حرية ـ (10/12/2024)
رفعت ناظري لتأمل جدار الغرانيت الصخري المنتصب أمامي فانتابني مزيج من التوتر والحماسة، فيما أخذت أربط حزام الأمان بالحبل، هنا في الوديان الوعرة المحيطة بمنطقة دهب في مصر، تشهد الصخور القديمة على ولادة مجتمع صغير وحيوي من المتسلقات.
وهذا المكان كذلك يفتح أمام مجموعة نسائية مقدامة من مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المجال للعثور على موطئ قدم لهن في عالم رياضات المغامرة.
بعد التأكد من سلامة المعدات مع “البيلاير” (الشخص الذي يتحكم بالحبل وبتأمينه)، وضعت بودرة طباشير على يدي وأمسكت الصخر وبدأت بالصعود. ومع تسلقي الصخر دبت الحياة في عضلات جديدة بجسمي، فيما أخذ ذهني يخط بحذر ودقة مساراً يربط التجاويف والحواف الصخرية الممتدة أمامي.
تتناهى إلي أصوات متسلقات أخريات حولي وهنّ يشقن طريقهنّ وسط نداءات التشجيع من الفريق على البر، فشعور المؤازرة ملموس بين أعضاء الفريق، وفي ما تتسلق النساء الصخور الصحراوية، يعبق الجو بمشاعر التوتر والحماسة والخوف والفرح الشديد، ويجمع بين أعضاء الفريق انتصاراتهم الصغيرة والصداقة وشعور التمكين المشترك بعد يوم تسلق طويل.
في شبه جزيرة سيناء المصرية مجموعة تسلق تقودها نساء وتسمى “نساء في الوادي”، وهي التي تفتح باب هذه المغامرات. تأسست المجموعة على يد سيدتين هما من أوائل معلمات تسلق الصخور في مصر، وتدعيان أميرة حلمي ومنة عماد، إلى جانب المتسلقة البريطانية جين موريس، وتغير المجموعة وجه رياضات المغامرة في المنطقة عبر شق طريق للنساء في مجال كان وجودهنّ فيه صعباً في السابق.
وتقول حلمي “صحيح أننا من الشرق الأوسط، لكننا لا نشبه الصورة النمطية لمواطني الشرق الأوسط، فنحن نغرد خارج السرب”.
ما تزال رياضة تسلق الصخور رياضة يهيمن عليها الرجال عالمياً، فأقل من ربع المتسلقين في العالم من النساء وفقاً لاستطلاع يعود لعام 2020. وعلى رغم زيادة مشاركة النساء في النشاطات “الخطرة”، فإن التوقعات الثقافية وقلة الفرص تبطئ وتيرة زيادة إقبال النساء على هذا المجال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (المينا)، لكن مجموعة نساء في الوادي تسهم في إعادة كتابة قصة الذين ينتمون إلى الصخور.
بدأت الحكاية بالنسبة إلى حلمي مع رغبتها في أن تنقل لغيرها من النساء الشعور الذي ينتابها عند التسلق، وتقول المتسلقة المصرية الأميركية “شعرت بأنها رحلة شفاء [داخلي]، فالمرأة تعاني كثيراً وتجد نفسها دائماً تسعى إلى النجاة والبقاء على قيد الحياة، فتستيقظ في الصباح وترتدي درعاً واقياً [يقيها الشرور]، لكن عندما أكون بين الجبال وأتسلق، أنا حرة طليقة”.
نساء في الوادي يحرصن على حصول المتسلقات على المعدات الضرورية على رغم الحجم الصغير نسبياً لمجتمع المتسلقين في مصر
انطلق الفريق بتوقعات محدودة لكن أول فعالية افتتاحية له في يناير (كانون الثاني) 2021 استقطبت أكثر من 20 سيدة، وكان من الجلي أن الرغبة الحقيقية في التسلق موجودة بين أعضاء المجتمع، وكل ما احتاجت السيدات إليه هو من يرشدهنّ إلى سبيل [صعود الجبال]. وسرعان ما تحول المشروع الذي بدأ كفرصة لتوحيد المهتمين بالمغامرات الخارجية في دهب إلى مجتمع دولي مزدهر.
وتستضيف مجوعة نساء في الوادي فعاليات تسلق دورية ولقاءات ورحلات مبيت تستقطب المتسلقات من مصر والسعودية والأردن، إلى جانب عدد متزايد من أفراد الجالية الدولية المهتمين بمسارات التسلق في مصر. وأحياناً تدخل اليوغا أو العلاج بالحركة إلى الجلسات بهدف خلق روابط بين المتسلقات، ونظمت المجموعة فعاليات دولية وأقامت خلوتها الأولى خارج مصر في تركيا.
باعتباري سيدة مصرية، يجعلني التسلق أشعر بأنني أقوى، وهو يهدئني مع أنه صعب أحياناً
تنظم معظم الرحلات في فصل الشتاء في الوديان المحيطة بدهب، إذ تنتشر مسارات مختلفة لممارسة رياضة التسلق تناسب كل المستويات، من المبتدئين ووصولاً إلى المحترفين، كما أن التسلق برفقة المجموعة في هذه المواقع لا يتعلق فقط بالقدرة على المثابرة وإنهاء المسار.
وتقول موريس “بعض السيدات تغلبهنّ العاطفة أمام الجدار ولا سيما عندما ينجحن بالوصول إلى القمة، وهو ليس الهدف دائماً، وهن يشعرن بالإنجاز [والكمال]. ونحن نتقبل كل أشكال التعبير عن النفس، ولا بأس بشعور الإحباط أو عدم القدرة على إنجاز شيء ما، ونحرص على إتاحة مساحة التعبير للأخريات”.
كانت السلطات المحلية منصدمة في البداية إزاء نشاط المجموعة، ولا سيما لدى رؤية نساء مصريات يتسلقن الصخور
إضافة إلى تعزيز حرية التعبير، ما يحفز الفريق هو هدف أساس آخر: إقامة صلات مع نساء عربيات. وعدل مساراته كي تشعر المتسلقات بالراحة، والطلب من السائقين الذكور مغادرة المكان لزيادة الشعور بالخصوصية، ومنذ ذلك الوقت يرتفع عدد المتسلقات من منطقة المينا باستمرار.
وتشرح حلمي “أردت أن أبني مجتمعاً للنساء حيث يتمتعن بالحرية والقدرة على التحرك بلا قيود على الصخور، وهو مساحة آمنة يمكن حتى للمحجبات فيها أن يخلعن الحجاب ويتسلقن”.
ألهمت هذه المقاربة نساء مصريات لاكتشاف قدراتهن الخاصة إلى جانب أقرانهنّ وساعدت أخريات في لعب دور المرشدات في الطبيعة، تقول مي الشامي، وهي إحدى المتسلقات المنتظمات في الفريق “باعتباري سيدة مصرية، يجعلني التسلق أشعر بأنني أقوى، وهو يهدئني [يبعث السلام في أوصالي] مع أنه صعب أحياناً”.
“لكن إيجاد مجتمع من المتسلقات سهل علي كثيراً مواصلة التسلق ومحبة هذه الرياضة، عندما نجتمع معاً من أجل التوجه إلى الوادي والتسلق، لا نشعر بأننا دخلنا منافسة مع بعضنا بعضاً. فالمسألة وثيقة الصلة أكثر بالاستمتاع بالتسلق، وتذكير أنفنسا بأنه علينا تنفس الصعداء”.
لكن لم يكن بناء هذا المجتمع المترابط خالياً من المشكلات، وتقول حلمي إن المجموعة واجهت بعض المقاومة من السلطات المحلية في البداية، فيما شكك فيها بعض أفراد البيئة المحيطة بها، وتضيف “لم يكونوا قادرين على تصديق الموضوع، لم يستوعبوا كيف تقوم امرأة بهذا النشاط، لا يصعب عليهم أن يروا أجنبية تقوم به إنما ليس مصرية”.
نتقبل كل أشكال التعبير عن النفس، ونحرص على إتاحة مساحة التعبير للأخريات
بسبب قلة عدد متسلقي الصخور في مصر، من الصعب كذلك أن يجد المرء في البلاد معدات مثل أحزمة الأمان والحبال وأحذية التسلق، بل إن معظم المعدات تأتي من التبرعات ويحضرها أشخاص معهم في حقائبهم.
لكن على رغم هذه العراقيل، تستمر مجموعة نساء في الوادي باستقطاب اهتمام مجتمع المتسلقين حول العالم وتساعد في تطور ونمو مجال التسلق وسياحة المغامرات في مصر.
ونتيجة لاستمرار نمو المجموعة، بدأت نساء في الوادي في نهاية المطاف بتنظيم فعاليات للجنسين كي تبين كيف يمكن أن يكون شكل مجتمع التسلق الأكثر وعياً والأقل تنافسية. وشعرت المجموعة بأن هذه هي الخطوة الطبيعية، نظراً إلى قيامها على أساس من الشمولية واحترام التنوع. وتشرح موريس ذلك بقولها “نحاول تأسيس مساحة يمكن للنساء فيها أن يكن مرشدات في الطبيعة، ونظهر من خلالها أن أي شخص قادر على الانتماء”، مضيفة أن المتسلقين من الرجال بحاجة إلى أن يلمسوا ذلك، وهو يطبق كذلك بالفعل.
إضافة إلى جهود نساء في الوادي لتخطي العوائق الثقافية، وتأسيس مجتمع متسلقين أكثر شمولية ودمجاً في مصر بغض النظر عن الجنس أو الدين أو لون البشرة، لدى المجموعة أهداف أكبر لمجال رياضة المغامرات في الشرق الأوسط. وتقول موريس في هذا الصدد “يتعلق الأمر بتأسيس مجتمع من المتسلقات، إذ يبدأن بالتعرف إلى بعضهن بعضاً وتوسيع آفاقهنّ”.