حرية ـ (6/2/22025)
أمين الزاوي
“كل شيء مشاع على هذه الأرض، كل شيء يشترى أو يصادر”، هذه هي النظرية التي تقوم عليها ديكتاتورية أميركا الجديدة، أميركا الربع الثاني من الألفية الثالثة، أميركا إيلون ماسك.
إننا نشهد تأسيس ديكتاتورية جديدة عابرة للقارات وعابرة أيضاً للكواكب، ولعلّ نبي هذه الديكتاتورية ليس دونالد ترمب إنما إيلون ماسك الذي يملك المال ورموز المال ويملك إضافة إلى ذلك مزاجاً غريباً.
وإذا كانت الديكتاتورية كما عرفناها في دروس علم السياسة والاقتصاد هي هيمنة الشخص على السلطة وعلى مصير شعب أو بلد من البلدان، فإن ماسك جاء ليغيّر من هذه النظرية ويقول إن الديكتاتورية الحداثية التي يبشّر بها هي ديكتاتورية بلا حدود، هي ديكتاتورية يعاش قمعها في أي مكان ويشعر الناس بحضورها في حياتهم على اختلاف طبقاتهم السياسية، وعلى اختلاف جغرافيتهم وأوطانهم ولغاتهم وثقافاتهم ودياناتهم.
الديكتاتورية الحداثية التي يقودها ماسك هي سلطة المال على جميع السلطات، فلا الدين له سلطة، ولا الوطنية ولا الجغرافيا، المال كاسحة الجميع، ولا أحد قادر على المواجهة أو الاحتجاج.
الديكتاتورية الحداثية يقودها من يمسك بالإعلام والاتصال وهو القادر على خلق الجنة والجحيم، وليس الإله هو من يختار للناس الذهاب إلى الجنة أو إلى الجحيم بل ماسك وحده من يرسل هذا إلى هذه وذاك إلى ذلك.
وتمنح الديكتاتورية الحداثية لنفسها، ومن خلال سلطة المال والإعلام الرقمي المدجج بالذكاء الاصطناعي المفتوح على كل الاحتمالات المجنونة، صناعة مستقبل الأمم كما يريده لها “مزاج” ماسك، فهو من يحدد الأحزاب التي يحتاج إليها العالم غداً وهو من يمنح علامات التفوق أو الإخفاق للأحزاب عبر العالم وهو من يحدد الحدود الجغرافية التي سيكون عليها العالم غداً وبعد غد.
ونبي الديكتاتورية الحداثية هو من يرسم أفق مستقبل البشرية على هواه، الآفاق الاقتصادية والعلمية والسياسية واللغوية والثقافية.
لا دين إلا دين ماسك، هكذا هو إيمان الديكتاتورية التكنولوجية!.
لا مقاومة حقيقية لنبوءة إيلون ماسك على رغم ما تحويه من علامات الفوضى والعنف والظلم والفناء والإفناء، والغرب الذي ظل يبشّر بفلسفات التنوير والتفكيك والتوليد والوجود والعدم، ساكت مستسلم لقدره الذي يرسمه له ماسك بمزاجه وهرطقاته وطموحه النزق الفائض.
ألمانيا بلد الفلسفة وبلد الموسيقى والأدب والعلوم تسكت أمام تغريدات ماسك الساخرة منها ومن نخبها السياسية، ففي عيون نبي الديكتاتورية الحداثية ماسك أضحت أوروبا العجوز مجرد “قرية” صغيرة معرضة للفناء الطبيعي والعسكري والاقتصادي، وإنها ليست أكثر من محمية أميركية، إذا ما رفعت عنها أميركا يدها بمباركة سلطة ماسك الإعلامية والمالية، فإنها ستتقلص وتذوب ككرة ثلج.
وانتهى زمن الديكتاتور العربي أو العالم – ثالثي الذي كان يخرج بجيش جرار فيأتي على قبيلة أو حيّ أو قرية أو حتى مدينة، فهذه ممارسات أصبحت من الماضي، ممارسات تنتمي إلى تاريخ ولّى حتى إن كانت لا تزال قائمة في بعض بلدان الجنوب، في أفريقيا والشرق الأوسط والأقصى، وأساليب القمع الديكتاتوري تغيرت.
فديكتاتورية زعيم كوريا الشمالية العسكرية، أو “طالبان” الثيوقراطية، أو صدام الكيماوية تبدو لعبة إقليمية أمام ديكتاتورية ماسك التي تخضع العالم من دون إراقة دماء، لكنها إراقة دم الفضيلة والشرف والاستقلال وإراقة دم الحرية الإنسانية وخضوع الجميع من دون مقاومة وتبضيع في الشعوب والطبقات السياسية التي تنتمي إلى القرن الـ21 من دون حروب كلاسيكية.
وماسك نبي الديكتاتورية الحداثية لا تتوقف طموحاته وامتلاكه العالم على الكرة الأرضية وحدها، بل إنه يفكر في أبعد من الأرض، أن يضع يده على كواكب أخرى، كالمريخ وغيره، وها هو يحدّق في السماء ويحلم بتوسيع ملكه وعصاه إلى أبعد نقطة في الخيال، يؤسس من دون رادع أو ردع لمؤسسة استكشاف الفضاء، والاستكشاف هنا ليس لسعادة البشرية كما كانت تحلم بها العلوم الفضائية في زمن مضى، بل لامتلاك الفضاء ولضرب حصار على الإنسان على هذه الأرض التي تموت من الاحتباس الحراري والتلوث.
ويؤسس ماسك قاعدة خاصة باكتشاف الفضاء، يرسل منها مركبات إلى المريخ من دون رقيب، وصنع من نفسه إلهاً صغيراً للكون يتصرف فيه كما يحلو له وحيث تستطيع أمواله أن ترسل بأحلامها وطموحاتها.
كانت صورة الديكتاتور العربي أو في أميركا اللاتينية أو في أفريقيا تحيل على مواصفات شخص عسكري يتفرّد بالسلطة فيضع خصومه المحليين وشعبه تحت سيفه ورصاصه وأحكامه، وكانت في مواجهة هذا الديكتاتور العسكري مقاومات تباد مرات، وتنجح مرات أخرى ربما في زحزحته أو الإطاحة به، ربما يجيء ديكتاتور آخر في جلد كائن آخر من دون أن يتغير الأمر كثيراً، ومع مرور الزمن وتقدم العلم المجوف الفارغ من الأخلاق والقيم الإنسانية، تحول الديكتاتور إلى مؤسسة، فالمؤسسات أصبحت تملك مصفوفات من القيم القامعة التي تنوب عن سلطة الديكتاتور الفرد.
أما الآن، فأصبح الديكتاتور بلا حدود وبلا شعب وبلا سماء، والديكتاتور كما يتجسد في شخص ماسك هو الديكتاتور الكوني، إذ إن قوته لا تحدها الجغرافيا ولا اللغة ولا الدين، والمال وقوة الاتصال والذكاء الاصطناعي ما يحددها، لقد أصبح أكبر من الفرد ومن المؤسسة، أضحى ظاهرة كونية لا تحد.
والعالم أصبح من دون أخلاق، والفلسفة فقدت سلطتها أمام المال، والأديان انهزمت أمام المال أيضاً، والجنة التي وعد بها المؤمنون احترقت أمام جنات ماسك وإعلامه الذي يصنع أخلاقاً جديدة ويصنع إنساناً مجوفاً قابلاً للاستعمار الجديد وقابلاً للقيادة التي يبدع فنونها الذكاء الاصطناعي المنفلت والتكنولوجيا المتوحشة.
إننا نشهد موت الديمقراطية التي كثيراً ما ناضل لأجلها الإنسان في الجهات الأربع من المعمورة بما فيها الولايات المتحدة، ونشهد احتضارها في وقت تتكرس التكنولوجيا ويتعمم الذكاء الاصطناعي الذي يستعبد الإنسان شيئاً فشيئاً، إننا أمام عودة العبودية الأولى كما عرفها فجر التاريخ وربما أكثر شراسة.