حرية ـ (22/10/2024)
نعم هي إسرائيل ذلك الكيان العجيب الذي ظهر خلال القرن الـ20 ليطرح على البشرية سؤالاً مهماً عن طبيعة التعايش المشترك بين الأمم والشعوب، فلم يعرف المجتمع الدولي ذلك الذي فعلته إسرائيل خلال العقود الأخيرة ضد السكان الأصليين أصحاب الحق والأرض في فلسطين، إلا ما فعله المستعمر الأميركي أو الرجل الأبيض عموماً في حرب الإبادة على الهنود الحمر.
لقد مارست إسرائيل كل أنواع البطش والعدوان والتحفت بكل صور العنصرية وتعاملت مع العرب على نحو غير مشروع لا نكاد نعرف له تسمية بديلة لكلمة إبادة الجنس البشري، وهي في ذلك تستخدم كل الأساليب والوسائل لتنشر الرعب حولها وتتخذ من الإرهاب بمعناه الواسع أسلوباً للقمع والتنكيل والتخويف، وتمارس كل أنواع العدوان براً وجواً ولا تتورع عن قتل الأطفال والنساء والقيام بعمليات الاغتيال بدم بارد، فضلاً عن محاولتها تحقير الشرعية الدولية والاستخفاف بالأعراف والقواعد المعمول بها في العالم المعاصر.
ولا تتورع إسرائيل كذلك عن إهانة أكبر موظف دولي وهو الأمين العام للأمم المتحدة لأنه أراد أن يلتزم بما شرعه المجتمع الدولي لضبط العلاقات بين الدول والشعوب، فهي تمارس بحق حرباً بلا سقف وتمضي على طريق لا نظير له سفكاً للدماء وتمثيلاً بالجثث والعدوان على النساء والأطفال وكبار السن لا يردعها رادع ولا تقلقها قوة لأنها مدعومة من أقوى قوة في عصرنا وأعني بها الولايات المتحدة الأميركية التي ترى أن إسرائيل جزء لا يتجزأ منها وكيان محسوب عليها وابن مدلل له الحق في أن يفعل ما يشاء ويفلت من العقاب، لأن أمه تغطيه بما نطلق عليه الفيتو الأميركي في مجلس الأمن.
وها هي إسرائيل تتجاوز الأعراف وتأتي بمواقف جديدة لم تكن معهودة في الحروب أو النزاعات المسلحة ولكنها ترى أن استخدمها أمر مبرر، فالمثل الشعبي في مصر، وأظنه متداول بنفس المعنى عربياً يقول “إن الغجرية سيدة جيرانها”، وينطبق هذا القول تماماً على إسرائيل بجرائمها البشعة وتصرفاتها غير المتوقعة وشهوة الانتقام الكامنة في أعماق من يقودونها، إلى جانب تعطش ملحوظ للدماء ورغبة واضحة في تصفية البشر والتمثيل بالجثث وتحويل المدن إلى أنقاض والمنازل والبيوت والمدارس والمستشفيات إلى ركام، وغرس أشجار الكراهية في البيئة الفلسطينية، حتى يتساءل المرء كيف يكون هناك عيش مشترك في المستقبل بعد كل هذه الجرائم الإسرائيلية التي يشهدها عصرنا الحالي؟ ويهمني هنا أن أطرح بحياد تام وموضوعية كاملة بعض الملاحظات المرتبطة بما جرى وما يجري في الشرق الأوسط…
أولاً، لم أدهش كثيراً عندما رأيت رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو يطرح خريطة جديدة للشرق الأوسط في خطابه أمام الأمم المتحدة، وكأنه مهندس الكون الأعظم ينظم الشرق الأوسط من جديد ويرتب أوضاعه وفقاً لأجندة إسرائيلية لم تختف أبداً، فهي التي رفعت شعارها الكاذب “دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل”، لذلك فهو يخرج من جرائمه ضد الشعب الفلسطيني متجهاً نحو دول الجوار بدءاً بلبنان المفترى عليه والذي تنهش أطرافه الطائرات العسكرية والمقاتلات الجوية والمدرعات الأرضية في ظل شهوة التوسع والرغبة المجنونة في تدمير كل شيء، البشر والحجر بما في ذلك الكنائس والمساجد، لأن لإسرائيل ابن شارد يقود التطرف ويحرك ما يسمى جيش الدفاع نحو الهجوم الغادر والقتل المتواصل، وقديماً قالوا في بلادنا “اصبر على جار السوء فقد تأتيك أخبار نهايته”، ولكن جرائم إسرائيل امتدت كثيراً ولم تتوقف أبداً، بل وصلت في عدوانها إلى قوات حفظ السلام الأممية فأطلقت عليها زخات الموت في إهانة واضحة للمجتمع الدولي والأمم المتحدة التي تمثله.
أستطيع أن أزعم هنا أن لإسرائيل أطماعاً أرضية لا في فلسطين وحدها أو لبنان معها بل إن أحلامها تمتد فعلاً إلى الأردن وسوريا والعراق في محاولة لتثبيت أركان دولة العدوان وكيان الطغيان بعد أن كان العرب قاب قوسين أو أدنى من القبول بدولة إسرائيل شريطة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية المشروعة وقيام دولتهم المستقلة على ترابها الوطني، لكن إسرائيل لا تريد ذلك إطلاقاً بل تراوغ لكسب الوقت وتثبيت الأوضاع على الأرض لخدمة خريطتها المزعومة.
لذلك فإنها تنتهز كل الفرص وتختلق الأسباب لكي تقول إن لديها يداً طولى قادرة على الوصول إلى أي مكان في الشرق الأوسط على حد تعبير وزير دفاعها، في تصريحات علنية يكررها للتخويف والإرهاب وترويع الشعوب وتطويع المجتمعات.
ثانياً، إن إيران الدولة والثورة تحتاج هي الأخرى إلى مراجعة دورها في المنطقة، فإذا أرادت أن تدعم القضية الفلسطينية بصدق فإن ذلك لا يتم إلا بالدعم السياسي المفتوح وتوظيف دورها مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وأعوانها بما يخدم المصالح الفلسطينية، ذلك أن فتح ساحات جديدة للمواجهة أدى إلى توسيع نطاق هذه الحرب الإقليمية ومحاولة طمس الهوية الفلسطينية في إطارها العربي، كما أن ذلك يستدعي بالضرورة إثارة النعرات الطائفية وإحداث فرقة على المستويين العربي والإسلامي ويفتح أيضاً باباً لصراعات فرعية على الساحة الفلسطينية.
وإذا تأملنا حجم الدمار والخراب الذي حل بإقليم غزة ونطاق الضاحية الجنوبية في بيروت وغيرها من المناطق اللبنانية والفلسطينية لأدركنا على الفور أن إسرائيل لا تسعى إلى السلام أبداً ولا تقبل التعايش المشترك ولكنها تريد البقاء في المنطقة بالقهر والتدمير والعدوان، وفي المقابل فإننا نرى أن إيران لديها مشروعها الخاص الذي يستفيد أيضاً من القضية الفلسطينية بتكريس وجود الدولة الفارسية على الحدود الشرقية للوطن العربي، وأحسب أن الدبلوماسية الإيرانية تسعى إلى أن تكون الشرطي الوحيد في المنطقة في منافسة مكشوفة مع الدولة العبرية، والعرب بين الفرس واليهود يصبحون بحق كالأيتام على مائدة اللئام.
وأنا لا أزعم أن الخطر الإيراني يتساوى مع الخطر الصهيوني على شعوب المنطقة العربية، ولكنني أدعي أن لكل منهما أجندة مختلفة ولكنها تلتقي في الهدف وتمضي على الطريق نفسه وهو احتواء شعوب المنطقة وقيادتها نحو غايات تتفق مع أهداف أي من إسرائيل أو إيران، وشهدت أخيراً مقابلة تلفزيونية مع شاه إيران الأخير قبل رحيله بفترة وجيزة وهو يتحدث عن مستقبل المنطقة والدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، وذلك لتأكيد أهمية إيران الدولة قبل سطوة إيران الثورة.
ثالثاً، إن الأوضاع الدولية الراهنة وتشابك الملفات المحلية والإقليمية يجعل من الصعب الخلاص مما نحن فيه، ويلقي على عاتق أجيالنا القادمة احتمالات استمرار المواجهة مع الاستعمار السرطاني الذي يجثم على صدر الشعب الفلسطيني ومعه شعوب الجوار، لقد آن الأوان لكي تتفرغ شعوب المنطقة للبناء والتنمية بعد أن استهلكتها الحروب والصراعات العسكرية ولا يحدث ذلك إلا بإرادة عربية قوية ورغبة قومية تدرك أن الأخطار تحيط بالجميع.
مسلسل نزف الدم في المشرق العربي لن يتوقف إلا بتغيير جذري في التفكير الإسرائيلي مع اعتدال مطلوب في سياسة الولايات المتحدة الأميركية، بحيث تدرك أن انحيازها المطلق لإسرائيل هو جريمة كبرى في حق شعوب هذه المنطقة، لأن سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين أصبحت مكشوفة أمام الجميع حتى الشعوب الغربية ذاتها، والتي رأيت تظاهراتها في شوارع لندن أثناء زيارتي الأخيرة وهم يخرجون بعشرات الآلاف لنصرة الشعوب العربية التي تمضي أجيالها تحت ضغوط هائلة للاستعمار والعنصرية ومحاولات سرقة الشعوب واحتلال الأوطان.
هذه قراءة لملف غريب وعجيب لا يضع سقفاً للحرب ولا حداً للعدوان وفوق ذلك كله فإنه يخفي أطماعه التوسعية بخريطة كاذبة ومعلومات مغلوطة وحروب لا تتوقف.