حرية ـ (12/10/2024)
رفيق خوري
ما بين إيران وإسرائيل ليس حرباً بمفهوم الحرب المباشرة بل تبادل قصف موسمي. إيران لا تقصف إسرائيل إلا رداً على قصف إسرائيلي لها كما حدث في أبريل (نيسان) الماضي بعد قصف القنصلية الإيرانية لدى دمشق ومقتل ضباط الحرس الثوري، وقبل أيام رداً على اغتيال إسماعيل هنية في طهران. وإسرائيل لا تقصف الجغرافيا الإيرانية إلا رداً على قصف إيراني.
كل ما فعلته آلة القتل والدمار الإسرائيلية في غزة ولبنان لم يدفع الجمهورية الإسلامية إلى الانخراط المباشر في الميدان، وكل ما دعمت به طهران “’حماس‘ والجهاد الإسلامي و’حزب الله‘ وأنصار الله الحوثيين” في مواجهة الكيان الصهيوني لم يدفع إسرائيل إلى مهاجمة العمق الإيراني، ولكل منهما “ضابط”، أميركا تضبط إسرائيل والهرب من مواجهة مباشرة مع أميركا يضبط إيران. والمعادلة ثابتة حتى إشعار آخر على رغم دعوات المتطرفين لدى الجانبين إلى تجاوزها. أليس هذا معنى قول المرشد الإيراني علي خامنئي للفصائل المرتبطة بالحرس الثوري “قاوموا”؟
أما الحرب المباشرة فإنها الحرب بالوكالة عن إيران بين إسرائيل والفصائل المرتبطة بالحرس الثوري، وهي ليست أقل أهمية من الصدام المباشر بين إيران وإسرائيل. فليس صحيحاً أن الجمهورية الإسلامية تخلت عن استثمارها الكبير وكثير الكلفة في تأسيس هذه الفصائل الأيديولوجية وتسليحها وتمويلها. ولا وظيفة الفصائل ضمن دورها في مقاومة إسرائيل سوى تشكيل خط الدفاع الأول وجدار الصد عن إيران والعمل لمشروعها الإقليمي.
ما كان وزير الخارجية عباس عراقجي الذي جاء إلى بيروت لدعم “حزب الله” يكشف سراً بالقول إن “محور المقاومة يمثل أهم مكون لقوة الجمهورية الإسلامية”، فلا طهران كانت قادرة على لعب دور إقليمي كبير لو لا هذه الفصائل إذ هي تصبح من دونها مجرد دولة عادية لا تناسب ما قامت من أجله “ثورة الخميني”، ولا حرب إسرائيل مع الفصائل التي يصفها وزير الأمن يوآف غالانت بأنها “أذرع أخطبوط رأسه في طهران” سوى البديل من ضرب النظام الإيراني مباشرة.
وكالعادة يصعد البخار إلى رأس نتنياهو فيعلن أن “ما تفعله إسرائيل سيغير وجه المنطقة ويتردد صداه في الشرق الأوسط لأجيال مقبلة”. وهو ليس الوحيد الذي يتحدث عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط، فقبله كتب شمعون بيريز عن “الشرق الأوسط الجديد”، وفي حرب 2006 بين إسرائيل و”حزب الله” تحدثت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عن “آلام الولادة لشرق أوسط جديد”، ولم يتأخر خامنئي في الإعلان عن رؤية “شرق أوسط جديد إسلامي لا أميركي” هو طبعاً بقيادة إيران، لكن ذلك لم يحدث. فما اعترف به أخيراً رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت أيام حرب 2006 هو أن “الهدف الحقيقي للحرب كان تأكيد قوة الردع وليس تدمير ’حزب الله‘”. وما حال دون قيام هذا الشرق الأوسط الجديد ليس الفشل العسكري بالتالي الاستراتيجي الإسرائيلي في تحقيق الهدف. فما كان يمكن تغيير الشرق الأوسط حتى لو ربحت إسرائيل الحرب، وبدا من الصعب على “حزب الله” إعلان “النصر الإلهي”.
تغيير الشرق الأوسط لا يبدأ من لبنان والحرب فيه ولا من غزة والحرب فيها بل ينتهي في غزة ولبنان. هو يبدأ لا من حرب نتنياهو لـ”ضرب قوة ’حزب الله‘” بعد ضرب قوة “حماس” في غزة، بل من التغيير في إيران وإسرائيل وتركيا.
والعامل المهم في الشرق الأوسط الجديد هو عودة الدور العربي بقوة. فالمشهد الحالي في المنطقة هو الصراع الإقليمي أو التنافس بين إيران وإسرائيل وتركيا على النفوذ والدور في العالم العربي، وهذا ضد طبائع الأمور مهما تكن موازين القوى في مرحلة ما قادرة على فرض حقائق القوة. وفوق الصراع الإقليمي وفي قلبه تنافس روسي وصيني مع أميركا على بعض الدور الأميركي الواسع في المنطقة ضمن الصراع على نظام دولي تعددي مكان نظام الأحادية الأميركية.
مدير الاستخبارات المركزية الأميركية الدبلوماسي المخضرم ويليام بيرنز رأى أن “عصر ما بعد الحرب الباردة انتهى لحظة الغزو الروسي لأوكرانيا”. وما تنتهي إليه حرب أوكرانيا التي يدعمها “الناتو” هو ما يحدد صورة النظام العالمي الجديد، وينعكس ذلك بالطبع على صورة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط.
والواقع أن هناك أخطاء في الحسابات وقراءة الوقائع، فنحن في حرب تقاد لسلسلة من الأخطاء الاستراتيجية بصرف النظر عن الأرباح التكتيكية. خطأ التصور الإسرائيلي بأن تحقيق أهداف كبيرة ومفصلية ممكن بالحرب مع إيران وأذرعها، وخطأ التصور الإيراني بأن قيام إمبراطورية فارسية تحت عنوان إسلامي ممكن عبر تسليح فصائل أيديولوجية وتمييز مذهب محدد بإخراجه من النسيج الاجتماعي والقومي العربي ورفع شعار الحرب على إسرائيل.
الشرق الأوسط القديم عنيد وهناك من يبكي عليه بعد البكاء على السلطنة العثمانية، وهناك شرق أوسط جديد يولد من خارج الحروب، “شرق” تنمية وتكنولوجيا وتعليم عال جيد وذكاء اصطناعي وتطلع إلى المستقبل. أما الرهان على شرق ديمقراطي اجتماعي فإنه حلم. وأما من ينظر إلينا من بعيد مثل كريستوفر فيليبس فإنه يرى أن ما يجعل الشرق الأوسط جديداً هو التنامي المدهش للتدخل الخارجي، بحيث أصبحت القوى المحلية مدينة بفضل للاعبين الكبار”.