حرية ـ (6/1/2025)
اللواء الدكتور سعد معن الموسوي
في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من الصعب التمييز بين الحقائق والمعلومات المضللة، وهو ما يبرز ظاهرتين خطيرتين هما الجهل المركب والجهل المقدس. تتشابك هاتان الظاهرتان في تشكيل آراء الناس واتجاهاتهم الفكرية، ما يشكل تحديًا كبيرًا للمجتمعات الحديثة في مسعى لتحقيق تقدم معرفي وتنمية مستدامة. يتطلب فهم هذه الظواهر تحليلًا دقيقًا لمصدرها وأثرها على الأفراد والمجتمعات، وكذلك تحديد الأساليب المناسبة لمواجهتها، سواء على مستوى التعليم أو على مستوى منصات الإعلام الرقمي.
الجهل المركب يتمثل في حالة يعتقد فيها الفرد أنه يمتلك معرفة كاملة عن موضوع ما، بينما هو في الحقيقة يجهل هذا الموضوع بشكل كامل. هذه الحالة من “الجهل بالجهل” تشكل مصدرًا للأخطاء الفكرية واتخاذ القرارات غير السليمة. الأشخاص الذين يعانون من الجهل المركب يثقون بشكل مفرط في آرائهم ويشعرون بالاطمئنان تجاه معرفتهم، حتى إذا كانت هذه المعارف سطحية أو مغلوطة. على الرغم من أنهم قد يبدون واثقين في تصوراتهم، إلا أنهم في الواقع غير قادرين على إدراك ما يجهلونه. في العصر الرقمي، يساهم انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات غير الموثوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز هذه الظاهرة، حيث يصبح الأفراد أكثر عرضة للتأثيرات السلبية للمحتوى المشوه، مما يعزز القناعات الخاطئة. وكما قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: “أنا أفكر إذًا أنا موجود”، مما يعكس أهمية التفكير النقدي واليقظة الفكرية في تجنب الوقوع في فخ الجهل المركب.
الجهل المقدس من جانب آخر، يشير إلى التمسك بمعتقدات أو قيم معينة يتم تبجيلها وتقديسها في سياقات ثقافية أو دينية، حتى إذا كانت هذه المعتقدات خاطئة أو لا تدعمها الأدلة العلمية. يعزز الجهل المقدس من ظاهرة الرفض المطلق لأي محاولة لتحدي أو تعديل هذه المعتقدات، حيث يصبح من غير الممكن مناقشتها أو التقليل من شأنها. هذا النوع من الجهل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية الجماعية أو الدينية، ويُنظر إليه كجزء من التراث الثقافي الذي لا يمكن المساس به، حتى إذا كانت تلك المعتقدات تتناقض مع الحقائق الملموسة أو المعرفية. وقد قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “العقل هو مصباح الضوء في الظلام”، مما يعكس ضرورة التمسك بالعقلانية في معالجة المعتقدات والممارسات التي قد تتنافى مع المنطق والعلم.
اماً و سائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا مركزيًا في تعزيز كلا النوعين من الجهل. فهي لا تقتصر على نشر المعلومات، بل تسهم أيضًا في تشكيل آراء الأفراد بشكل أسرع من أي وقت مضى. منصات مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام والمجموعات على الواتس اب تعتمد على الخوارزميات التي تسعى إلى تقديم محتوى يتناسب مع اهتمامات المستخدمين، مما يخلق “فقاعات معرفية” تشجع على تقوية المعتقدات المسبقة. هذا الأمر لا يعزز فقط الجهل المركب، بل يعمق الجهل المقدس عندما يتم نشر معلومات مغلوطة يُنظر إليها على أنها صحيحة فقط لأنها تتوافق مع آراء أو معتقدات معينة. وقد جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيةٌ” (البقرة: 118)، ليُظهر كيف أن البعض يرفضون التفكير النقدي والتعلم المتواصل بسبب إيمانهم بما هو ثابت أو مقدس لديهم.
إحدى الدراسات التي أُجريت في جامعة هارفارد حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على تصورات الأفراد أكدت أن منصات التواصل الاجتماعي تُسهم في تعميق الانقسامات بين الأفراد بسبب تعرضهم للمعلومات الموجهة التي تزداد تأكيدًا لرؤاهم الخاصة. وبدلًا من أن تكون منصات التواصل الاجتماعي مكانًا لتبادل المعرفة والتفاعل الفكري، فإنها تصبح بيئة خصبة لنمو المعتقدات المغلوطة والآراء المتطرفة.
لحل هذه الإشكاليات، يُعد التعليم والتوعية من الأدوات الأساسية التي يمكن أن تساهم في الحد من تأثير الجهل المركب والمقدس. من الضروري تضمين المهارات الرقمية والتفكير النقدي في المناهج الدراسية، بحيث يتم تدريب الأفراد على كيفية التحقق من مصادر المعلومات، وفحص الأخبار قبل تصديقها أو نشرها. على مستوى الأفراد، يجب أن يُشجع الناس على التفكير بشكل نقدي، وعدم الانغماس في “فقاعات المعرفة” التي تقتصر على وجهات نظرهم فقط. وكما ورد في الحديث الشريف عن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم: “من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين
، فإن الفقه في الدين والعلم لا يأتي إلا من خلال التفكر والتعلم المستمر.
من جهة أخرى، يُعد الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في هذه المعادلة مهمًا للغاية. فبدلًا من أن تكون وسائل الإعلام عاملاً مسهلاً لنشر الوعي والمعرفة، أصبحت جزءًا من المشكلة عندما تساهم في نشر الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة. لذا، فإن مسؤولية منصات مثل فيسبوك وتويتر يجب أن تتجاوز تقديم المعلومات إلى تعزيز الثقافة الرقمية السليمة، والعمل على تقديم محتوى موثوق والتأكد من صحة المعلومات المتداولة.
من خلال تعزيز التفكير النقدي في المدارس والجامعات، وتفعيل الحوار المفتوح في المجتمعات الافتراضية حول القيم والمعتقدات، يمكننا الحد من تأثير الجهل المركب والمقدس. كما ينبغي العمل على تحفيز الأفراد على قبول التغيير والانفتاح على الأفكار الجديدة، خاصة في بيئة تحكمها التقنية والمعلوماتية.
يعد التصدي للجهل المركب والجهل المقدس مسؤولية جماعية تتطلب التعاون بين الأفراد والمؤسسات التعليمية والإعلامية. من خلال التعليم الجاد والتوعية الرقمية، يمكننا بناء مجتمعات قادرة على التعامل مع المعلومات بشكل نقدي وواقعي، مما يعزز من قدرتنا على التطور والنمو في ظل تحديات العصر الرقمي.