حرية ـ (1/2/22025)
أصوات مكائن النفخ والكي والضغط على الجلد الأملس، تعيد الحياة إلى أحذية رعاة البقر الأمريكية المصنوعة بالكامل في الساحل الشرقي للصين. ثم يأتي صوت آخر لاستمرار اصطفاف الأحذية في خط التجميع، وأصوات الخياطة والقطع واللحام تتردد صداها من الأسقف العالية.
يقول مدير المبيعات في المصنع، السيد بينغ، 45 عاماً -لم يرغب في الكشف عن اسمه الأول-، “اعتدنا أن نبيع نحو مليون زوج من الأحذية سنوياً”. هذا حتى جاء دونالد ترامب.
وأثارت سلسلة من التعريفات الجمركية في ولاية ترامب الرئاسية الأولى حرباً تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم. وبعد ست سنوات، تستعد الشركات الصينية لما سيحصل الآن بعد عودته إلى البيت الأبيض.
يتساءل بينغ، بنبرة تشكيك مما تعنيه الولاية الجديدة لترامب بالنسبة له ولزملائه – والصين “ما الاتجاه الذي يجب أن نتخذه في المستقبل؟”.
معركة تلوح في الأفق
بالنسبة للأسواق الغربية التي أضحت حذرة بشكل متزايد من طموحات بكين، أصبحت التجارة ورقة مساومة قوية – خاصة وأن الاقتصاد الصيني البطيء يعتمد بشكل متزايد على الصادرات. عاد ترامب إلى ما وعد به أثناء حملته الانتخابية من فرض تعريفات جمركية كبيرة على السلع المصنوعة في الصين، وهدد منذ ذلك الحين بفرض ضريبة بنسبة 10 في المئة من المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ في اليوم الأول من فبراير/ شباط.
كما أمر بمراجعة التجارة بين الولايات المتحدة والصين – ما يمنح بكين الوقت وواشنطن مساحة للتفاوض. وفي الوقت الحالي، يبدو أن الخطاب الأكثر صرامة (التعريفات الجمركية العالية) موجه ضد حلفاء الولايات المتحدة مثل كندا والمكسيك.
ربما ضغط ترامب على زر الإيقاف المؤقت للمعركة الوشيكة مع بكين. لكن الكثيرين يعتقدون أنها لا تزال قادمة. من الصعب العثور على رقم دقيق لعدد الشركات التي تفر من الصين، لكن الشركات الكبرى مثل نايكي وأديداس وبوما انتقلت بالفعل إلى فيتنام. تماماً كما كانت الشركات الصينية تتحرك، وتعيد تشكيل سلاسل التوريد الخاصة بها، على الرغم من أن بكين تظل لاعباً رئيسياً.
يقول بينغ إن رئيسه، الذي يملك المصنع، فكر في نقل الإنتاج إلى جنوب شرق آسيا، إلى جانب العديد من منافسيهم. ومن شأن ذلك أن ينقذ الشركة، لكنهم سيخسرون قوتهم العاملة. فغالبية الموظفين من مدينة نانتونغ القريبة، وعملوا هنا لأكثر من 20 عاماً.
يقول بينغ، الذي توفيت زوجته عندما كان ابنهما صغيراً، إن المصنع كان عائلته “رئيسنا عازم على عدم التخلي عن هؤلاء الموظفين”.
ويشير بينغ إلى أن رئيسه على دراية بالجغرافيا السياسية التي تلعب دوراً، لكنه يقول إنه وعماله يحاولون فقط كسب لقمة العيش. ما زالوا يعانون من تأثير عام 2019، عندما ضربت الجولة الرابعة من التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب – 15 في المئة – السلع الاستهلاكية المصنوعة في الصين، مثل الملابس والأحذية.
وتضاءلت الطلبات منذ ذلك الحين وانخفض عدد الموظفين، الذي كان أكثر من 500 ، ليصبح نحو 200. والدليل موجود في محطات العمل الفارغة داخل المصنع، كما يطلعنا بينغ.
من حوله، يقص العمال الجلد بالشكل الصحيح لإرساله إلى الماكينة. يجب أن يكونوا دقيقين لأن أي خطأ سيدمر الجلد باهظ الثمن، والذي تم استيراد معظمه من الولايات المتحدة.
يحاول المصنع الحفاظ على انخفاض التكاليف، إذ يفكر بعض المشترين الأمريكيين بالفعل في نقل أعمالهم بعيداً عن الصين، بسبب تهديد التعريفات الجمركية.
لكن هذا يعني خسارة العمال المهرة، إذ قد يستغرق الأمر ما يصل إلى أسبوع لصنع زوج واحد من الأحذية، من فرد الجلد إلى إعطاء الحذاء النهائي تلميعاً نهائياً وتعبئته للتصدير. هذا ما حول الصين إلى أكبر مصنع في العالم – الإنتاج المكثف للعمالة والذي يكون رخيصاً أيضاً عندما يتم توسيعه ودعمه بسلسلة توريد لا مثيل لها. واستغرق الأمر هذا سنوات ليصل إلى ما هو عليه الآن.
يقول السيد بينغ، الذي يعمل هنا منذ عام 2015: “كان العمل هنا ذات يوم دورة مستمرة من فحص البضائع وشحنها – وكنت حينها أشعر بالرضا. لكن الآن الطلبات انخفضت، ما يجعلني أشعر بالضياع والقلق”.
“الأحذية التي تُصنع هنا منذ أكثر من عقد من الزمان غزت الغرب المتوحش. وهذه قصة مألوفة في جنوب مقاطعة جيانغسو، مركز تصنيع على طول نهر اليانغتسي ينتج كل شيء تقريباً، من المنسوجات إلى المركبات الكهربائية”.
وهذه من بين مئات المليارات من الدولارات من البضائع التي تشحنها الصين إلى الولايات المتحدة كل عام – وهو رقم تضخم بشكل مطرد مع تحول واشنطن إلى أكبر شريك تجاري لها.
انزلق هذا الوضع في عهد ترامب. لكنه لم يعاد إلى سابق عهده عندما تولى خليفته جو بايدن، الذي أبقى على معظم التعريفات الجمركية من عهد ترامب، مع تدهور العلاقات مع بكين.
في الواقع، فرض الاتحاد الأوروبي أيضاً تعريفات جمركية على واردات المركبات الكهربائية، متهماً الصين بصنع الكثير، غالباً بدعم من إعانات الدولة. وقد ردد ترامب ذلك – أن ممارسات الصين التجارية “غير العادلة” تضر بالمشترين الأجانب.
ترى بكين مثل هذا الخطاب على أنه محاولات غربية لخنق نموها، وحذرت واشنطن مراراً وتكراراً من أنه لن يكون هناك فائز في هذه الحرب التجارية. لكنها قالت أيضاً إنها مستعدة للتحدث و”التعامل بشكل صحيح مع الخلافات”.
والرئيس ترامب، الذي وصف الرسوم الجمركية بأنها “قوته الكبرى الوحيدة” على الصين، يريد بالتأكيد التحدث.
من غير الواضح حالياً ما قد يريده في المقابل. خلال فترة شهر العسل لترامب مع الصين في ولايته الأولى، جاء إلى بكين لطلب مساعدة شي في لقاء زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. هذه المرة يُعتقد أنه قد يحتاج إلى دعم شي لإبرام صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لإنهاء الحرب في أوكرانيا. قال مؤخراً إن الصين لديها “قدر كبير من القوة في هذا الوضع”.
إن التهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة مدفوع بالاعتقاد بأن الصين “ترسل مسكن ومخدر الفنتانيل إلى المكسيك وكندا”. لذلك قد يطالبها ببذل المزيد من الجهد لإنهاء هذا التدفق. أو نظراً لأنه رحب بحرب المزايدة على تيك توك، فقد يرغب في التفاوض على ملكيته – أو التكنولوجيا الثمينة التي تعمل على تشغيل التطبيق – لأن بكين ستحتاج إلى الموافقة على أي بيع من هذا القبيل.
أيا كان الاتفاق، فإنه قد يساعد في إعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. ولكن غياب أحدهما قد ينهي فجأة فرصة شهر العسل الثاني، مما يجهز ترامب وشي لعلاقة أكثر مواجهة.
إن أجواء الأعمال متوترة بالفعل: فقد أظهر استطلاع سنوي أجرته غرفة التجارة الأمريكية في الصين أن أكثر من نصف التجار كانوا قلقين بشأن تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بشكل أكبر.
إن موقف ترامب الأكثر ليونة تجاه الصين يقدم بعض الراحة. لكن أمله لا يزال أن يساعد التهديد بالرسوم الجمركية في دفع المشترين بعيدا عن الصين ونقل التصنيع إلى الولايات المتحدة.
بعض الشركات الصينية تتحرك بالفعل – ولكن ليس إلى أمريكا.
نقل المصانع
وعلى بعد ساعة خارج العاصمة الكمبودية بنوم بنه، بنى رجل الأعمال هوانغ تشاودونغ مصنعاً جديداً لتلبية طوفان من الطلبات من عمالقة الولايات المتحدة وول مارت وكوستكو.
هذا هو مصنعه الثاني في كمبوديا، وينتجان معاً نصف مليون قطعة ملابس شهرياً، من القمصان إلى الملابس الداخلية. تتدحرج الشماعات التي تحمل سراويل قطنية أمامنا على خط آلي، وتتحرك من محطة إلى أخرى مع إدخال الخصر المطاطي والانتهاء من حواف الثياب.
وحالياً عندما يطرح العملاء المحتملون في الولايات المتحدة السؤال الأول، والذي أصبح متوقعاً ــ موقع مقره ــ فإن السيد هوانغ لديه الإجابة الصحيحة. ليس في الصين.
ويضيف “في حالة بعض الشركات الصينية، قال لها عملاؤها: “إذا لم تنقلوا الإنتاج إلى الخارج، فسوف ألغي طلباتكم”.
وتفرض الرسوم الجمركية خيارات صعبة على الموردين وتجار التجزئة، ولكن ليس من الواضح دائماً من سيتحمل العبء الأكبر من التكلفة. وفي بعض الأحيان يكون العميل هو المتضرر، كما يقول السيد هوانغ.
ويضيف “اعتبر وول مارت مثالاً. أبيع لهم الملابس بخمسة دولارات، ولكنهم عادة ما يرفعون السعر بمقدار 3.5 أضعاف. وإذا ارتفعت التكلفة بسبب الرسوم الجمركية الأعلى، فقد يرتفع السعر الذي أبيعه لهم إلى 6 دولارات. وإذا رفعوا السعر بمقدار 3.5 مرات، فإن سعر التجزئة سوف يرتفع”.
ولكن عادة، كما يقول، يكون المتضرر هو المورد. وإذا كان خط إنتاجه في الصين، فإنه يقدر أن رسوما جمركية إضافية بنسبة 10 في المئة قد تستنزف 800 ألف دولار إضافية من أرباحه.
ويوضح “هذا أكثر مما أجنيه من ربح. إنه ضخم ولا نستطيع تحمله. إذا كنت تصنع الملابس في الصين في ظل مثل هذه التعريفات الجمركية، فهذا أمر غير ملائم على المدي الطويل”.
تتراوح التعريفات الجمركية الأمريكية الحالية على السلع الصينية من 100 في المئة على المركبات الكهربائية إلى 25 في المئة على الصلب والألمنيوم. حتى الآن، أُعفيت العديد من العناصر الأكثر مبيعاً، بما في ذلك الإلكترونيات، مثل أجهزة التلفاز والهواتف المحمولة.
لكن التعرفة الشاملة بنسبة 10 في المئة التي يقترحها ترامب يمكن أن تؤثر على سعر كل شيء يصنع في الصين ويصدر إلى الولايات المتحدة. وهذا ينطبق على الكثير من الأشياء – من الألعاب وأكواب الشاي إلى أجهزة الكمبيوتر المحمولة.
يقول هوانغ إن هذا من شأنه أن يشجع المزيد من المصانع على الانتقال إلى أماكن أخرى. ونشأت العديد من الورش الجديدة حوله والشركات الصينية من مناطق إنتاج المنسوجات مثل شاندونغ وتشجيانغ وجيانغسو وقوانغدونغ تنتقل إلى هناك لصنع السترات الشتوية والملابس الصوفية.
ووفقتً لتقرير صادر عن مجموعة التحليل والأبحاث “ريسيرش آند ماركتس”، فإن نحو 90 في المئة من مصانع الملابس في كمبوديا تديرها أو تمتلكها الصين.
يتدفق نصف الاستثمار الأجنبي في البلاد من الصين. وبُني سبعون في المئة من الطرق والجسور باستخدام القروض التي قدمتها بكين، وفقاً لوسائل إعلام رسمية صينية.
العديد من اللافتات على المطاعم والمحلات التجارية مكتوبة باللغة الصينية وكذلك باللغة الكمبودية المحلية. حتى أن هناك طريقاً دائرياً يسمى شارع شي جين بينغ تكريماً للرئيس الصيني.
وليست كمبوديا المتلقي الوحيد. إذ استثمرت الصين بكثافة في أجزاء مختلفة من العالم في إطار مبادرة الحزام والطريق للرئيس شي – وهو مشروع تجاري وبنية أساسية يزيد أيضاً من نفوذ بكين. هذا يعني أن الصين لديها خيارات.
وتزعم وسائل إعلام رسمية صينية أن أكثر من نصف واردات وصادرات الصين تأتي الآن من دول الحزام والطريق، ومعظمها في جنوب شرق آسيا.
لم يحدث هذا بين عشية وضحاها، كما يقول كيني ياو من أليكس بارتنرز، الذي يقدم المشورة للشركات الصينية حول كيفية التعامل مع التعريفات الجمركية.
خلال فترة ولاية ترامب الأولى، شككت العديد من الشركات الصينية في تهديده بفرض التعريفات الجمركية، كما قال لـ بي بي سي. والآن يتساءلون عما إذا كان سيتبع سلسلة التوريد ويفرض التعريفات الجمركية على دول أخرى.
ولكن في حال قرر ذلك، يقول السيد ياو، فمن الحكمة أن تبحث الشركات الصينية في أماكن أبعد “على سبيل المثال، أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. هذا أكثر صعوبة، ولكن من الجيد أن ننظر إلى مناطق لم نستكشفها من قبل”.
وفي حين تتعهد أمريكا برعاية نفسها أولاً، تبذل بكين قصارى جهدها لتبدو شريكاً تجارياً مستقراً، وهناك بعض الأدلة على نجاحها.
وفقاً لمسح أجرته مؤسسة إسياس يوسف إسحاق البحثية في سنغافورة، تجاوزت الصين الولايات المتحدة، لتصبح الخيار السائد للدول في جنوب شرق آسيا.
ورغم انتقال الإنتاج إلى الخارج، لا تزال الأموال تتدفق إلى الصين ــ 60 في المئة من المواد التي تُصنع منها الملابس في مصانع هوانغ، في بنوم بنه، تأتي من الصين.
وتزدهر الصادرات، حيث تستثمر بكين بشكل أكبر في التصنيع الراقي، من الألواح الشمسية إلى الذكاء الاصطناعي. وكان الفائض التجاري مع العالم في العام الماضي ــ على خلفية ارتفاع الصادرات بنحو 6 في المئة على أساس سنوي ــ رقماً قياسياً بلغ 992 مليار دولار.
ومع ذلك، تستعد الشركات الصينية – في جيانغسو وبنوم بنه – لفترة غير مؤكدة، إن لم تكن مضطربة.
يأمل السيد بينغ أن تتمكن الولايات المتحدة والصين من إجراء مناقشة “ودية وهادئة” للحفاظ على التعريفات الجمركية “ضمن نطاق معقول” وتجنب حرب تجارية.
وختم حديثه معي بالقول “لا يزال الأمريكيون بحاجة إلى شراء هذه المنتجات”، قبل أن ينطلق للقاء عملاء جدد.