حرية ـ (31/10/2024)
“الشبح والروح” عنوان المعرض الذي يستضيفه تيت غاليري لأعمال الفنان المفاهيمي الراحل مايك كيلي (1954 – 2012)، وهو فنان أميركي يمكن إدراج أعماله تحت مفهوم البوب-آرت. كغيره من الفنانين المتأثرين بهذا الاتجاه، اعتمد كيلي في أعماله على العناصر البصرية المُتاحة من حوله، لتشكّل معاً ملامح الثقافة الشعبية في مجتمعه، فمثلت تجربته انعكاساً للثقافة الأميركية السائدة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
كان مايك كيلي نموذجاً للأميركي الواقع تحت تأثير البروباغاندا والخرافة والخيال السينمائي، إذ بدا مهووساً بالأجسام الطائرة المجهولة، وموسيقى البوب، والأبطال الخارقين. في أحد نصوصه المصاحبة للعرض، يصف الفنان نفسه بأنه من جيل التلفزيون، وأن العالم بدا له في شبابه كواجهة تلفزيونية كبيرة وخيال ومجموعة من الأكاذيب.
يستمر المعرض حتى التاسع من مارس/آذار المُقبل، وهو أكبر احتفاء خارج الولايات المتحدة الأميركية بأعمال هذا الفنان ذي السيرة الصاخبة التي انتهت بانتحاره. ما يلفت الانتباه في تجربة كيلي، ليس أنها تؤطر ملامح الثقافة الأميركية السائدة في أواخر القرن العشرين، بل لكونها تقدم لنا انعكاساً صارخاً لهذه الثقافة في تناقضاتها وعنصريتها وعنفها.
سعى مايك كيلي خلال مسيرته للبحث عن الصور النمطية التي تُشكل العقلية الأميركية، فأنشأ من دون أن يدري مزيجاً مُربكاً ومعقداً من المحتوى البصري. يرى بعضهم أن أعمال كيلي نجحت في تجسيد صورة الولايات المتحدة في أذهان الناس كخليط مُلتبس ومخيف تشكله فسيفساء من جنون العظمة والخيال والعنف والجمال والجنس والخُرافة.
المعرض مُستلهم من نص كتبه كيلي قبل رحيله مباشرةً، ليكون مصاحباً لعمل ينوي إنجازه عن المعاني المجازية للأشباح والأرواح في المخيلة الإنسانية. يتضمن المعرض أحد أهم أعمال كيلي وأكثرها صخباً، وهو العمل الذي قدمه في نهاية السبعينيات من القرن الماضي تحت عنوان The Poltergeist (الروح الشريرة). عمل مكون من سبع مجموعات من الصور الفوتوغرافية. تُظهر هذه الصور كيلي بينما تسيل من أنفه مادة أثيرية غامضة ووجهه مُغطى برسومات ملونة ومخيفة تشبه الأقنعة التي يرتديها المراهقون في عيد الهالوين.
يتضمن المعرض أيضاً أعمالاً من التركيبات المبكرة لكيلي، مثل مشروعيه “جزيرة القرود” و”نصف رجل” اللذين قدمهما في ثمانينيات القرن الماضي. اعتمد الفنان في هذين المشروعين على الحِرَف اليدوية، إذ كان على قناعة بأن تشجيع الحرف اليدوية يمثل مقاومة ضد هيمنة الرسم والنحت الحديثين. بناءً على قناعته تلك، أنشأ الفنان عشرات المنحوتات باستخدام أغراض مألوفة، مثل الألعاب المحشوة المصنوعة يدوياً والمفارش المطرزة.
وسعياً لالتقاط مشاعر الغرابة في الحياة اليومية، وظّف كيلي الدُّمى المستعملة البالية في ترتيبات مُخيفة، مقوِّضاً الانطباع السائد عن ألعاب الأطفال البريئة، ومستحضِراً أفكاراً حول هياكل السلطة الأسرية، إضافةً إلى الشعور الكامن بالشر.
يمثل المعرض الذي يُغطي مسيرة كيلي فرصة لاكتشاف العوالم المعقدة والخيالية التي قدمها هذا الفنان خلال مسيرته المهنية، والتي يتردد صداها إلى اليوم، بعد أكثر من عقد من الزمان على رحيله. كان كيلي مثل مراهق يلهو بالأشياء من حوله، يرسم صليباً معقوفاً على جبهة السيناتور العنصري المتعصب جيسي هيلمز، ويبني أشكالاً غرائبية مستوحاة من سلاسل القصص المصورة.
في أعماله تطالعنا صور وتجهيزات صادمة عدة: دُمى قديمة تخرج أحشاؤها، وأخرى حيكت أجزاؤها باستخفاف، وأبطال خارقون ومدن زجاجية، وتركيبات ملونة وكتابات ذات إيحاءات جنسية على صور الرؤساء الأميركيين. يضم المعرض تجهيزات مطلية باللون الأبيض في داخلها كائنات خرافية حبيسة داخل صناديق من الزجاج، يصفها النص المُصاحب بأنه عرض عن البساطة الأميركية المعقمة. نرى كذلك أكواماً من الدمى القديمة والمتسخة التي جمعها كيلي من أسواق الخردة كأنهم كائنات فضائية بائسة ضلّت طريقها فعلقت في هذا العالم. في النص المصاحب لأحد هذه الأعمال، يقول كيلي: “هذه الدمى كانت لها حيوات أخرى ذات يوم، شاطرت أطفالاً لعبهم، واستسلمت للترميم وخياطة أجزائها، وانتزعت أعينها الزجاجية حتى دُمّرت تماماً”.
في هذه الأعمال، يرسم كيلي سيرة صادمة للوقاحة والصلف والملل والضوضاء. حتى نكاته المكبوتة في حجرة الدرس أخرجها كيلي هنا إلى العلن، وأصبحت مؤطرة داخل تجهيزات أو صور فوتوغرافية. يتضمن المعرض نماذج من الأعمال التي تعكس هوس كيلي بمدينة كاندور عاصمة كوكب كريبتون موطن سوبرمان، الذي يجسده الفنان في تجهيزاته الزجاجية أو داخل كبسولات بلون الضباب.
يشبه عرض مايك كيلي الوجود في ملهى ليلي صاخب، تتخلله مقاطع فيديو ذات إيقاع سريع وصور مخيفة تشبه المعالجات السينمائية المرعبة لعيد الهالوين، بينما يطل وجه كيلي بجسده النحيف بين زاويا مساحة العرض. في أحد مقاطع الفيديو التي يضمها المعرض، نرى جمجمة مطلية بأحمر الشفاه من بين ظلمة حالكة، بينما يتردد في الخلفية صوت مُشوّه. سرعان ما تتوارى صورة الجمجمة وتتشكل على شاشة العرض بلورات تشبه المجرات المضيئة. يتسع المشهد قليلاً، فتتبين أن هذه البلورات ليست سوى فقاعات تتجمع فوق محيط مظلم. مع انتهاء الفيديو، ندرك أن مايك كيلي كان يخدعنا، فالمشهد ليس سوى قطرات من الماء تتساقط على نحو رتيب في بالوعة.