حرية ـ (6/10/2024)
جاك سترو
قد يتطلب الأمر الاستعانة بمنظور المؤرخين لتحديد ما إذا كانت منطقة الشرق الأوسط تعيش الآن أخطر لحظاتها منذ “حرب يوم الغفران” Yom Kippur War في عام 1973 (التسمية العربية هي “حرب السادس من أكتوبر ’تشرين الأول‘” عندما شنت مصر وسوريا هجوماً متزامناً على إسرائيل لاستعادة منطقة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية). من المؤكد أن الوضع الشرق أوسطي يتجه نحو هذا الدرك، خصوصاً أن كلا الجانبين منخرط في لعبة عالية الأخطار ذات رهانات غير مسبوقة.
ويواجه في الواقع القادة على الجانبين ضغوطاً شخصية هائلة. وعلى رغم أن أوجه القصور كثيرة في إسرائيل (ولا سيما في ظل حكم بيبي نتنياهو، الذي يقود ائتلافاً حكومياً هشاً ويواجه اتهامات بالفساد)، فإنها تظل دولة ديمقراطية. أما إيران، فهذه ليست على هذه الحال.
صحيح أن جزءاً من الحكومة الإيرانية هو منتخب، لكن قطاعات الدفاع والاستخبارات والأمن تخضع لسيطرة مباشرة من المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يبلغ من العمر الآن 85 سنة، والذي لم يغادر البلاد على الإطلاق منذ توليه السلطة في عام 1989. وما يسهم في تعزيز سيطرته هو جهاز “الحرس الثوري الإيراني”، إضافة إلى شبكة واسعة النطاق من الموالين المخلصين له في جميع أنحاء البلاد. ويكاد يكون تفانيهم أقرب إلى التعصب الأعمى، وهو أمر لا يمكن تصديقه حتى يشاهد من كثب.
ويرى مطلعون بشكل وثيق على ما يدور في إيران كما تناهى إلى أن النظام في طهران فقد ذلك الدعم الصامت الذي كان يحظى به من نحو 80 في المئة من السكان، منذ وفاة الشابة مهسا أميني في عام 2022، التي اعتقلت لعدم ارتدائها الحجاب على نحو ملائم. كما أن اقتصاد البلاد يعاني كثيراً تحت وطأة العقوبات الشديدة، مما دفع بكثير من الأفراد الموهوبين في إيران إلى مغادرة البلاد.
في بعض الأحيان، بدا أن خامنئي يدرك هذا التحول. ففي الانتخابات الرئاسية التي أجريت هذه السنة سمح بترشيح شخصية أكثر اعتدالاً هو مسعود بزشكيان، الذي فاز فيها. وفي الشهر الماضي، استخدم الرئيس الإيراني الجديد لهجة توافقية [غير تصعيدية] في الخطاب الذي ألقاه في الأمم المتحدة، عندما دعا الولايات المتحدة إلى استئناف المحادثات النووية.
إلا أن خطوة بزشكيان هذه تجُوهلت إلى حد كبير. وبدا واضحاً أن الإجراءات الاستفزازية الأخيرة التي اتخذها خامنئي و”الحرس الثوري الإيراني” – حين إطلاق نحو 200 صاروخ على مدن إسرائيلية [على حين غرة] من دون سابق إنذار – تشير إلى أنهما اختارا خوض مغامرة شديدة الخطورة.
إنها استراتيجية محفوفة بالأخطار إلى حد كبير. وعلى رغم أنني لا أؤيد حكومة بنيامين نتنياهو التي كانت سياستها في التعامل مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة مروعة، فإنه يجب الإشارة إلى أن إسرائيل هي دولة صغيرة نسبياً يبلغ عدد سكانها 9 ملايين نسمة (بمن فيهم مليونا شخص من العرب الإسرائيليين)، مقارنة بإيران التي يبلغ عدد سكانها 88 مليون نسمة.
وفيما لا تشكل إسرائيل تهديداً وجودياً لإيران، فإن إيران تهدد وجود إسرائيل. وقد تسبب إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 – في أعقاب انسحاب بريطانيا وإنهائها التفويض الانتدابي على فلسطين الذي منحتها إياه “عصبة الأمم” آنذاك – بعواقب وخيمة لكثير من الفلسطينيين، ولا تزال تلك الندوب قائمة حتى اليوم. لكن إسرائيل كانت عضواً معترفاً به بالكامل في منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1949.
مع مرور الوقت، أدركت الدول العربية المجاورة تدريجاً هذه الحقيقة. وكانت إيران في عهد الشاه حليفة لإسرائيل. حتى في الأعوام الأولى التي تلت سيطرة الثورة الإسلامية الإيرانية على البلاد في عام 1979، كانت طهران تدير علاقاتها مع إسرائيل ببراعة. ومن يذكر أنه خلال الحرب الإيرانية – العراقية الدامية (1980 – 1988)، كانت إسرائيل المورد الوحيد للأسلحة الذي تعتد به إيران.
لكن على مدى عقود من الزمن، اتخذت القيادة الإيرانية نفسها موقفاً معارضاً لإسرائيل، إلى حد أن أعضاء النظام الإيراني يرفضون حتى لفظ كلمة “إسرائيل”. ويسعون باستمرار إلى تقويض شرعيتها ووجودها من خلال الإشارة إليها باعتبارها “الكيان الصهيوني”. وعندما كنت أسأل في كثير من الأحيان عن الخطوات التي يمكن أن “يتخذوها” ضد إسرائيل إذا ما سنحت لهم الفرصة، كانت تظهر عليهم علامات الارتباك.
وفيما نفى الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد كلياً أن يكون قد أعرب عن رغبته في “محو إسرائيل عن الخريطة”، إلا أنه والمرشد الأعلى كررا مراراً أنهما يعتقدان أن إسرائيل “لن تستمر كدولة”. هذا المنحى يعكس في رأيي استراتيجية تفتقر إلى المنطق.
طورت إسرائيل على مدى عقود من الزمن قدرات كبيرة في مجال الأسلحة النووية. وفي حين أن موقفها الرسمي من الموضوع يتلخص بـ”عدم التأكيد أو النفي” Neither Confirm Nor Deny (NCND)، إلا أن مسؤوليها يبررون في السر بناء ترسانتهم، من خلال حديثهم عن التهديدات التي يمثلها “الجوار الخطر”، مشيرين بذلك إلى العداء الإيراني لدولتهم، والدعم المالي الذي تقدمه طهران لوكلائها في مختلف أنحاء المنطقة.
أما إيران فتمتلك برنامجاً نووياً قائماً منذ فترة طويلة، وهي تؤكد الدوام أنه مخصص للأغراض السلمية فحسب، كتوليد الطاقة والأبحاث الطبية. وغالباً ما يشير مسؤولوها إلى فتوى كان قد أصدرها المرشد الأعلى تحظر على البلاد السعي إلى الحصول على أسلحة نووية.
لكن هذه الفتوى لم تكن كافية قط لتهدئة قلق المجتمع الدولي، وطمأنته إلى أن إيران لا تسعى سراً إلى تطوير أسلحة نووية في وقت تعمل فيه ظاهرياً على استكشاف مصدر للطاقة، وتكتسب بسرعة القدرة على تجميع مثل هذه الأسلحة إذا ما لزم الأمر.
هذا القلق كان هو الذي دفع بي وبنظيري الفرنسي والألماني إلى بدء مفاوضات مع إيران في عام 2003. وبعد سلسلة من المحاولات المتقطعة، أسفرت هذه الجهود في نهاية المطاف عن توقيع الاتفاق الدولي مع طهران في عام 2015، المعروف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة” Joint Comprehensive Plan of Action (JCPOA). ويتلخص بأنه في مقابل الرفع التدريجي للعقوبات عن طهران، تقبل بإشراف دولي شامل وتدخلي على برنامجها النووي.
ولأسباب لم أفهمها مطلقاً، شن نتنياهو حملة شرسة على “خطة العمل الشاملة المشتركة”. وأثرت حملته في نهاية المطاف في الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، الذي قرر الانسحاب من الاتفاق في عام 2018، واصفاً إياه بأنه “فظيع” و”منحاز”.
والمفارقة أن عدداً من المتشددين الإيرانيين شاركوا ترمب رفضه “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وإن كان ذلك لأسباب معاكسة. فقد أدركوا أن الاتفاق قيد بشكل كبير قدرة طهران على تطوير أسلحة نووية تشغيلية، لأن برنامجها كان خاضعاً للرقابة المستمرة والتدقيق. ومنذ أن تحررت من تلك القيود، وسعت إيران بشكل كبير إلى إنتاجها اليورانيوم العالي التخصيب، وهو أمر بالغ الأهمية لصنع رأس حربي نووي. كما تمتلك إيران أنظمة صاروخية متقدمة قادرة على إطلاق مثل هذه الأسلحة.
قبل نحو 21 عاماً عندما شرعت للمرة الأولى في إجراء مفاوضات نووية مع إيران، كان محاوري الرئيس هو كمال خرازي وزير الخارجية في عهد الرئيس الأكثر اعتدالاً محمد خاتمي. وقد أصبحت أكن له احتراماً عميقاً. ففي لحظة محبطة بالنسبة إليَّ خصوصاً، سألته عما إذا كانت لديه أي فكرة عن الطريقة التي يمكن من خلالها التفاوض مع الحكومة الإيرانية، فأجابني على الفور: “لكن يا جاك، لا يمكنك أن تدرك مدى صعوبة التفاوض داخل الحكومة الإيرانية نفسها”.
يعد خرازي من الشخصيات المطلعة على ما يدور حقيقة داخل النظام الإيراني، وهو يتولى الآن منصب رئيس “المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية” في إيران، الذي يعينه المرشد الأعلى للجمهورية. وفي مقابلة أجرتها معه قناة “الجزيرة” في مايو (أيار) الماضي، نبه إلى أنه في حال اختارت إسرائيل مهاجمة البنية الأساسية النووية لبلاده، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تحول في عقيدة السياسة النووية الإيرانية. وكرر تصريحاً كان قد أدلى به قبل نحو عامين، أشار فيه إلى أن “إيران لديها القدرة على تصنيع قنابل نووية”، مؤكداً أن هذه القدرة لا تزال قائمة حتى اليوم.
المخططون العسكريون الحكماء يعملون على افتراض أن إيران ربما باتت أقرب إلى تطوير قنبلة نووية عملية، مما اعترف به كمال خرازي. ففي الماضي، أعاقت إسرائيل البرنامج النووي الإيراني من خلال اغتيال علماء نوويين رئيسين وعمليات تخريب. ومع تصاعد التوترات، قد تفكر إسرائيل الآن في اتباع نهج أكثر مباشرة، وربما استخدام قنابل “خارقة للتحصينات”، لتعطيل أجزاء من البنية الأساسية النووية الإيرانية.
في غضون ذلك، لا يزال خامنئي يعيش في عالم منفصل عن الواقع. فقد قال في الأمس: “بعون الله، ستصبح ضربات جبهة المقاومة ضد النظام الصهيوني المتهالك والمتآكل فتاكة أكثر [أكثر قوة وإيلاماً]، وبات النصر الإلهي والفتح قريبين”.
لكن بطريقة ما، يتملكني شعور بأن التاريخ سيقدم رواية أخرى مغايرة تماماً.
*جاك سترو كان وزيراً لخارجية المملكة المتحدة في الفترة الممتدة ما بين عامي 2001 و2006، وهو مؤلف كتاب “المهمة الإنجليزية: فهم إيران والسبب وراء عدم ثقتها في بريطانيا” The English Job: Understanding Iran and Why It Distrusts Britain