حرية ـ (30/10/2024)
لم تكن درجات الحرارة المنخفضة في صالح المصور جون دومينيس حين توجَّه إلى مدينة ثورنتون في شرق ولاية كنتاكي الأميركية.
جاء توقيت رحلته هذه في أواخر شتاء عام ١٩٦٤، وتحديداً قبل أن يذوب الثلج لالتقاط صورة ستُحدِث سجالا. كان ذلك بتكليف من مجلة “لايف” المرموقة من أجل مقالٍ توثيقي مدعوم بصور نشر في عددها الصادر في مارس ١٩٦٤، تعكس حالة الفقر المدقع والمنتشر في مناطق من الريف الأميركي حينها.
استطاعت أنامل دومينيس المتيبِّسة من البرد أن تضغط على زر الكاميرا فتصور أصابع غضَّة لطفل رابضٍ ينحت في الثلج بحثاً عن قطع فحم يعود بها إلى منزله لتدفئة يديه العاريتين.
وإلى جانب الطفل بيلي من جهة اليمين، يبدو والده منهمكاً في تجميع الفحم أيضاً، في صورة أصبحت أيقونة في تاريخ الإعلام الأميركي.
هذه اللقطة التي انطبعت يومها على شريط فيلم من قياس ٣٥ ميلمترا، طبعت في أذهان الأميركيين صورة تجسد واقع الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها العديد من الأُسر الريفية في منطقة “الأبالاتش”.
وعلى الرغم من أن هذه المنطقة تلتفُّ جغرافياً حول سلسلة جبال “الأبالاتش” الممتدة من نيويورك إلى شمال ألاباما في الجزء الشرقي من الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن ساكني هذه المنطقة يجتمعون تحت مظلة أشد وطأة وأثقل وزناً من سلسلة جبلية تمتد على ٢٤٠٠ كيلومتر، كما يبرز ثقلهم الانتخابي في ظل وضعهم الذي كانت قد وجهت صورة الطفل بيلي أعين الأميركيين نحوه.
تاريخ وجغرافيا
تاريخياً، اعتمد سكان “الأبالاتش” على صناعات تستخرج بعض الموارد من الأرض كمناجم الفحم والخشب. وبعد ازدهار هذه الصناعات وامتدادها لعشرات السنين، بدأ الوضع الاقتصادي، في منتصف القرن العشرين، يتراجع بالتزامن مع انخفاض الطلب على الفحم وإغلاق المناجم وزيادة استخدام الآلات.
هذا المنحنى الاقتصادي أدى إلى انتشار البطالة على نطاق واسع، وتسرب الثروة إلى خارج المنطقة. وفي بداية الألفية من هذا القرن، وصلت معدلات البطالة في مجتمعات “الأبالاتش” إلى ١١.٣ في المئة في بعض مقاطعات ولاية فيرجينيا الغربية، وذلك حسب مكتب إحصاءات العمل الأميركي.
الطبيعة العنيدة للتضاريس الجبلية من جهتها جعلت البنية التحتية للمنطقة عصية على النمو والتغيير. فلم يكن من السهل ربط “الأبالاتش” طُرُقياً بالأماكن المجاورة التي كانت تسابق الزمن في تطورها المتسارع.
هذه العزلة الجغرافية قيدت المنطقة وحدّتها من الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والصناعات الجديدة.
كل ذلك أدى إلى تأخر المنطقة وتفاقم الفقر والحاجة فيها. وحسب لجنة أبالاتشيا الإقليمية “إي أر سي”، فقد تم تصنيف ما يقرب من 20 في المئة من مقاطعات “الأبالاش” الريفية على أنها “متعثرة اقتصادية” أو “معرضة للخطر”، في تقييم أجرته في عام ٢٠٢١.
https://www.facebook.com/ARC.gov?fref=nf&ref=embed_post
ولطالما أُُطلق لقب “هيلي بيلي” على الأشخاص الريفيين من منطقة “الأبالاتشي”. فأما “هيلي” فجاءت من كلمة Hills، والتي تعني الجبال، وأما “بيلي” فهو اسم شائع جداً في المناطق الريفية وقتها.
بداية تغيير
في الثامن من يناير عام ١٩٦٤، أطلق الرئيس الأميركي آنذاك، ليندون جونسون، مبادرة تحت عنوان “حرب على الفقر” تهدف إلى إلقاء الضوء على المعاناة الكبيرة التي تعيشها مجتمعات “الأبالاتش”، للفت انتباه الأميركيين إلى أهمية هذه القضية.
وما كان إرسال مجلة “لايف” للمصور دومينيس إلى كنتاكي إلا استجابة إعلامية لمبادرة الرئيس، لإضفاء الطابع الإنساني على القضية المجردة والمتمثلة في الفقر الريفي في أميركا. ومنذ ذلك الحين، بدأ السياسيون ومرشحو الانتخابات بإبداء الاهتمام تجاه منطقة “الأبالاتش”.
ومع ذلك، لا تزال الصعوبات الاقتصادية في المنطقة مستمرة، كون الجهود السياسية لم تفلح تماماً في معالجة مشكلة مجتمعات “الأبالاتش”.
واستجابةً للأوضاع المتردية هناك، نشأت العديد من المنظمات المحلية في السنوات الأخيرة لنشر الوعي بين مجتمعات تلك المنطقة، ولحشد سكانها للمساهمة في الانتخابات.
هذه المنظمات تسعى إلى التأكيد على قوة صوت “الأبالاتشيين” على السياسات الوطنية التي تؤثر بشكل مباشر على “أميركا الريفية”، وذلك لجعل هذه المجتمعات هدفاً رئيسياً للمرشحين الذين يتطلعون إلى معالجة وضع المناطق المتعثرة اقتصادياً.
أهم هذه المنظمات Kentuckians for the Commonwealth والمعروفة اختصاراً باسم “KFTC” والتي تأسست في عام ١٩٨١ وتضم اليوم أكثر من ١١ ألف عضوٍ ناشط.
بين الديمقراطيين والجمهوريين
يشير التقرير السنوي، الذي تجريه لجنة أبالاتشيا الإقليمية، إلى وجود ما يزيد على ٢٥ مليون “أبالاتشي” موزَّعين على ١٣ ولاية. من هذه الولايات بنسلفانيا، أوهايو، فيرجينيا، كارولاينا الشمالية، الولايات التي تعتبر متأرجحة في اتجاهها بين الديمقراطيين والجمهوريين. الأمر الذي يمنح الناخبين “الأبالاتشيين” ثقلاً انتخابياً يساهم في حسم النتائج في حال تقاربها.
وفي السابق، كانت ولاية فرجينيا الغربية وأجزاء من كنتاكي وأوهايو معاقل ديمقراطية بسبب دعم الحزب لصناعة الفحم. ولكن، وبعد تدهور هذه الصناعة، تحول ولاء هذه المناطق إلى الحزب الجمهوري الذي سوَّق نفسه كحليف لصناعة الفحم وللانتعاش الاقتصادي في “الأبالاتش”.
وعلى سبيل المثال، ٨٠ في المئة من سكان المقاطعة الخامسة في ولاية كنتاكي، ثاني أفقر مقاطعة في أميركا، صوتوا لصالح كلينتون الديمقراطي في عام ١٩٩٦. أما في انتخابات عام ٢٠٢٠ فإن النسبة نفسها من سكان المقاطعة نفسها صوتت لترامب الجمهوري، وذلك بعد الرجوع لنتائج الانتخابات المعلنة في لجنة الانتخابات الفيدرالية وأرشيف نتائج الانتخابات في ولاية كنتاكي.
وظهر أثر هذا التحول جلياً في انتخابات ٢٠١٦و٢٠٢٠، إذ دعم “الأبالاتشيون” دونالد ترامب وساهموا في تأمين انتصارات للجمهوريين في تلك المناطق.
وفي الانتخابات الحالية، تؤكد بعض المنظمات المحلية في المنطقة مثل منظمة Appalachian Voices على إقبال الناخبين في “الأبالاتش” على المشاركة في الانتخابات. كما أن المشهد الانتخابي في المنطقة بدأ يشهد تحولاً ملحوظاً تجاه السياسة المحافظة واحتفاءً بخطابات ترامب.
ولذلك، يسود تطلع لمعرفة هوية المرشح الذي سيدعمه “الأبالاش” في سباق البيت الأبيض الحالي.