حرية ـ (5/10/2024)
هل تعني محبتك لشخص ما معرفة كل شيء عنه؟ لا شك في أنك بحاجة لبعض المعلومات، وهي في أفضل الأحوال مثلاً معلومات عن طبيعة عمله، وأسماء أفراد عائلته… وتاريخ ميلاده. لكن ماذا عن موقعه الجغرافي المحدد، هل تحتاج أن تعرف كل تحركات شريكك في جميع الأوقات، هل تحتاج أن ترى بالتحديد موعد وصوله إلى مكان معين وموعد مغادرته هذا المكان بشكل دقيق؟
قبل بضع سنوات فقط، بدت لنا تطبيقات التعقب والرصد أشبه بشيء نراه في مسلسل درامي خيالي مظلم على محطة “بي بي سي”، لكنها اليوم شبه سائدة بيننا. وبحسب استطلاع للرأي عام 2019، يستخدم 40 في المئة من الآباء وأولياء الأمور في المملكة المتحدة نظام تحديد المواقع (GPS) لتتبع تحركات أبنائهم يومياً. بالنسبة إلى الأصدقاء، قد يشكل هذا السلوك تعبيراً عن العاطفة والاهتمام. حالياً، أنا أتتبع حركة 10 أصدقاء (إضافة إلى والدتي) عبر تطبيق “فايند ماي” على هاتف آيفون. لكن تبدو مراقبة حركة الشريك أمراً مختلفاً.
إنها فكرة سديدة ظاهرياً. فمن المنظور العملي، يمكنك أن تعرف متى سيتأخرون عن موعد العشاء. ويمكنك أن تتأكد من وصولهم بسلامة إلى الفندق عندما يسافرون لدواعي العمل، وأن تتأكد من هبوط طائرتهم في الوقت المحدد، وهكذا دواليك. وبتعبير مبسط، تمنحك هذه الأداة الشعور بالأمان لمعرفتك أنه لو تعرض أحباؤك لأي أذى، فأنت قادر على الأقل أن تعرف مكانهم.
تقول ميلي، 30 عاماً، “بدأت في الآونة الأخيرة في مشاركة موقعي الجغرافي مع شريكي من خلال تطبيق تعقب الأصدقاء ويمكنني أن أقول بثقة ويقين إننا نستخدمه إجمالاً لدواعٍ عملية. عادة، نتأكد إذا وصل الآخر إلى المنزل بعد العمل أو عاد من سهرة قضاها في الخارج. وعلى الصعيد الشخصي، يريحني أن أعرف أنه مطلع على مكان وجودي لأسباب تتعلق بالسلامة. علاوة على ذلك، إن كنا نحاول أن نلتقي في مكان ما، فمن الأسهل لنا تقدير موعد اللقاء من خلال هذه الطريقة”.
هذا كله كلام منطقي. وإن كنت تستخدم التطبيقات بهذه الطريقة، فلا ضير منها على الإطلاق. حتى إنها مفيدة، وليس فقط من أجل التفاصيل العملية العادية لكن من أجل بناء أساس صلب وصريح في العلاقة. وتقول غريس، 30 سنة، التي تستخدم تطبيق تعقب مع زوجها لأسباب ترتبط أولاً بالسلامة، “لا يتعلق الموضوع بالنسبة إلينا بالتجسس على الآخر لنطمئن إلى إخلاصه. كما أنه مؤشر احترام لبعضنا البعض. نعلم أن أياً منا لن يخون الثاني أبداً، لكن هذا مجرد تعبير من كل واحد منا عن عدم وجود ما يخفيه ولا ما يدعو للشك”.
هناك فوائد أخرى غير متوقعة أكثر كذلك. وتضيف غريس، “نستخدم التطبيق أيضاً لنفاجئ الآخر. لو كان أحدنا يخطط لعشاء رومنسي مفاجئ مثلاً، سيحتاج إلى معرفة مدى قرب الشخص الآخر كي يعرف متى يضع الطعام على الطاولة أو يشعل الشموع”.
وفي حالات كثيرة، توفر تطبيقات التعقب راحة نفسية ببساطة. تقول نيكول، 40 سنة، “نحن نسكن في لوس أنجليس ولذلك نعي جيداً مدى احتمال حدوث ظواهر جوية خطيرة مثل الزلازل واحتمال وقوع جرائم. كما أن الأزمة المرورية خانقة في منطقتنا لذلك كنت أتساءل أحياناً إن كان زوجي بخير في طريق العودة من العمل إلى المنزل بسبب تأخره عن موعده المعتاد. فاخترنا في النهاية أن نلجأ إلى تطبيق التعقب كي أتتبع عودته إلى المنزل دون أن أقلق”.
وفي بعض الأحيان، قد يكون تتبع تحركات الشخص منقذاً للحياة. فلنأخذ مثل ماغي، 21 عاماً، التي واعدت جيمس، 22 عاماً، سنة كاملة قبل أن يقررا البدء برصد تحركات بعضهما البعض من خلال تطبيق “لايف 360” Life360 الذي توفره شركة مقرها في سان فرانسيسكو ويُعد من أشهر تطبيقات تتبع الحركة حول العالم وأكثرها شعبية بفضل استخدام نحو 70 مليون مستخدم له شهرياً. في إحدى الليالي، استيقظت ميغ عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل على اتصال هاتفي من جيمس يخبرها فيه إنه تعرض لحادثة سير. وتقول، “كان هاتفه يوشك على الإغلاق ولم يكن قادراً أن يصف لي موقعه بالتحديد بسبب غياب الأضواء أو المنازل في الشارع. كان في مكان مجهول تماماً”.
“بالنسبة لي ولشريكي، لا يتعلق الموضوع بتجسس أحدنا على الآخر لنطمئن إلى إخلاصه” كما تقول غريس، 30 سنة (غيتي/ آي ستوك)
لكنها تمكنت من العثور على موقعه بفضل تطبيق تعقب الحركة. وتشرح “وجدت سيارته التي انقلبت في حفرة إلى جانب الطريق”. من دون “لايف360″، كان ليعلق في السيارة طيلة ساعات.
ولهذا، لا يصعب أن نفهم سبب تزايد شعبية تطبيقات التعقب والتتبع بين الأزواج- لكن استناداً إلى مدى صحة وسلامة علاقتك مع الشريك، من السهل أن ترى في الوقت نفسه كيف يمكن لهذا الشكل المستمر من التعقب لدواعٍ أمنية أن يتحول إلى شيء أكثر ضرراً، يثير ارتياب الشريك وشكوكه.
“قد يؤدي ذلك إلى نوع من الشكوك أو انعدام الثقة لا سيما إذا أطفأ الشخص خاصية تتبع الموقع، أو ترك هاتفه في المنزل”
جورجينا سترمر، معالجة نفسية
وتشرح المعالجة النفسية جورجينا سترمر “يكمن الخطر في أننا قد نشعر وكأن شريكنا يحاول مراقبتنا دائماً. قد يثير ذلك نوعاً من الشكوك أو انعدام الثقة لا سيما إذا أوقف الشخص خاصية مشاركة الموقع، أو ترك أجهزته في المنزل. قد يُشعرنا ذلك بالقلق من التصرف بعفوية أو القيام بشيء لا يوافق عليه الشريك بالضرورة”.
وبالطبع، يمكن لتتبع حركات الشخص أن يأخذ منعطفاً أكثر قتامة. فالقدرة على مراقبة ورصد كل تحركات الشريك هو تطبيع بشكل من الأشكال لسلوك المطاردة والتربص للآخر. وهذه تقنية يمكن بكل سهولة أن يُساء استخدامها إذا وقعت بالأيدي الخطأ، كما أنها قد تخلق مشاكل لم تكن موجودة قبلاً ولا في الحسبان. ليس من الصعب أن نفهم كيف يمكن لرصد تحركات أحدهم لأسباب عملية أن ينقلب هوساً خطيراً.
ففي النهاية، من غير الطبيعي بكل بساطة أن نعرف مكان وجود شخص آخر على مدار الساعة واليوم، مهما كانت طبيعة العلاقة التي تجمعك به. (ومجرد ضرورة استخدام تطبيقات التعقب لدواعي السلامة والأمن، دليل مؤسف على مستوى الأخطار التي وصلنا إليها اليوم). لكن كما يمكن أن نضعف جميعاً أمام الرغبة غير المؤذية بتعقب أشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي، ربما هي مسألة وقت ليس إلا قبل أن تصبح مراقبة المواقع على مدار الساعة واليوم في الحياة الواقعية أمراً عادياً في ظل انتشار هذه التكنولوجيا أكثر فأكثر.
غالباً ما تكون هذه المسائل في المنطقة الرمادية من الناحية الأخلاقية. ولا يختلف الأمر عن اختراق هاتف أحدهم لأنك تشك في خيانته لك، فربما تكون على حق، إنما لا يغير ذلك من واقع أنه انتهاك للخصوصية، وحدود ربما كان من الأفضل ألا تتخطاها. وليست تطبيقات التعقب وحدها التي تثير هذه التساؤلات.
فلنأخذ مثال تطبيق “سترافا” Strava الشهير للتمارين الرياضية الذي يتيح لمستخدميه مشاركة الصور والدردشة حول نشاطاتهم الرياضية المختلفة؛ فالتطبيق يبين مكان وجود الأشخاص بالتحديد أثناء ممارستهم هذه النشاطات. في وقت سابق من العام الجاري، انتشر مقطع فيديو لامرأة من سافانا، جورجيا، على تيك توك، زعمت فيه أنها اكتشفت خيانة زوجها العسكري الذي تزوجته لمدة أربعة أعوام، بفضل “سترافا”.