حرية ـ (2/2/22025)
حسن فحص
عندما أطلق الرئيس المصري السابق حسني مبارك مقولته الشهيرة “المتغطي بالأميركي عريان”، لم تكن مجرد تعليق على ما شهدته مصر من أحداث الانتفاضات العربية حينها، بل كانت تعبيراً عن حجم خيبة الأمل التي أصابته من التخلي الأميركي السريع عن نظام كان يقوده ويعتبر من الحلفاء المميزين في الشرق الأوسط، وحمل في الوقت نفسه تحذيراً لكل القادة والمسؤولين العرب والعالم الثالث بأن يأخذوا حذرهم من البراغماتية الأميركية المبنية فقط على مصالحها والتي تخدم إستراتيجيتها.
ما شهدته سوريا من تطورات متسارعة وانهيار أسرع للنظام وفرار رئيسه إلى روسيا، دفعت كثيراً من الدول والأنظمة والسياسيين في المنطقة والعالم إلى وقفة تأمل في التحالفات التي عقدوها مع الدولة الروسية، وبخاصة داخل مواقع القرار في إيران، بحيث بات بإمكانها الترداد وراء مبارك بمقولة خاصة بها وبإيقاع سياسي مختلف بأن “المتحالف مع الروسي خسران”، بخاصة أن النظام السوري يعتبر تاريخياً حليفاً إستراتيجياً وحيداً للنظام الروسي خلال فترتيه الشيوعية والبوتينية.
ولا شك في أن القيادة الإيرانية تفاجأت بالتخلي الروسي السريع عن نظام بشار الأسد، على رغم معرفتها بوجود توجه روسي باكر من الأزمة لا يمانع من إحداث تغيير في هرم القيادة السورية والانتقال إلى نظام جديد قائم على الشراكة مع مكونات المعارضة، حتى وإن أدى إلى التخلي عن الأسد نفسه، لكن هذه القيادة لا تستبعد وجود صفقة ما دارت في الخفاء بين الأطراف المستفيدة من التغيير في سوريا بمشاركة ومباركة روسية، وتحديداً بين روسيا وتركيا، لكن بعيداً من أعين طهران التي أصيب بالصدمة جراء التداعي السريع للسلطة السورية، وعدم رغبة رأس النظام في القيام بأي تحرك يمنع سيناريو الانهيار.
ارتفاع مستوى الارتياب الإيراني من المواقف الروسية وما تنسجه موسكو من صفقات على حساب مصالح طهران الإقليمية لم يطف على السطح نتيجة الأحداث السورية، بل يستند إلى تاريخ طويل من صراعات المصالح بين البلدين منذ أيام القيصرية والسلطات المتوالية في إيران، وآخرها يعود لمرحلة الحرب العالمية الثانية عندما احتلت روسيا نصف الأراضي الإيرانية بالتقاسم مع بريطانيا، ثم الدور الذي لعبته في دعم الإعلان عن قيام جمهورية مهاباد الكردية، وقد لمست طهران وجود نيات روسية حيال الالتفاف على دورها ونفوذها على الساحة السورية قبل عام تقريباً عندما اُستبعدت من الاجتماع الأمني والعسكري الثلاثي الذي استضافته روسيا وبمشاركة تركيا والنظام السوري حينها، وأن الاستدراك الإيراني لإخراجها من المعادلة وما يدور من تفاهمات، ومن ثم إنهاء “مسار أستانا” حينها، لم يوافر لطهران معرفة ما يدور في كواليس الثنائي الروسي – التركي من صفقات وتفاهمات تتعلق بالساحة السورية ومستقبلها.
انهيار النظام السوري يعني بالنسبة إلى طهران ضربة قاصمة وقاسية لمشروعها الإقليمي، وإنهاء لكل الاستثمارات التي وظفتها على مدى عقود في بناء محورها الذي من المفترض أن يوافر لها مقعداً إلى طاولة أية تفاهمات حول المنقطة مع القوى الكبرى، وهذا الانكشاف الإقليمي لإيران وحال الريبة من الدور الروسي الذي لم يفِ بكثير من وعود التعاون العسكري والدفاعي، إضافة إلى الدور السلبي في تأجيج التوتر بين طهران والعواصم الأوروبية على خلفية الكشف عن المساعدات العسكرية التي قدمتها طهران لموسكو في حربها ضد أوكرانيا، قد يضع معاهدة التعاون الإستراتيجي بين البلدين في دائرة الغموض، إذ من المتوقع أن يكون لطهران شروط جديدة على هذه المعاهدة بحيث تضمن إمكان تنفيذها وإجرائها، وألا تتحول إلى مجرد معبر ومحطة روسية تساعدها في الالتفاف على ما تواجهه من عقوبات دولية، إضافة إلى استخدام طهران كورقة على طاولة التفاوض.
الإشارات الإيرانية الواضحة وما تحمله من تشكيك في الموقف الروسي قد تكون الدافع لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف إلى تكرار تأكيداته أكثر من مرة خلال الشهور الماضية بانتهاء اللمسات الأخيرة على هذه المعاهدة الإستراتيجية، وهي بانتظار الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى موسكو للتوقيع النهائي عليها، وإذا ما كان الارتياب الإيراني حيال جدية الموقف الروسي في تحالفه، فهذا لا يعني القطيعة بين الطرفين أو تخلي طهران عن تعاونها أو التوقيع على هذا الاتفاق، لكنه قد يعني أن طهران في صدد البحث عن شركاء وحلفاء أكثر جدية وأوضح مواقف خلال المرحلة المقبلة، ومن هنا تبزر أهمية الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي إلى الصين والحديث عن عمق العلاقات الإستراتيجية بين البلدين والتنسيق في المواقف لمواجهة تداعيات ما تشهده منطقة الشرق الأوسط بخاصة والساحة الدولية عامة.
انتقال طهران للتركيز على تعزيز تحالفها الإستراتيجي مع الصين جاء محكوماً بخلفيتين أساسيتين، وهما وقوع البلدين في دائرة التركيز الأميركية خلال المرحلة المقبلة ومع دخول الرئيس الجديد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، إذ من المفترض أن تشكل طهران ونظامها نقطة اهتمام أساس لترمب وفريقه في عملية ترتيب أوضاع الشرق الأوسط، مما يجعلهما قطبا المواجهة مع واشنطن على المستويين الإقليمي لإيران والدولي لبكين، في حين ستعود الصين لبؤرة الاهتمام في إطار إستراتيجية ترمب لمحاصرة تنامي دورها الاقتصادي والعالمي، مما يعني أن روسيا لم تعد الجهة التي يعتمد عليها في مواجهة المطالب الأميركية، بخاصة أنها قد تذهب إلى صفقة مع واشنطن تساعدها في الخروج من المستنقع الأوكراني.
وفي موازاة التحرك الإيراني باتجاه الصين فإن حراكاً دبلوماسياً بدأته طهران باتجاهات عدة، يشكل فيه هاجس تبادل أو إيصال الرسائل بينها وبين واشنطن المحور الرئيس فيها، ولعل زيارة مساعد وزير الخارجية الياباني إلى طهران ومن ثم زيارة وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي بعده، والتواصل الإيراني مع المحيط العربي في دول الخليج سواء مع السعودية والإمارات، إضافة إلى نياتها الجدية في خفض التوتر مع العواصم الأوروبية خلال اللقاء الثاني المرتقب بين الطرفين، كلها تصب في سياق التوجه الجديد داخل الإدارة الإيرانية التي تلمس جدية الأخطار التي المحدقة بها، وذلك من أجل فتح قنوات تواصل مع إدارة ترمب واستعدادها للذهاب إلى نمط جديد من التفاهمات حول الملف النووي أولاً والملفات الأخرى ثانياً، لتكون قادرة على تعطيل مفاعيل الطموحات الإسرائيلية وتنامي الدور التركي المستجد في الإقليم، وكلاهما جاءا على حساب دورها وموقعها بعد انحسار نفوذها الإقليمي.