حرية ـ (15/10/2024)
طوني فرنسيس
يمكن أن يقال كثيراً عن المشروع الصهيوني وقيام دولة إسرائيل على قاعدة اغتصاب الأرض وطرد سكانها. ويمكن الحديث مطولاً عن الأطماع الإسرائيلية في الجوار العربي وكيف أن دولة قامت عام 1948 لم تستقر يوماً على حدود نهائية، لكن مقابل هذا التاريخ التوسعي الأسود الذي يقع ضحيته الشعب الفلسطيني على نحو خاص، هناك تفاصيل أساسية يتم إغفالها، تتصل مباشرة بمسؤولية الأطراف الأخرى، العربية والفلسطينية تحديداً، عن تطور المشروع الصهيوني الإسرائيلي ووصوله إلى حالة التغول والفلتان الحربي السائدة اليوم.
لم تكن الحروب العربية تحت راية حماية فلسطين حروباً من أجلها فعلياً. حرب الإنقاذ في الأربعينيات لم تضع نصب عينيها الاحتفاظ بنصف الأرض الفلسطينية، بموجب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، وإقامة دولة فلسطينية عليه، لذلك انتهت تلك الحرب بقيام دولة إسرائيل، وإلغاء مشروع الدولة الفلسطينية. تم ضم قطاع غزة إلى مصر وألحقت الضفة الغربية بالأردن.
كانت تلك بدايات حروب الأنظمة لتوطيد سلطتها باسم فلسطين وليس من أجلها. في السنوات اللاحقة بدأت انقلابات العسكر في سوريا ومصر، ثم العراق. وكان التبرير الجاهز لتلك الانقلابات الاستعداد للتحرير واستعادة الأرض من “الكيان الصهيوني الغاصب”. بيانات الانقلابيين في سوريا حفلت باتهام الآخرين بالتفريط في “القضية”، وعندما لحقهم الضباط في مصر في إطاحة الملك فاروق لم ينسوا في بيانهم الأول الذي تلاه أنور السادات ذكر فلسطين من بين الأسباب التي دفعتهم للاستيلاء على السلطة.
كانت القضية الفلسطينية ولا تزال عنصراً أساساً في تكوين وعي الجمهور العربي، وهي تحولت إلى عنوان لتحركات على المستوى العالمي تطالب بالعدالة والسلام لشعب هو الأكثر تعرضاً لاستغلال مصيبته من ذوي القربى.
خاضت الأنظمة الانقلابية حرب الشعارات طوال وجودها وعندما هزمت في حرب 1967 بررت لنفسها الهزيمة وفقدان الأرض بالقول إنها انتصرت لمجرد استمرارها في السلطة. فالمعركة بالنسبة إليها هي معركة سلطة داخلية وليس الانتصار للقضية الخالدة. لاحقاً ورثت أحزاب وتنظيمات منطق الانقلابيين. وكانت الثورة الإيرانية الخمينية تلميذاً نجيباً لهم، إذ اكتشف الخميني باكراً أن بقاء نظامه وقدرته على التوسع رهن برفع شعار القضية الفلسطينية والدعوة إلى زوال إسرائيل، لكن إسرائيل بالنسبة إلى إيران ليست دولة محاذية وإزالتها مهمة ستوكل هذه المرة لتنظيمات تابعة.
كان قيام منظمة التحرير الفلسطينية ونشاطها العسكري بعد هزيمة 1967 حافزاً لتنظيمات كثيرة جعلت من الانتصار لـ”الكفاح الفلسطيني المسلح” نهجاً لها، لغايات داخلية. التجربة النموذجية كانت في لبنان الذي لا يزال حتى اليوم، ومنذ نصف قرن، يدفع الأثمان الغالية من أمنه واستقراره ووجوده كدولة سيدة مستقلة. عاش لبنان عقدين من الزمان في سلام مقبول ضمن منطقة متوترة. اتفاق الهدنة الموقع مع إسرائيل 1949 بقي محترماً رغم حرب 1967 التي احتلت خلالها الدولة العبرية الجولان السوري والضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء. لم تمس إسرائيل الحدود اللبنانية حينها، لكن تدفق الفلسطينيين اللاحق بأسلحتهم ومنظماتهم إلى لبنان جعل السياق يختلف، ودفع أحزاباً وتنظيمات إلى ركوب موجة “الكفاح الفلسطيني” لتوسيع نفوذها وفي النهاية القيام “بانقلابها” استناداً إلى “الرافعة الفلسطينية”.
كانت تجربة لبنان ولا تزال نموذجية في هذا المجال، لأن النشاط الفلسطيني المسلح استقر في فيه وأقام له سلطة على مدى أكثر من عقد من الزمان. لقد تحول لبنان منذ نهاية ستينيات القرن الماضي إلى منصة عسكرية وسياسية وإعلامية ضد إسرائيل بدعم من أحزاب وفئات لبنانية اعتبرت أن الفرصة سانحة لتغييرات في النظام السياسي تتيح لها الإمساك بالسلطة. كانت فلسطين في السابق مسمار جحا الانقلابيين العسكريين العرب والآن صارت في لبنان مدخل فئات سياسية إلى النفوذ تدعمهم قوى خارجية اختصرت حالياً بالجمهورية الخمينية.
توالت “حروب لبنان الفلسطينية” دعماً للمقاومة منذ ما قبل قيام “حزب الله” التابع لإيران. واحتاجت تلك الحروب دوماً إلى سردية قوامها أن إسرائيل هي دولة توسعية طامعة في لبنان. في الزمن الفلسطيني كانت بضعة قذائف تطلقها التنظيمات الفلسطينية كفيلة بإثارة موجات من الغارات الإسرائيلية العنيفة، لكن الرواية الرسمية لدى الأحزاب اللبنانية الطامحة الحليفة، استمرت في القول إن “المقاومة” لم تكن البادئة، بل هي ردت على العدوان وردعته. انتهت تلك المرحلة مع الاجتياح الإسرائيلي الواسع للبنان 1982 وخروج منظمة التحرير إلى المنافي، ثم لاحقاً إلى فلسطين، وكان على التجارة في القضية أن تنحو منحى جديداً.
ورثت إيران منصة الحرب اللبنانية ضد إسرائيل بأدواتها القديمة وأضافت إليها ذلك البعد المذهبي الذي تعتنقه في مشروعها التوسعي. هزمت الأحزاب اللبنانية التي راهنت على الفوز بالسلطة استناداً إلى السلاح الفلسطيني عندما ضربت إسرائيل البنية الفلسطينية ومعها لبنان، ليعود “حزب الله” إلى لعب اللعبة نفسها تحت عنوان إسناد غزة على حساب تدمير لبنان. والحقيقة أن الهدف الفعلي للحزب كان ولا يزال الإمساك بالسلطة في لبنان وجعله جرماً في فلك الجمهورية الإسلامية. إنه يتابع سياسة الانقلابيين نفسها من دون أن يلجأ إلى دبابة تحاصر مبنى الإذاعة والتلفزيون، في استمرار لمسلسل حروب لبنانية باسم فلسطين لم يكن هدفها يوماً غير زيادة الحصة في السلطة إن تعذر الاستيلاء على البلد.
قبل أشهر قليلة من فتح “حزب الله” الحرب على إسرائيل في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 كان الخلاف السياسي الداخلي على أشده في لبنان والمراوحة في أوجها عندما أعلن أحد الناطقين باسم ذلك الحزب أن كسر الجمود الداخلي قد يستلزم حرباً مع إسرائيل. وفتح الحزب تلك الحرب المستمرة والمدمرة، لكن مع عدم اليقين ما إذا كانت حسابات بيدر الناطق المذكور ستطابق حسابات حقل الألغام الذي زج لبنان فيه.