حرية ـ (17/10/2024)
قد لا يكون مؤرخو الأدب جميعاً متفقين على أن رواية “الحرف القرمزي” للكاتب الأميركي ناثانيال هاوثورن هي أكبر وأعمق رواية أنتجها الأدب الأميركي في تاريخه كله على الإطلاق، حتى وإن كان بعضهم يرى هذاـ غير أن هذا لا يمنعهم من الاتفاق على أنها أقوى رواية ظهرت خلال أواسط القرن الـ19 منتمية إلى أدب كان يكتشف الإنسان الجديد وعلاقته ببيئته وبدايات مجابهته الضوابط والضغوط الاجتماعية. فالحال أن “الحرف القرمزي” تنتمي مباشرة في روحها ومضمونها إلى أدب كان بدأ يرى أن ما يكبل الإنسان وحريته، ليست الشرائع والقوانين والسلطات بل المجتمع نفسه، وهو أمر لن يكتشف على نطاق واسع إلا بعد قرن وأكثر من صدور تلك الرواية التي لا تزال تمارس سحرها الكبير حتى اليوم، ولا تزال تقتبس وبخاصة في السينما والتلفزيون، إذ لا بد أن نذكر أن هوليوود وحدها حققت عنها ما لا يقل عن ستة أفلام كبيرة، واللافت أنها كلها حققت من قبل مخرجين أجانب من بينهم الألماني فيم فندرز، إذ يبدو الأمر وكأن الإطلالة على أميركا العتيقة لا يمكن أن تمر إلا عبر تلك الرواية التي أطلت بها أميركا على نفسها وعلى أخلاقيتها، بتساؤل استنكاري منذ أواسط القرن الذي صاغ أيديولوجيتها الطهرانية بأعنف ما يكون.
من الاعمال السينمائية التي استندت إلى الرواية
مزايا سيكولوجية وأسلوبية
والحال أنه إذا كان النقد اختار في غالب الأحيان أن يحتفي – عن حق – بما في “الحرف القرمزي” من مزايا سيكولوجية وأسلوبية، وبما لها من أهمية تاريخية، فالحقيقة تقول لنا إن الأهمية الأولى لهذا الكتاب تتجاوز ما يمكن أن يعنيه بالنسبة إلى تاريخ الرواية الأميركية نفسه. والباحث لا يحتاج إلى جهد كبير بالطبع قبل أن يكشف عما في هذه الرواية من روح عداء لعنصر النزعة الطهرانية التي سادت المجتمعات الأميركية، وبخاصة في مناطق الشمال الشرقي من الأمة – القارة. فهذا العداء يقفز رأساً أمام الأنظار ومنه تغتذي مباشرة حبكة الرواية. وفلسفة العداء للطهرانية هذه إنما تأتي لتجسد روائياً فكرة أساس حملها التجاوزيون: الفضيلة الكامنة في خطيئة ترتكب عبر اندفاع عفوي. فالمرأة “الزانية” في الرواية -كما سنرى- وعشيقها لم يكونا ولو للحظة موضع إدانة من المؤلف، بل إن إدانته تتوجه إلى القضاة وإلى الزوج المنتقم.
أبرز الأحداث
ولكن قبل التمادي يجدر بنا طبعاً أن نتوقف عند أحداث هذه الرواية التي ترجمت إلى معظم لغات الأرض، ومن بينها العربية طبعاً. والمحور الأساس في الرواية يدور من حول آرثر ديمسدال الكاهن الشاب الذي يثير بخطبه وبنمط حياته النموذجي،حماسة أبناء الرعية المحبين له في إنجلترا الجديدة (بوسطن) في الحقبة ذاتها من القرن الـ18، بيد أن ما يختبئ في الحقيقة خلف شخصية آرثر إنما كان أمراً آخر تماماً، إذ حدث أن أستاذاً إنجليزياً مكتهلاً كان أرسل إلى البلدة زوجته الشابة الحسناء هستر برآين وقد آلى على نفسه أن يلحق بها ليعيشا هناك، غير أن الهنود الحمر يأسرونه مما يؤخر لحاقه بزوجته عامين وهو إذ يصل أخيراً إلى البلدة يجد زوجته واقفة عند عمود الاتهام حاملة طفلة بين ذراعيها، خلال غيابه. إذاً حملت هستر وأنجبت وهي إذ حوكمت رفضت أن تسر باسم عشيقها فأوقفت عقاباً لها إلى العمود، و”زين” ثوبها بحرف قرمزي اللون هو حرف A الذي يشي بكونها زانية ADULTERESS. وعندما يجد الزوج هذا كله في انتظاره يخفي عن الجميع شخصيته منتحلاً اسم روجر سلنغوورث مجبراً هستر على أن تقسم بأنها لن تكشف حقيقته لأحد، وبعد ذلك تذهب هستر محملة بالعار والاحتقار حاملة طفلتها بيرل عند تخوم البلدة، وهناك تفتح لها حالها آفاق عيش جديدة فتكرس وقتها لفعل الخير ومساعدة البائسين مما يجعلها تكسب احترام الجيران شيئاً فشيئاً. أما روجر فإنه يتجه إلى ممارسة الطب وقرر أن يكتشف بنفسه غريمه في حب هستر، غير دار أول الأمر أن الغريم ما هو سوى الكاهن آرثر الذي حين حوكمت حبيبته لم يجد لديه من الشجاعة ما يجعله يعترف بما اقترف فتركها في مهب الرياح والأحكام القاسية. وطبعاً ينتهي الأمر بالزوج إلى اكتشاف الحقيقة مما يجعل من جزء الرواية الثاني تصويراً لعنف انتقام الزوج، ولهبوطه إلى جحيم انهياره الأخلاقي والإنساني بفعل إقدامه على ذلك الانتقام. وأخيراً بعد انقضاء سبعة أعوام يصل فيها الكاهن ديمسدال إلى حافة الجنون والموت تبرز هستر التي كانت محنتها أعتقتها تماماً حتى من إحساسها بفعل الخطيئة، تأتي لتقترح عليه أن يرحلا معاً إلى أوروبا. وفي البداية يقبل لكنه فجأة يعد ذلك إغواء من الشيطان له لإفساد إيمانه وينتهي به الأمر إلى الاعتراف أمام أهل البلدة جميعاً بالحقيقة، وذلك قرب عمود الاتهام الذي كان أولاً من نصيب هستر وحدها، وهناك يموت بين ذراعيها.
غلاف طبعة مبكرة من الكتاب
طابع ميلودرامي
قد يكون لهذه الرواية في أحداثها طابع ميلودرامي ممتزج بشيء من المناخ القوطي، لكن نظرة معمقة إليها ستضعنا أمام بعدها الفلسفي الخالص، فالحال أن هاوثورن إذ يستنكف عن توجيه أية إدانة لهستر ويكتفي بمؤاخذة آرثر الكاهن على جبنه ونفاقه لا على الفعل الذي ارتكبه، يركز الإدانة كلها -كما أسلفنا- على القضاة الذين حاكموا هستر وحكموا عليها، وبخاصة على الزوج المنتقم. فبالنسبة إلى هاوثورن يصبح هذا الزوج على رغم أنه أصلاً “ضحية” فاعل الشر، إذ ينيط بنفسه مهمة اقتحام ضمير “المذنبين”، وهاوثورن يصور هذا الانتقام بوصفه “الخطيئة الوحيدة التي لا تغتفر” ولا يبدو هذا من خلال الفعل نفسه، ولكن من خلال الصورة التي يقدمها هاوثورن للزوج: إنه عديم الحس. وهو لا يسعى إلى معاقبة “المذنبين” إلا بدافع من وله ذهني بارد ناهيك بأن البعد الفلسفي للرواية يتسم بما يقوله مسكوتها: إن الحضارة تأتي إلى المكان الموحش البدائي بالقانون -والقانون الأخلاقي بخاصة- خلال وقت تأتي فيه بفكر خرق ذلك القانون. وعلينا أن نلاحظ هنا أيضاً أن العبارة التي افتتحت الطبعة الأولى من الحرف القرمزي أشارت إلى أن الحرف A الذي يرمز إلى الزنا، هو الحرف نفسه الذي يبدأ به اسم آدم ADAM الذي “اقترف الخطيئة الأولى باسمنا جميعاً” بحسب تعبير ناثانيال هاوثورن.
الكاتب هاوثورن
الكاتب الأميركي ناثانيال هاوثورن ولد عام 1804 داخل مدينة سالم في ولاية ماساشوستس، تلك المدينة التي عرفت مفاهيم السحر والخطيئة أكثر من أية مدينة أميركية أخرى، حفيداً لواحد من غلاة الزعماء الطهرانيين وابناً لأسرة جعلت الخوف من الخطيئة واحداً من سمات حياتها. ومن هنا ليس غريباً أن نعد كتابة هاوثورن لرواية “الحرف القرمزي” نوعاً من التمرد على أخلاق أسرته، بالتالي أخلاق فئات عريضة من المؤسسين الأميركيين الطهرانيين الذين كان همهم دائماً أن يفضلوا النص على الإنسان، وشريعة الجمع على حساسية الفرد. ولقد أمضى هاوثورن طفولته وحيداً مع أمه الأرملة المعتزلة الحياة والناس فأتيح له أن يقرأ كثيراً، وهو بعدما تلقى دراسته الثانوية في برونزويك عاد إلى مدينته سالم حيث بدأ يكتب الروايات والقصص القصيرة وينشرها، غير أن ذلك كله لم يقم بأوده فاضطر إلى الالتحاق لفترة بوظيفة في الجمارك داخل بوسطن ثم عمل في مزرعة. والحال أننا نجد آثار ذلك كله ماثلة في كثير من رواياته وقصصه وحتى في قصص الأطفال التي كتبها ونشرها بكثرة، مقتبساً معظمها من الأساطير اليونانية القديمة وبعض الأساطير المحلية، أما “الحرف القرمزي” فكتبها خلال عام 1850 بعدما خسر وظيفته في مرفأ سالم. والحق أن نشر هذه الرواية عاد عليه بشهرة لم يكن يتوقعها وأدرك هذا خصوصاً حين توجه عام 1857 إلى إنجلترا حيث عين قنصلاً أميركياً في ليفربول، فوجد الناس يعرفون أعماله ويقرأونها على نطاق واسع. وظل يكتب حتى رحيله عام 1864 ويعد اليوم من كبار الكلاسيكيين في الأدب الأميركي والعالمي، وبخاصة منذ كتب عنه هنري جيمس خلال عام 1879 دراسة بالغة الأهمية.