصنيفها تحت مظلة العالم النامى؛ مما أدى إلى تهدئة المخاوف الأمريكية تجاه بكين. ثم أعقب هذه الفترة من اللامبالاة النسبية، محاولات لدفع التنمية الاجتماعية والسياسية فى الصين من خلال استراتيجيات وأدوات اقتصادية، ولاسيما من خلال تشجيع التجارة الأكثر كفاءة/نجاحًا، وتعزيز الشهية المتزايدة للنزعة الاستهلاكية.
توافقت هذه الاستراتيجيات الاقتصادية بسلاسة مع برامج الرئيس الأسبق، دنغ شياو بينغ، الإصلاحية بالصين، والتى تضمنت تطوير «اقتصاد السوق الاشتراكى»، وسياسات التحول إلى مؤسسات وشركات كبرى، وتشجيع القطاع الخاص؛ نتج عن تلك السياسات تزايد الثقل الاقتصادى لبكين وأصبحت أكثر قدرة على المنافسة بالأسواق العالمية. وهنا بدأت المخاوف الأمريكية الكامنة، فى الظهور على السطح.
أتذكر بوضوح مخاوف الخبراء والمثقفين والنقاشات الساخنة التى دارت بينهم فى مطلع القرن الماضى، والتى كانت تحذر من إمكانية استحواذ الصين على شركات أمريكية بقارة آسيا. ثم تزايدت هذه المخاوف عقب تولى شى جين بينغ، الأكثر إصرارًا وحزمًا، منصب الرئاسة، ووصلت إلى ذروتها فى أعقاب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى. ومنذ أكتوبر 2022، عقد الحزب ثلاث جلسات عامة سنوية، كانت التطلعات الاقتصادية وكذلك السياسات الأمنية فيها بارزة وجلية.
إن الحرب الأوكرانية الروسية كانت سببًا فى تفاقم القلق الغربى، وخاصة الولايات المتحدة؛ إذ سادت عقلية «إما معنا أو ضدنا» إلى حد كبير. أما فى المقابل؛ فإن الصين قد تبنت نهجًا مدروسًا فى التعامل مع هذا الصراع، فامتنعت عن توبيخ روسيا إلا فى حالة قيام الأخيرة بالتهديد باستخدام أسلحة نووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل.
وقد أدى هذا الموقف إلى تفاقم المخاوف الأمريكية المتعلقة بانتشار التكنولوجيا الصينية، وزيادة وزن بكين اقتصاديًّا، ونشر بصمتها بالأسواق العالمية، وزيادة دورها كمستهلك للطاقة والمعادن، وتنامى نفوذها فى آسيا.
الصين والانتخابات الأمريكية
تعكس وثائق الأمن القومى الأمريكية والبيانات الرسمية الصادرة عن إداراتى بايدن وترامب بوضوح أن التيار السائد فى أمريكا اليوم ينظر إلى الصين – وليس روسيا – باعتبارها القوة العظمى الأخرى فى المستقبل المنظور؛ ومن ثم، أصبحت الصين هى الدولة التى تسبب القدر الأكبر من القلق للولايات المتحدة. والواقع هو أن الهيئة السياسية الأمريكية برمتها الآن منشغلة بالصين، والتى تعتبر إمكاناتها الاقتصادية والتكنولوجية الهائلة منقطعة النظير، حتى مع احتفاظ الولايات المتحدة بنفوذها العسكرى والسياسى.
وقد لوحظ مؤخرًا أن ترامب قد بدأ على نحو مفاجئ فى اتباع سياسة تصادمية تجاه الصين، على النقيض مما اعتاده فى خطابه وفى سياسته والتى دائمًا ما تروج للصفقات. وامتد هذا النهج التصادمى إلى ما هو أبعد من المسائل الاقتصادية؛ إذ صنف بكين على أنها «قوة رجعية»، بل وخطرة أيضاً. وحتى بايدن التقليدى لم يغير هو الآخر من توجهاته عند توليه منصبه، بل على العكس، فقد قام بتكثيف بعض التدابير تجاه بكين، مثل فرض قيود أكثر صرامة على عمليات نقل التكنولوجيا؛ مما يؤكد بشكل كبير أن كلا الحزبين الأمريكيين ينظر إلى الصين الآن باعتبارها خصمًا رئيسيًّا. وما أثار استياء الصين ودهشتها معًا هو أن هذه العلاقة الاستراتيجية الحيوية والحساسة تُعالج فى أمريكا بطريقة شعبوية؛ الأمر الذى أدى إلى تغذية المخاوف وتفاقمها، بدلًا من تهدئتها. ويتناقض هذا النهج بشكل صارخ مع نهج نيكسون/كيسنجر، والذى كان أكثر حنكة فى التعامل مع السياسة العالمية؛ إذ كان يوازن بعناية بين التهديدات والفرص.
وبالنظر إلى توقعات الصين السياسية التقليدية؛ فإن بكين لا تنتظر تحولًا كبيرًا فى السياسة الأمريكية، بغض النظر عما إذا كانت الانتخابات الرئاسية ستؤدى إلى فوز إدارة هاريس/والز، أو إدارة ترامب/فانس. ومع ذلك، فإن بكين ستستمر فى مراقبة اللهجة والتدابير التى ستتخذها الإدارة الأمريكية المقبلة عن كثب. وبما أن الولايات المتحدة يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها فى حالة انتقالية، فمن غير المرجح أن تستخلص الصين استنتاجات متسرعة حول سياساتها الآن، خاصة أنها عايشت سياسات مماثلة من قبل أثناء إدارة كل من ترامب وبايدن، وقد كان ذلك بنبرة عدوانية وتدابير خاضعة للرقابة مع ترامب، ونغمة أكثر خفوتًا ولكن تصاحبها إجراءات حازمة بنفس القدر مع بايدن. إذا فاز الديمقراطيون، فقد يكون هناك فهم أفضل للثقافة والتاريخ الصينى داخل الإدارة الأمريكية، خاصة أن المرشح لمنصب نائب الرئيس، تيم والز، قد عاش فى الصين لفترة. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر أن والز كان أيضًا مدافعًا قويًّا عن حقوق الإنسان فى الصين؛ مما يوحى بأن العلاقات الأمريكية الصينية لن تكون سلسة تماماً.
وخلاصة الأمر هى أن الصين ما زالت فى حيرة من أمرها بشأن الولايات المتحدة ومن سيتم انتخابه، ولكنها تنظر إلى نتيجة الانتخابات الأمريكية القادمة باعتبارها ذات تأثير محدود فى الأمد القريب. أما ما تهتم به بكين حقيقة فهو التأثيرات طويلة المدى التى ستخلفها سياسات الإدارة المنتخبة على «النقاش حول الصين»، الجارى فى أمريكا الآن.
ثلاثة اتجاهات محتملة
يمكن تصنيف «النقاش حول الصين» داخل الولايات المتحدة إلى ثلاثة اتجاهات فكرية أساسية، لكل منها أسلوبه وأدواته فى التعامل مع بكين.
تضع المجموعة الأولى من المحللين العلاقات الأمريكية الصينية فى إطار الحرب الباردة؛ بحجة أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين «يجب الفوز بها، وليس مجرد إدارتها». فى المقابل، تنظر المجموعة الثانية من الاستراتيجيين إلى «المنافسة» بين الطرفين على أنها «وضع قائم بالأحرى إدارته، لا إيجاد حل له» فهى ليست لعبة صفرية وفقًا لهم. بينما ترى المجموعة الثالثة من الاستراتيجيين أن «التكيف» هو النهج الواقعى الوحيد لمواجهة هذا التحدى المستمر بين القوتين.
ورغم هيمنة وجهات النظر الثلاث على الخطاب الأمريكى، فإن الصينيين وحدهم هم القادرون على وصف رؤيتهم للسياسة الخارجية العالمية بدقة، وتوقعاتهم بشأن الولايات المتحدة. فعلى مر السنين كانت بكين تكشف عن موقفها تدريجيًّا، والذى غالبًا ما كان يتضمن عنصر تهديد – كرد فعل – مع التركيز على المصالح المشتركة، ومبادئ التعاون والاحترام فى الوقت ذاته. وكان لهذا النهج صدى كبير فى العالم النامى.
تدرك بكين تمامًا أن العلاقات الصينية الأمريكية لها تأثير كبير، فى مصالحها وسياساتها الخارجية؛ ولذا ففى العقود المقبلة ستقوم كلتا القوتين بمراقبة الأخرى عن كثب. ونظرًا لحجمهما الضخم ونفوذهما الهائل على الساحة العالمية، فمن المهم جدًّا عدم حدوث أى سوء تفاهم بين الطرفين.