حرية ـ (30/10/2024)
صدرت النسخة الإيطالية من كتاب “الحداثة والشمولية في الفاشية الإيطالية” عام 2008 ونقله أخيراً إلى العربية حسين محمود ونجلاء والي (المركز القومي للترجمة). ويتوزع متن الكتاب على ثلاثة أجزاء، الأول عنوانه “الإيمان السياسي والقمع”، والثاني “فن إيطاليا الفاشي”، والثالث “إما روما أو موسكو”. ومعظم متن الكتاب هو نتاج مؤتمر “الفاشية في إيطاليا، شمولية أوروبية” الذي عقد في روما خلال الـ24 والـ25 من فبراير (شباط) 2006، بمبادرة من قسم السياسات الثقافية في بلدية روما، بالتعاون مع معهد الموسوعة الإيطالية.
أسهم في تأليف كتاب “الحداثة والشمولية في الفاشية الإيطالية” باحثون أكاديميون من إيطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وهم إميلي براون أستاذة تاريخ الفن في كلية هانتار التابعة لمركز الدراسات العليا في كوني (جامعة سيتي في نيويورك)، وكاترين برايس محاضرة في التاريخ المعاصر في جامعة باريس الـ12 فال دو مارن وكلية ساينس بو باريس، وماورو كانالي أستاذ التاريخ المعاصر في كلية الحقوق جامعة كامبرينو وهو باحث في أزمة الدولة الليبرالية وظهور الفاشية، ومارينا كاتاروتسا أستاذة التاريخ المعاصر في معهد التاريخ جامعة برن، وجورجيو تشوتشي أستاذ تاريخ العمارة المعاصرة في كلية الهندسة المعمارية جامعة روما تري، وسيمونا كولاريتسي أستاذة التاريخ المعاصر في كلية علوم الاتصال جامعة روما لا سابينسا، وأليساندرا ستاديريني أستاذة التاريخ المعاصر في كلية العلوم السياسية جامعة فلورنسا، وإنريكو ستوراني مؤلف كتب مدرسية جمع 150 ألف بطاقة بريدية تعود إلى الحقبة الفاشية في إيطاليا ودرسها من زوايا بحثية عدة، وفيتوريو فيدوتو أستاذ التاريخ المعاصر في كلية الآداب والفلسفة جامعة روما لا سابينسا، وولوتشانو زاني أستاذ التاريخ المعاصر في كلية علم الاجتماع جامعة روما لا سابينسا.
الفاشية والحداثة
الترجمة العربية للكتاب
تتصدر الكتاب مقدمة إميليو جنتيلي التي استهلها بالقول إن المقالات التي يتألف منها توضح بعض الجوانب المهمة للفاشية كتجربة للحداثة الشمولية: إضفاء نوع من القداسة على السياسة والتعايش بين القمع والإجماع ومشاركة الفنانين والمهندسين المعماريين في الدعاية والتخليد الجمالي لـ”الحضارة الفاشية”، ودور روما كمقر لملك إيطاليا وأقصى مركز للسلطة الحقيقية والرمزية للدوتشي (موسوليني)، والتفسير الفاشي للشيوعية الستالينية كثورة معادية في التحدي الشمولي للحضارة الليبرالية”.
ويرى جنتيلي أنه لو كان هذا الكتاب نشر قبل 20 عاماً لأثار ردود فعل مشتعلة من الاحتجاج والإدانة من جانب أولئك الذين اعتقدوا أنه من المستحيل العثور على أية علاقة قرابة بين الشمولية والحداثة. ويوضح أن نشر هذا الكتاب يؤكد التقدم الثقافي الملحوظ في تأمل ودراسة ما بين الحداثة والشمولية من وشائج، خصوصاً في نموذج الفاشية الإيطالية. ويتمثل هذا التقدم في المعالجة التاريخية لمشكلة العلاقة بين الفاشية والحداثة والشمولية، مع غلبة الرأي التاريخي والعقلاني والنقدي على الميول الأيديولوجية الأكاديمية، ومع ازدياد البحوث حول التجربة الملموسة للحداثة الشمولية الفاشية.
ويؤمن جنتيلي بأن الفاشية كانت تجربة شمولية للحداثة السياسية، نشأت من توترات وصراعات المجتمع الحديث واقترحت حلاً جديداً بدا لملايين الأوروبيين بين الحربين العالميتين أكثر كفاءة وفعالية من الليبرالية البرلمانية والديمقراطية الحزبية، وبديلاً للبلشفية يتعامل مع مشكلات الحداثة ويوجه عمليات التحديث ويخضع هذه الليبرالية لتحقيق أهداف القوة والعظمة الوطنية.
تناقضات ومخاوف
ولاحظ المؤرخ الإيطالي أن تجدد الاهتمام بدراسة العلاقة بين الفاشية والحداثة ارتبط بثبوت عقم محاولة فصلهما القائم على إسناد نوع من الميول الديمقراطية أو التقدمية أو الثورية الفطرية بالمعنى التحرري للحداثة. ويشير في هذا الصدد إلى أن الروابط بين الفاشية والحداثة في المجالات السياسية والثقافية والفنية تعد واحدة من أكثر الموضوعات دراسة وإثارة للجدل في التأريخ الدولي، ويوضح روجر غريفين الذي درس الحداثة الشمولية للفاشية والاشتراكية القومية في صورة مقارنة وبنهج متعدد التخصصات ووضعها في تاريخ الحداثة بعد النصف الثاني من القرن الـ19، عندما بدأت الثقافة الأوروبية تفكر في غموض وتناقضات الحداثة أي في العداوات والصراعات التي نشأت عن عمليات التحديث ورافقتها، بين المخاوف من الانحطاط ونيات التجديد.
ورأى جنتيلي كذلك أن النظم الشمولية نشأت من عناصر حديثة بحتة وتأسست عليها: تنظيم الحزب، تعبئة الجماهير، الأيديولوجية المقدسة في هيئة دين علماني جديد واستخدام التكنولوجيا للدعاية والتلقين الجماعي، ودفع التحديث وإخضاعه لتحقيق أهداف أعلى للسلطة والتوسع على مستوى قاري أو حتى كوكبي. لهذه الأسباب –يقول جنتيلي– من المشروع تاريخياً ونظرياً الحديث عن “حداثة شمولية” تعارض الحداثة الليبرالية والديمقراطية.
وتوضح مارينا كاتاروتسا الأمثلة -المأخوذة من سياق أوروبي واسع– للإدراك الذي كان لدى بعض المراقبين منذ بداية العشرينيات الذين فسروا البلشفية والفاشية على أنهما ديانتان سياسيتان. وتتناول سيمونا كلاريتسي بالتحليل الفترة الزمنية الممتدة من عشية صعود موسوليني إلى السلطة إلى عشية الحرب العالمية الثانية، وتصل إلى أنه خلال تلك الفترة أصبحت الحداثة الشمولية للفاشية أمراً مسلماً به لدى معظم المناهضين للفاشية.
القمع والإجماع
ومن ناحية أخرى يلاحظ ماورو كانالي أن التناقض بين القمع والإجماع ظاهري، موضحاً أن جهاز الشرطة السياسية لم يكن فقط جهازاً لقمع معاداة الفاشية، وتجنيد الجماهير، ولكن كان أيضاً أداة موسوليني الشخصية للسيطرة على الدولة والتسلسل الهرمي للحزب الفاشي. ولكن بعد وصوله متأخراً إلى فرض سيطرته على الحزب، حافظ الدوتشي على قدر من عدم الثقة في التنظيم الأعلى للنظام، مفضلاً ترسيخ سلطته الشخصية من خلال هيئات خارج هيكل الحزب.
ومن هنا تجلى اشتراك أنصار الحداثة الفنية والمعمارية في إضفاء طابع القداسة على الفاشية وإدامة حضارتها. وهؤلاء تعاونوا في الغالب مع النظام ولعبوا دوراً رائداً كمفسرين للأساطير الفاشية، وتجسيدها في أعمال نحتية بهدف استعادة مجد روما القديم. وكما تؤكد إميلي براون فقد سمح النظام بـ”تعددية الأساليب” و”تغاضى عن نقاش مفتوح نسبياً في مجال الفن”، وإن كان “ضمن المشروع المعلن لتطوير فن فاشي”. ولا يعني ذلك كما تقول براون إنكار الشمولية الفاشية، لأن تعددية الأنماط استخدمت لأغراض الدعاية الهجومية التي شارك فيها الفنانون بوعي كامل بوظيفتها المناهضة للديمقراطية. ويذهب جورجيو تشوتشي إلى أن تنوع الأساليب والمواجهة الجدلية بين العقلانيين والتقليديين تجعل من المهم فهم جانب معين من الحال الإيطالية المعقدة، وهو دمغ العمارة بأنها فاشية مع إدراك أن جميع المهندسين المعماريين أرادوا أن تنطبع قناعاتهم الجمالية على الفاشية، ولكنهم كانوا حريصين أيضاً على ألا يجدوا أنفسهم مهمشين في ما يتعلق بالحداثة التي بدت وكأنها تفرض نفسها في بعض الأحيان بفضل تأييد موسوليني الصريح لها.
بين الأمس واليوم
وكعاصمة للنظام الفاشي عانت روما أكثر من أية مدينة أخرى في إيطاليا من تجربة الحداثة الشمولية في هيكلها المادي، من خلال عمل جذري واسع النطاق للتحول الحضري المعماري تحت السيطرة اليقظة للدوتشي المهووس بفكرة بناء روما جديدة، روما موسوليني، لكي يضعها فوق روما القياصرة والباباوات.
وعموماً، فإن المقالات التي يتألف منها الكتاب هي مجمل أبحاث اكتملت أو النتائج الأولى لأبحاث لم تكتمل، وهي في مجملها تقدم للقارئ –كما يقول المحرر– الفرصة لتجديد وتوسيع معرفته وتعميق أفكاره حول الحداثة والشمولية والفاشية. وربما يمكنها أيضاً مساعدته –يقول جنتيلي- في أن يصبح أكثر وعياً بالواقع الذي يعيش فيه، وواقع الحركات الجديدة للأصولية السياسية الدينية المسلحة بالعنف والقوميات الجديدة التي لا تقل عنفاً وتسلحاً، وتزعم أنها هويات دينية لا تمس ونقاء عرقي ينبغي الدفاع عنه وفرضه حتى بالحروب التي لا ترحم.
ويشدد جنتيلي في ختام مقدمة الكتاب على أن الفاشية تنتمي إلى الماضي ولا يتوقع بعثها على نحو واقعي. ويضيف “على ذلك، فإن مشكلات وتوترات وصراعات الحداثة التي نشأت منها الفاشية ليست بأية حال غريبة عن عصرنا، فهي تنتمي إليه كما كانت تنتمي إلى وقت نشأت فيه الفاشية”. وبرزت تلك التوترات مرة أخرى في العالم المعاصر فولدت صراعات جديدة مع وحشية غير متوقعة، عندما كان كثر يأملون في دخول عصر المواجهات السلمية والحلول المتناغمة بين مختلف الأمم التي تحررت من الوحوش التي اضطهدتها وعذبتها وذبحتها خلال القرن الماضي.