حرية ـ (20/11/2024)
هناك أسباب كثيرة قد تجعلكم مدمنين على تصفح منصة “تيك توك”، لكن صيحة المؤثرات في مجال الشؤون المنزلية اللواتي يظهرن بأجمل فساتينهن لخبز كعكة شهية قد أسرت قلوب جيل كامل. سواء كانت الأم الشابة نارا عزيزة سميث، البالغة من العمر 23 سنة التي يتابعها 10 ملايين شخص يتشوقون لرؤية كل حركة لها في المطبخ، أو ربة المنزل “التقليدية” هانا نيلمان، الأم لثمانية أطفال والمعروفة باسم “باليرينا فارم” التي وثقت حياة الأسرة الريفية في مزرعتها في ولاية يوتا الأميركية وجذبت أيضاً 10 ملايين متابع، لم يسبق للمبدعات في هذا المجال أن بلغن هذا القدر من الشهرة أو الجدل من قبل.
لكن من الذي دفعنا إلى الهوس برؤية ما يجري خلف أبواب المطبخ؟. في الستينيات، كانت جوليا تشايلد، الطاهية والكاتبة والشخصية التلفزيونية، من أوائل الأشخاص الذين عرّفوا الجمهور الأميركي إلى المطبخ الفرنسي وأقنعت مديري التلفزيون بأن هناك جمهوراً مهتماً ببرامج الطبخ. ثم جاءت داليا سميث في السبعينيات والثمانينيات لتعلم فنون الطبخ لجيل كامل من الطهاة المنزليين، ومن بعدها تسلمت نايجيلا لوسون الراية لتكون أيقونة الطهي المنزلي، فأضافت لمسة خاصة من المرح والتفرد إلى وصفاتها وأسلوبها في المطبخ.
لكن يمكن القول إن التأثير الحقيقي الأول في عالم إدارة المنزل جاء قبل هؤلاء جميعاً، وكان له أثر هائل على ملايين النساء حول العالم، حيث حوّل مفاهيم التدبير المنزلي المعتاد إلى نوع من النشاط الثوري والمهم في المجتمع.
كان اسمها إيزابيلا بيتون، وكتابها الشهير “كتاب إدارة شؤون المنزل” The Book Of Household Management جعلها رمزاً في العصر الفيكتوري. نشر هذا الكتاب للمرة الأولى عام 1861، وكان أكثر من مجرد كتاب وصفات، فقد كان دليلاً شاملاً للمرأة في جوانب الحياة المنزلية شتى، ووصفه الكاتب الشهير السير آرثر كونان دويل بأنه يحوي “في كل صفحة حكمة مكثفة تفوق أي كتاب آخر كتبه رجل”.
وُلدت بيتون في لندن عام 1836، وكانت الكبرى بين ثلاث أخوات. تزوجت والدتها مرة أخرى رجلاً لديه أربعة أبناء، ثم أنجبت منه 13 طفلاً آخرين. غالباً ما كانت بيتون تتولى رعاية هذه المجموعة الكبيرة من الإخوة التي وصفتها مراراً بأنها “حمولة حية من الأطفال”.
من الواضح أن تجربة بيتون في رعاية عائلتها الكبيرة منذ الصغر كانت المدرسة التي صقلت لديها مهارات التدبير المنزلي وإدارة موارد المنزل لإطعام كثير من الأفواه الجائعة. بعد قضاء فترة قصيرة في الدراسة في ألمانيا، تزوجت صاموئيل أورتشارت بيتون، الناشر الطموح ومحرر المجلات.
وفي وقت كانت معظم النساء يمكثن في المنزل، كانت إيزابيلا تعمل جنباً إلى جنب مع زوجها في مجلة “شؤون المنزل للمرأة الإنجليزية”، إذ قامت بترجمة القصص الفرنسية وكتابة عمود الطبخ.
لكنها بدأت تلاحظ حاجة ملحة لتقديم مزيد من الدعم والإرشاد للنساء في مجال إدارة المنازل. فقالت لقرائها: “ما دفعني في البداية إلى محاولة إعداد عمل كهذا هو الألم والمعاناة اللذان رأيتهما لدى الرجال والنساء والناجمان عن نقص المعرفة في إدارة شؤون المنزل”.
مع ازدهار الاقتصاد في ذلك العصر، بدأت الطبقة الوسطى المتشكلة حديثاً بتأسيس منازل في الضواحي الحديثة الأنيقة. وتحول الأزواج إلى موظفين ينتقلون يومياً للعمل، بينما وجدت نساء كثيرات أنفسهن وحيدات، بعيدات من الدعم العائلي التقليدي، ومسؤولات عن إدارة المنزل وتربية الأطفال والإشراف على العاملين المنزليين. وكان يُتوقع منهن معرفة كيفية اختيار خادمة واستقبال الضيوف المهمين وطلب الفحم ومعرفة بائع السمك الغشاش، بينما لم تكُن لديهن أدنى فكرة عن كيفية القيام بذلك.
هل يمكن أن تكون نايجيلا لوسون النسخة المعاصرة من السيدة بيتون؟
حينها ظهرت السيدة بيتون، وقدمت نصائحها الواضحة وحكمتها العملية حول كل جانب قد يواجهه الناس في أمور المنزل. وضعت منهجاً منظماً وقواعد تبقي الأمور تحت السيطرة. وعلى رغم أن اسمها ارتبط – في حياتها وبعد وفاتها – بالنظام المنزلي، إلا أن بيتون كانت رائدة جريئة في زمانها.
كانت بعيدة كل البعد من صورة الزوجة التقليدية، فكانت تذهب يومياً إلى مكتبها، واستمرت في العمل حتى عندما فقدت ابنها الأول، صاموئيل، بعد ثلاثة أشهر فقط من ولادته. وبعد محنتين أخريين مع الإجهاض، أنجبت ابنها الثاني، وسمته صاموئيل أيضاً، عام 1859.
وبسبب عملها في وظيفة بدوام كامل، كان لديها وقت قليل للطهي، ولا توجد دلائل على أنها استمتعت بالقيام بذلك. بدلاً من ذلك، جمعت وصفات من قارئات “مجلة شؤون المنزل للسيدة الإنجليزية” واستعارت وصفات من كتّاب الطهي في عصرها.
لكن العبقرية التي أكسبت السيدة بيتون شهرة واسعة هي طريقتها الفريدة في ترتيب الوصفات: للمرة الأولى، وضعت قائمة دقيقة بالمكونات متبوعة بتعليمات واضحة للتحضير، إلى جانب تقدير دقيق للكلفة وعدد الأشخاص الذين تكفيهم الوصفة، وفترات توافر المكونات بحسب الموسم. قبلها، غالباً ما كانت الوصفات فرنسية متشعبة ومعقدة أو تبدأ بخطوات تحضير عسيرة على الفهم، لكن الفضل يعود للسيدة بيتون في التفاصيل الواضحة التي نجدها في وصفات اليوم ونعتبرها أمراً مفروغاً منه. فقد أصرت على تقديم وصفات مبسطة لا تترك مجالاً للأخطاء. وفي حين أنه تم اتهامها أحياناً بالسرقة الفكرية، فإن الوصفات التي جمعتها في كتابها الشهير صارت أطباقاً كلاسيكية ما زلنا نحبها حتى يومنا هذا، من حساء الجزر إلى فطائر اللحم الإسكتلندية وكعكة فيكتوريا الاسفنجية.
العين تأكل قبل الفم: الطريقة المثالية لتقديم العشاء بأسلوب السيدة بيتون
عثرت على نسخة من “كتاب إدارة المنزل” كانت تمتلكها جدتي أثناء ترتيبي مجموعة كتب الطهي الخاصة بوالدتي، وكم كانت دهشتي كبيرة أثناء تصفحي إرث العائلة عندما اكتشفت أن نصائح السيدة بيتون التي وجهتها لنساء العصر الفيكتوري، ما زالت قابلة للتطبيق في يومنا هذا. في الواقع، يمكن القول إنها كانت السباقة في اقتراح هذه الأفكار.
على سبيل المثال، كانت تدعو إلى الاستيقاظ قبل ساعة من موعد نهوض بقية أفراد الأسرة وأخذ حمام بارد لتجديد النشاط والاستعداد ليوم جديد، وهي نصيحة قد تكون مألوفة بالنسبة إلى أولئك الذين يتبعون توصيات “شيء واحد فقط” التي قدمها الراحل مايكل موسلي.
كذلك، كانت تشجع النساء على وضع موازنة دقيقة، مؤكدة أن “الاقتصاد والتوفير هما من فضائل الأسرة”، وأن من يحسن تدبير القليل، بغض النظر عما يملكه، سيكون أكثر نجاحاً في إدارة الكثير، وهي فكرة تتكرر اليوم في التطبيقات المصرفية الحديثة التي تروج لتوجيهات مشابهة.
لا يزال كثير من الأشياء التي شجعت عليها بيتون في كتابها ذا صلة بأساليب حياتنا العصرية
منحت السيدة بيتون الناس الثقة للمساومة للحصول على أفضل جودة بأقل سعر، مشجعة إياهم على تسجيل مصاريفهم اليومية ومراجعة حساباتهم شهرياً. كانت فلسفتها في الطهي تعتمد على إعداد الطعام وفقاً للمواسم، إذ رأت أن من الحكمة طهي قطعة كبيرة من اللحم الأحد، ومن ثم إعادة استخدام ما بقي منها في تحضير وجبات اقتصادية طوال الأسبوع. لم يكُن هناك مكان للهدر في مطبخها، حيث أوصت بتحضير مرق العظام كأساس لليخنات والشوربات.
وعلى رغم أنها لم تكُن تمتلك المعلومات العلمية المتاحة اليوم حول أهمية توازن الأحياء الدقيقة في الجسم، فإنها أدركت على ما يبدو ما هو مفيد للناس، فقد نصحت بتناول كثير من الفواكه والخضراوات الطازجة والحصول على وجبات منتظمة وضرورة النوم الجيد، وهي إرشادات منطقية وتتماشى مع أحدث النصائح المتعلقة بالصحة والعافية.
نارا عزيزة سميث تستفيد من مهاراتها في التقطيع
وفي ما يتعلق بالأزياء، كانت بيتون تختار الراحة أساساً، مدركة أن صيحات الموضة تأتي وتذهب، وقد تصبح أحياناً مثيرة للسخرية. وعند شراء قطع جديدة من “الملابس”، نصحت “ربة المنزل بأن تراعي ثلاثة أمور: أولاً، ألا تكون القطعة غالية جداً مقارنة بموازنتها، ثانياً، أن يتناغم لون القطعة مع بشرة السيدة وأن يلائم مقاسها وتصميمها قوامها، وأخيراً أن يكون لونها ملائماً للتنسيق مع القطع الأخرى التي تمتلكها”. ومع تنامي الوعي العالمي بمساوئ الموضة السريعة، أصبحت هذه القواعد الثلاث أكثر أهمية من أي وقت مضى.
كذلك كانت بيتون تنظر إلى العمل المنزلي على أنه واجب يجب أن يُحترم، ووضعت توجيهات واضحة لكيفية تعيين العاملين – والأهم من ذلك – الاحتفاظ بالعاملين الجيدين. ومع أنها تعترف بأن إدارة المنزل هي مهمة ضخمة، إلا أنها تبنت نبرة تشجيعية تؤكد أن ربة المنزل “تستطيع فعل ذلك” وتعطيها أعلى مكانة مرموقة، مؤكدة أنه “كما هي الحال مع قائد أي جيش أو مدير أي مشروع فإن دور ربة المنزل لا يقل أهمية”.
على كل حال، وعلى رغم نجاح بيتون، اتخذ زوجها صاموئيل قرارات تجارية كارثية، مما اضطرها عام 1862 إلى مغادرة منزلها المريح في منطقة بينر بلندن والانتقال إلى السكن فوق مكاتب عملهما. وفي ظل أجواء لندن الكئيبة، فقدت ابنها وهو في سن الثالثة، ورزقت بابنها أورشارت عام 1863، وانتقلت العائلة الصغيرة إلى مقاطعة كِنت بعد ذلك.
بعد رحلة إلى باريس عام 1864، كانت بيتون تعمل على إصدار نسخة مختصرة من كتابها، ولكنها حملت مجدداً ودخلت في مخاض مبكر. ولدت ابنتها، لكن بيتون نفسها توفيت بعد ثمانية أيام نتيجة حمى النفاس، وكانت في الـ28 من عمرها فقط. وقد اقترح عدد من المؤرخين أن زوجها ربما أصيب بمرض الزهري بصورة غير مقصودة في علاقة قبل الزواج مع بائعة هوى ونقلها إلى زوجته.
بعد وفاة بيتون، قام صاموئيل ببيع حقوق الملكية الفكرية لـ”كتاب دليل إدارة المنزل”، ولم يحظَ بفرصة الاستفادة من النجاح الذي حققه الكتاب الذي أصبح خلال أكثر من قرن من الزمان كتاب الطبخ الأكثر نجاحاً والكتاب الإنجليزي الأكثر مبيعاً بعد الكتاب المقدس.
لأنني شعرت بأن أفكار بييتون تتناغم مع توجهات اليوم المتعلقة بتعقيدات الحياة المنزلية، قررت إحياء روحها في روايتي الأخيرة “وكالة الآنسة بيتون لجرائم القتل” Miss Beeton’s Murder Agency. أقدم من خلالها شخصية أليس بيتون، وهي قريبة بعيدة متخيلة لـبيتون، تدير “وكالة إدارة المنزل الجيدة”، المتخصصة في توظيف طواقم العمل الراقية في قصور لندن الفاخرة والمزارع الريفية الشاسعة. مثلها مثل قريبتها السابقة، تفرض أليس نظاماً صارماً للحفاظ على الأمور في نصابها الصحيح، حتى عندما يتعلق الأمر بجرائم القتل. أليس العاشقة للوصفات، تقوم بخبز وصفات عدة للسيدة بيتون خلال مجريات أحداث الرواية، ويتم تضمين تلك الوصفات في السرد.
من الرائع معرفة أنني أسهم في إحياء ذكرى بيتون، فتراثها ينبغي ألا يُنسى. كما تلخص نيكولا همبل في كتابها عن تاريخ الطعام البريطاني: “بأسلوبها النشط والتقدمي، ساعدت [بيتون] كثيراً من النساء على التغلب على شعور الوحدة في الزواج ومنحت الأسرة المكانة التي تستحقها. وفي مناخ تلك الفترة، كانت شجاعة وقوية الإرادة، ودافعت بلا كلل عن حقوق النساء في كل مكان”.
لا أستطيع إلا تخيل أنه لو كانت إيزابيل بيتون حية اليوم، لكانت بلا شك واحدة من المؤثرات في عالم شؤون المنزل، تدافع عن ربات البيوت ومربيات الأطفال والطهاة الهواة في كل مكان. لأنها كانت تدرك – مثلها مثل المؤثرين العصريين – أن الأمر ليس بالسهولة التي يبدو عليها.
يمكنكم الآن قراءة الرواية البوليسية الجديدة الآسرة والممتعة “وكالة الآنسة بيتون لجرائم القتل” للكاتبة جوزي لويد.