حرية ـ (9/2/22024)
يبدو وكأن فخ ثيوسيديدس المنصوب في منتصف المسافة ما بين واشنطن وبكين، يمثل قدراً مقدوراً في زمن منظور، لا سيما بعد وصول الرئيس دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة الأميركية للمرة الثانية.
هل الأمر موصول بالتعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي على الصين قبل أيام معدودات، وردود الفعل المنتظرة من بكين؟
بالتأكيد يبقى الصراع الاقتصادي في مقدم القضايا محل الخلاف بين الجانبين، غير أن واقع الحال يقطع بأن الصراع العسكري قائم وربما قادم لا محالة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن سيد البيت الأبيض، يؤجل حسم العديد من الصراعات المهمة شرق أوسطياً، كالمواجهة مع النظام الإيراني، والقضاء المبرم على الاتفاق النووي لطهران، جراء انشغاله بما هو أهم وأكثر آنية، مثل الصراع مع الصين في منطقة المحيطين الهادئ والهندي من جهة، والملفات التي تمثل فتيلاً مشتعلاً سرعان ما يمكن أن ينفجر مثل الخلاف من حول جزيرة تايوان، وبحر الصين الجنوبي.
ولعل الرئيس ترمب، الذي تدعمه وتزخمه أصوات أميركية عدة، في أزمة قناة بنما، يراكم خلافاً شديداً مع الصين، التي تبدو في حالة انفلاش مؤكدة في القارة اللاتينية الجنوبية، الخلفية الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية تاريخياً.
وأجج ذلك نيران الخلافات بين واشنطن وبكين أخيراً، وبات يدعو الجانب الأميركي بنوع خاص إلى تحسس رأسه، بل ومستقبله القطبي، في عالم استمرت فيه لنحو ثلاثة عقود ونصف العقد، سياسة القطب المنفرد بمقدرات العالم من غير خليق أو شريك؟ هذا ما نحاول تفكيكه في هذه الرؤية.
عن صور منشأة “اندماج نووي”
في الأيام الأخيرة من يناير (كانون الثاني) المنصرم، أظهرت صور للأقمار الاصطناعية الأميركية، أن الصين في طريقها لبناء منشأة أبحاث تختص بالاندماج النووي، تفوق في قدراتها نظيرتها الأميركية، وذلك في مدينة “ميانيانغ” بجنوب غربي البلاد، في تطور قد يساعد في تصميم الأسلحة النووية، والعمل على استكشاف توليد الطاقة.
في هذا الصدد ذكر “ديكو إيفليت”، الباحث في منظمة “سي أن أي” (CNA) المستقلة للأبحاث، ومقرها الولايات المتحدة أن صور الأقمار الاصطناعية تظهر أربع “أذرع” خارجية ستضم عنابر الليزر، وعنبر تجارب مركزي به غرفة ستحتوي على نظائر الهيدروجين التي ستدمجها أشعة الليزر القوية لإنتاج الطاقة.
هل قامت الصين بسرقة تصميمات أميركية مشابهة في الداخل الأميركي؟
تقول بعض المصادر الأميركية، إن المركز يعد مشابهاً لمنشأة الإشعال الوطنية الأميركية في شمال كاليفورنيا، والتي وصلت تكلفة بنائها إلى 3.5 مليار دولار، وولّدت في عام 2022 طاقة من تفاعل الإندماج أكثر من الليزر الذي يتم ضخه في هدف “التعادل العلمي”.
المثير في الأنباء الواردة من الداخل الأميركي، هو أن محللين في مركز “جيمس مارتن” لدراسات منع انتشار الأسلحة النووية، في واشنطن، يقطعون بأن عنبر التجارب في المركز الصيني، أكبر بنحو 50 في المئة من ذلك الموجود في منشأة الإشعال الوطنية الأميركية، وهي الأكبر في العالم حالياً.
هل الأمر جد مخيف بالنسبة إلى واشنطن؟ ولماذا ظهرت هذه الصور على هذا النحو في بداية رئاسة دونالد ترمب؟
المؤكد أن إحجام مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركي عن التعليق، يفيد بأن الحدث جلل بالفعل، وهذا ما دعا محلل السياسة النووية في مركز “هنري أل ستيمسون”، وليام ألبرك، إلى القول “إن أي دولة لديها منشأة مثل تلك الأميركية، يمكن أن تزداد ثقتها، وتحسن تصميمات الأسلحة النووية الخاصة بها في الوقت الحاضر، كما يسهل عليها تصميم القنابل في المستقبل من دون اختبار الأسلحة نفسها، وربما ستفعل ذلك”.
يعن للقارئ هنا أولاً أن يتساءل عن ماهية الاندماج النووي، كيف يجري علمياً؟ وما هي أهميته كقيمة مضافة؟ وهل تعزى مكانته العلمية إلى قدرته في دعم الصين بالأسلحة النووية فحسب، أم أن الأمر له فائدة عظمى أخرى، على صعيد توليد الطاقة بشكل عام؟ وهي القصة التي لا تقل أهمية عن تعزيز الترسانة النووية الصينية.

مهندسون يعملون على تجميع وحدة في مشروع الاندماج النووي الدولي “إيتير” في سان بول ليه دورانس، جنوب فرنسا، في 5 يناير 2023
عن ماهية عملية الاندماج النووي؟
من دون الانخراط في التفاصيل العلمية، لا سيما الفيزيائية المعقدة، فإن عملية الاندماج النووي هي تلك التي يتم من خلالها دمج ذرتين خفيفتين لتشكيل ذرة واحدة أثقل مع إطلاق كميات هائلة من الطاقة.
وتحدث تفاعلات الاندماج في حالة من المادة تسمى البلازما، وهي عبارة عن غاز ساخن مشحون يتكون من أيونات موجبة وإلكترونات تتحرك بحرية ولها خصائص فريدة تختلف عن المواد الصلبة أو السوائل أو الغازات.
والثابت أن عملية الإندماج النووي ليست جديدة أو حديثة فقد عرفها العلماء منذ أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، بعد أن استلهموا الدرس من التفاعلات التي تحدث داخل الشمس التي تعتمد مثلها مثل كل النجوم الأخرى على هذا التفاعل.
ويمكن أن تولّد عملية الإندماج النووي طاقة أكبر بأربع مرات لكل كيلوغرام من الوقود مقارنةً بالانشطار المستخدم في محطات الطاقة النووية، وطاقة أكبر بنحو أربعة ملايين مرة من حرق النفط أو الفحم.
ومن المهم أن نعرف أن الاندماج النووي، تماماً مثل الانشطار، لا ينبعث منه ثاني أكسيد الكربون، أو غيره من الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، وبالتالي فإنه قد يكون مصدراً طويل الأجل للكهرباء منخفضة الكربون بدءاً من النصف الثاني من هذا القرن فصاعداً.
على أنه وإن كان توفير الطاقة من الاندماج النووي أمر يعتبر على نطاق واسع بمثابة التحدي الهندسي الأعظم في القرن الحادي والعشرين، فإن التساؤل هو: “ما الذي يتعين على الدول القيام به لجعل طاقة الإندماج النووي مجدية تجارياً، ثم هل هذا هو ما تقوم به الصين تحديداً؟
المؤكد أن الصين ليست وحدها من تركز جهودها على عالم الاندماج النووي وتجاربه، حيث تجرى أبحاثه مع فيزياء البلازما في أكثر من 50 دولة، وأخيراً تمكن الباحثون من تحقيق مكاسب علمية في الطاقة في تجربة اندماج للمرة الأولى. وتوصل الخبراء إلى تصميمات مختلفة وآلات تعتمد على المغناطيس، يتم فيها الاندماج، مثل أجهزة الستياريتور، والتوكاماك، عطفاً على طرق تعتمد على الليزر.
على أن المدة التي ستستغرقها عملية نشر الطاقة النووية الاندماجية ستعتمد على الموارد من خلال الشراكات والتعاون العالميين، وعلى مدى سرعة قدرة الصناعة على تطوير وإثبات وتأهيل تكنولوجيات الاندماج النووي الناشئة. وهناك قضية أخرى مهمة تتمثل في تطوير البنية الأساسية اللازمة بالتوازي، مثل المتطلبات والمعايير الجيدة لتحقيق هذا المصدر المستقبلي للطاقة.
هل ستكون طاقة الاندماج النووي هي الفتح الجديد للإنسانية بحلول عام 2050، وإنقاذ كوكب الأرض من الأزمات الإيكولوجية القاتلة، أم أن أبحاث الأقطاب الدولية الكبرى، مثل الولايات المتحدة، والآن الصين وبلا شك روسيا والاتحاد الأوروبي، ستعمد إلى مثل هذا النوع من الطاقة في صناعاتها العسكرية، وبخاصة صناعة الأسلحة النووية والمتقدمة بنوع خاص؟
مفاعل الصين وتحطيم رقم قياسي
لعل الزخم الكبير الذي اكتسبته الصين الأيام الماضية، في شأن قصة الاندماج النووي، يعود إلى أن مفاعل “الشمس الاصطناعية” أو “توكاماك” قد حطم رقمه القياسي العالمي في الحفاظ على البلازما الساخنة للغاية، مما يمثل معلماً آخر في الطريق الطويل نحو الطاقة النظيفة اللامحدودة تقريباً.
حافظ مفاعل الاندماج النووي التجريبي المتقدم الفائق التوصيل على حلقة ثابتة ومحدودة للغاية من البلازما، وذلك لمدة 1066 ثانية يوم الإثنين 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، وهو أكثر من ضعف أفضل رقم سابق له وهو 403 ثوانٍ، بحسب ما ذكرت وسائل الإعلام الرسمية الصينية.
هل توصلت الصين بالفعل إلى “الكأس المقدسة” القادرة على توليد الطاقة النظيفة؟
يرى البعض أن الأمر ليس على هذا النوع بالمطلق، أي أنه ليس إعلاناً مباشراً للتوصل إلى هذا المستوى الأسطوري من الاختراعات، ولكنه خطوة نحو مستقبل محتمل حيث تولد محطات الطاقة الاندماجية الكهرباء.
يعتبر المفاعل الصيني الذي تملكه شركة “إيست” EAST مفاعل احتواء مغناطيسي، أو “توكاماك”، مصمم للحفاظ على احتراق البلازما بشكل مستمر لفترات طويلة. لم تحقق المفاعلات من هذا النوع الاشتعال قط، وهي النقطة التي تخلق عندها عملية الاندماج النووي طاقتها الخاصة وتحافظ على تفاعلها، لكن الرقم القياسي الجديد يمثل خطوة نحو الحفاظ على حلقات البلازما المحصورة المطولة التي ستحتاجها المفاعلات المستقبلية لتوليد الكهرباء.
وفي تصريحه لوسائل الإعلام الصينية، قال “سونغ يونتاو” مدير معهد فيزياء البلازما، المسؤول عن مشروع الاندماج في الأكاديمية الصينية للعلوم، “يجب أن يحقق جهاز الاندماج تشغيلاً مستقراً بكفاءة عالية لآلاف الثواني لتمكين الدورة المستدامة للبلازما، وهو أمر بالغ الأهمية لتوليد الطاقة المستمر لمحطات الاندماج المستقبلية”.
فهل تخطط الصين للصعود السريع في عالم الاندماج النووي؟
الثابت أن بكين تستثمر مليارات الدولارات في مشروعات الطاقة الاندماجية، بل وتسابق الرياح للحصول على طاقة الاندماج الكاملة بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، أي بعد نحو عقد من الزمن من الوقت الحاضر، على رغم التحديات الهائلة التي لا تزال في الطريق.
لقد بنت الصين مفاعلها الخاص في غضون ثلاث سنوات منذ إنشائها لشركة “إنرجي سينغولاريتي” (Energy Singularity) وهي شركة ناشئة في شنغهاي.
هذا المفاعل هو أسرع من أي مفاعل مماثل تم بناؤه على الإطلاق، وهو عبارة عن آلة أسطوانية تعمل على تسخين الهيدروجين إلى درجات حرارة عالية، مما يشكل بلازما تشبه الحساء يحدث فيها تفاعل الاندماج النووي.
وبالنسبة لشركة ناشئة تعمل على حل أحد أصعب الألغاز الفيزيائية في العالم، فإن شركة Energy Singularity متفائلة بشكل لا يصدق ولديها أسبابها لذلك. وقد باتت تتلقى مليارات الدولارات من الاستثمارات الخاصة، كما تعد أول شركة تحقق إنجازاً عالمياً هو الأول من نوعه، كما أن مفاعل التوكاماك الحالي الخاص بها هو الوحيد الذي استخدم مغناطيسيات متقدمة في تجربة البلازما.
وتخطط الشركة لبناء مفاعل توكاماك من الجيل الثاني، وذلك لإثبات أن أساليبها قابلة للتطبيق تجارياً بحلول عام 2027، وتتوقع جهازاً من الجيل الثالث يمكنه تغذية الشبكة بالطاقة قبل عام 2035، وفقاً للشركة.

قسم من JT-60SA، أكبر مفاعل اندماج نووي تجريبي في العالم في معهد الاندماج النووي في مدينة ناكا بمحافظة إيباراكي اليابانية
الصين وضمان طاقة المستقبل
هل ضمنت الصين مصدراً هائلاً وربما رخيصاً من الطاقة، يرفعها ويدفعها في مسارات ومدارات الهيمنة القطبية عبر عملية الاندماج النووي كطاقة مؤكدة للمستقبل؟
الثابت هو أن فكرة الاندماج النووي ليست وليدة اليوم، ذلك أن قصة التوكاماك ظهرت للمرة الأولى من قبل العالمين السوفياتيين، إيغور تام، وأندريه ساخاروف، في خمسينيات القرن الماضي، بينما نُسبت أول محطة توكاماك عاملة إلى العالم ناثان بافلينسكي قبلهما.
اليوم يتساءل البعض عبر الأبواب الخلفية: “هل هذا التفوق الصيني الجديد له علاقة ما بالتحالف الروسي الصيني، والذي تشتد أواصره بعد الحرب الأوكرانية بنوع خاص؟
وفي كل الأحوال فإنه في خضم أزمة الطاقة وبهدف واضح يتمثل في إزالة الكربون من الاقتصاد، يتم البحث عن طرق جديدة لتوليد الطاقة للمساهمة في نظام طاقة أكثر كفاءة واستدامة، وتعويض نقاط الضعف التي قد تعاني منها مصادر أخرى مثل الطاقة المتجددة.
على أن علامة الاستفهام التي تواجه الصين هي: “هل يمكن تخصيص استثمارات هائلة في هذا المجال، ليتحول الأمر من مجرد تجربة علمية رائدة، إلى واقع علمي اقتصادي مربح ومريح، يوفر على الصين الدخول في الصراعات الجغرافية والديموغرافية من أجل الحصول على النفط والغاز من مختلف البقاع والأصقاع؟
المثير في الجواب، هو أن روسيا بالتحديد ربما هي من يشعر بنوع من القلق من جراء التفوق الصيني في هذا السياق، لا سيما أن موارد الصين المالية، أكبر بكثير من نظيرتها الروسية، وإن تفوقت روسيا علمياً وتكنولوجياً حتى الساعة.
وتستورد الصين الكثير من النفط والغاز من روسيا، غير أن ذلك قد لا يدوم، فالعارفون ببواطن العلاقات الروسية– الصينية، يقطعون بأن الطبقات الحضارية بين الجانبين غير مرتاحة إلى بعضها البعض، الأمر الذي ينذر بفض هذا التحالف في أي وقت.
هنا تقول الدكتورة إيزابيل غارسيا كورتيس من مختبر الاندماج الوطني CIEMAT في كاليفورنيا إنه “مع أزمة الطاقة التي تمر بها البشرية، ومع النضوب المتوقع للوقود الأحفوري، والطبيعة المؤقتة للطاقة المتجددة، فإن كل مصادر الطاقة ستكون ضرورية، وإذا كان الاندماج النووي أحد هذه المصادر، فسيكون ذلك رائعاً، وهذا لا يعني أنه سيحل كل مشاكل الطاقة على كوكب الأرض، لكنه قد يلعب دوراً هاماً في توفير مزيد من الطاقة بين المتجددة وغيرها من المصادر الجديدة عند ظهورها.
وعلى رغم أن الاندماج النووي لا يعتبر متجدداً، فإنه لا يعاني من مشكلة النفايات المشعة عالية المستوى مثل محطات الطاقة الانشطارية اليوم.
كيف سيكون وضع الصين، حال توافرت لها مصادر الطاقة الاندماجية بوفرة وبكثرة. وكيف سيؤثر ذلك في صراعها المستقر والمستمر مع القوى الغربية والشرقية على حد سواء؟
تفوق الصين على أميركا وأوروبا
هل تعني التجربة الصينية الأخيرة أن الصين باتت تتفوق على أوروبا وأميركا واليابان في مجال الاندماج النووي؟
المؤكد أن بكين بدأت تسطع شمسها الاندماجية النووية، بفضل الدعم الحكومي القوي والاستثمارات الكبيرة والتركيز على التكنولوجيا المتطورة، فيما تحاول أوروبا اللحاق بها بتركيزها على التعاون الدولي. لقد بذلت الولايات المتحدة جهوداً مكثفة في مجال أبحاث الاندماج النووي خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة بقدراتها الهائلة على خفض الانبعاثات وإمكاناتها في ما يتصل بأمن الطاقة.
وعلى النقيض من ذلك، لم تبدأ الصين في جهود الاندماج النووي إلا متأخرة، ولكنها خطت خطوات واسعة في هذه التكنولوجيا الرائدة أخيراً، ما قد يدفعها إلى التفوق وبسرعة على الجهود الأوروبية والأميركية وحتى اليابانية.
في هذا الصدد تشعر الشركات الأميركية وخبراء الصناعة بالقلق من أن الولايات المتحدة تكاد تفقد تقدمها الذي دام عقوداً من الزمن في السابق، لإتقان هذا الشكل الذي لا حدود له تقريباً من الطاقة النظيفة، مع ظهور شركات الاندماج النووي الجديدة في جميع أنحاء الصين، وتفوق بكين على واشنطن في مجال الإنفاق.
وفي مقابل التفوق الصيني، تبدو مفاعلات الاندماج النووي الأميركية قديمة، كما يقول أندرو هولاند، الرئيس التنفيذي لجمعية صناعة الاندماج النووي، ومقرها العاصمة واشنطن، ونتيجة لهذا تعتمد الولايات المتحدة على أجهزة حلفائها في اليابان، وأوروبا، والمملكة المتحدة لمواصلة أبحاثها.
على أن علامة الاستفهام التي تزعج الأميركيين هي: “هل استطاع الصينيون الوصول إلى أسرار المفاعلات الأميركية الاندماجية، على النحو المثير الذي تمضي من حوله الأحداث في الوقت الراهن؟
يرى هولاند أن مفاعل “بيست” BEST الذي تموله الدولة الصينية، والذي من المتوقع أن يكتمل بناؤه في عام 2027، هو نسخة من مفاعل صممته شركة “كومنولث فيوجن سيستم”Commonwealth Fusion System وهي شركة أميركية تقع في ماساشوستس وتعمل بالتنسيق مع معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (أم أي تي)، فهل الأمر فيه نوع من التشابه والنسخ فقط، أم أن الأمر يمتد لما هو أبعد من ذلك، أي سرقة الصين أسرار التكنولوجيا النووية الاندماجية الأميركية؟
الإندماج النووي وأزمة المناخ العالمي
يطرح الاندماج النووي على طاولة النقاش تساؤلاً مهماً للغاية: هل هذا النوع من الطاقة، كفيل بأن ينهي أزمة المناخ العالمي مرة واحدة؟
أفضل من قدم جواب على علامة الاستفهام المتقدة، البروفيسور “فيليب بول”، الكاتب والمؤلف المتخصص في العلوم الفيزيائية، صاحب كتاب “كيف تعمل الحياة”.
يرى بول أنه من غير المرجح أن تتمكن البشرية من توليد الطاقة على نطاق واسع من الاندماج النووي قبل عام 2050 تقريباً، ونظراً لأن ارتفاع درجات الحرارة العالمية خلال القرن الحالي قد يتحدد إلى حد كبير بما نفعله، أو نفشل في فعله، في شأن انبعاثات الكربون قبل ذلك الوقت، فإن الاندماج النووي لا يمكن أن يكون المنقذ.
أما عمر هوربكان، وهو قائد برنامج في “مختبر لورانس ليفرمور الوطني”، حيث يوجد مرفق الاندماج النووي الأميركي الأهم، فيقول أعتقد أن الاندماج النووي يبدو الآن أكثر معقولية مما كان عليه قبل عشر سنوات كمصدر للطاقة في المستقبل، ولكنه لم يكن قابلاً للتطبيق في غضون السنوات العشر إلى العشرين المقبلة، لذا فنحن في حاجة إلى حلول أخرى”.
في هذا السياق يبدو من الواضح أن إزالة الكربون بحلول منتصف القرن سيعتمد على تقنيات أخرى: مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والانشطار النووي، وربما تقنيات احتجاز الكربون. ولكن عندما ننظر إلى المستقبل، نجد أن هناك أسباباً وجيهة للاعتقاد بأن الاندماج النووي سيشكل جزءاً رئيساً من اقتصاد الطاقة في النصف الثاني من القرن الحالي، وذلك عندما تبدأ مزيد من البلدان النامية في طلب ميزانيات طاقة بحجم الميزانيات الغربية، وحل مشكلة تغير المناخ ليس بالأمر السهل، وإذا تمكنا من تجاوز عنق الزجاجة في العقود المقبلة من دون تحويل المناخ بشكل جذري للغاية، فقد يكون الطريق إلى ما هو أبعد من ذلك أكثر سلاسة.
على أنه وبعيداً من قضايا الطاقة البديلة، هل هناك في قصة الاندماج النووي الصيني، ما يزعج الولايات المتحدة بصورة خاصة، وبنحو غير مسبوق؟
الصين النووية وسيناريوهات مخيفة مستقبلياً
الحديث هنا في حاجة إلى قراءة مستقلة قائمة بذاتها، لكن من دون اختصار مخل تتلخص المخاوف الأميركية في أن تتحول الصين إلى قوة نووية عسكرية، قادرة على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، وبصورة غير مسبوقة في عالم الغد.
يقدم لنا أندرو هاردينغ، الباحث المساعد في مركز الدراسات الآسيوية في مؤسسة “هيرتيج” الأميركية الشهيرة، ومادلين هيستون، العضو في برنامج القادة الشباب، وروبرت بيترز، الزميل الباحث في مجال الردع النووي والدفاع الصاروخي، في مركز دوغلاس للأمن القومي، سيناريوهات عدة جميعها تقض مضاجع الأميركيين من جراء الصعود العسكري النووي الصيني، والذي سيجد حكماً دفعة قوية من جراء طاقة الاندماج النووي.
ماذا عن تلك السيناريوهات؟
– السيناريو الأول: تحقق الصين التكافؤ النووي مع الولايات المتحدة وتقبل به. وفي هذا السيناريو تقوم الصين بتحديث وتنمية ترسانتها النووية لتشمل ما يقرب من 1500 سلاح نووي استراتيجي، بما في ذلك 200 سلاح نووي غير استراتيجي، وهو ما يضاهي أوضاع الولايات المتحدة. والدوافع الأساسية للصين في السعي إلى التكافؤ النووي وقبوله هو الهيمنة على شرق آسيا لإعادة تأكيد دورها التاريخي كقوة مهيمنة إقليمية وحرمان الولايات المتحدة من ممارسة القوة في المنطقة.
في هذا السيناريو، ستنشر الصين ترسانة نووية جاهزة للعمليات، وتتكون من مجموعة متنوعة من الصواريخ والقاذفات والغواصات. وفي حين أن المزيد الدقيق للقوة غير معروف، فمن المرجح أن توسع الصين ترسانتها بطريقة تشبه وضعها الحالي ومزيج قوتها، مع التركيز بشكل أكبر على فكرة الرادع البحري عبر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات المحملة على غواصات صواريخ.
– السيناريو الثاني: الصين تحقق التفوق النووي على الولايات المتحدة. وفي ظل هذا السيناريو، تكون الصين قد أنتجت 1550 سلاحاً استراتيجياً و2000 سلاح نووي تكتيكي، وهو ما يعادل تقريباً ما لدى روسيا من حيث العدد. والدوافع الأساسية التي تدفع الصين إلى تحقيق الميزة النووية تتلخص في مواكبة الولايات المتحدة كقوة نووية عالمية، وتعزيز قوتها على نحو عالمي حاسم أعظم.
في هذا السيناريو ستنشر الصين تقريباً ما يقرب من 700 رأس حربي على صواريخ باليستية عابرة للقارات، و200 رأس حربي على صواريخ باليستية عابرة للقارات متحركة على الطرق، و600 رأس حربي على غواصات صواريخ باليستية، و300 رأس حربي يمكن إطلاقها من قاذفات استراتيجية مع 2000 رأس حربي غير نووي آخر على صواريخ هجومية برية ومضادة للسفن، إضافة إلى صواريخ كروز تفوق سرعتها سرعة الصوت وقنابل الجاذبية.
ومعنى هذا هو أن طموحات الصين، تمتد من بناء القوة إلى ممارسة الهيمنة والنفوذ إلى ما هو أبعد من آسيا، أي الوصول إلى مرحلة “القوة الوطنية المركبة التي تعبد الطريق نحو النفوذ الدولي”، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى عصر الصين التي تقترب من مركز الصدارة والفاعلة بقوة في مدارات البشرية المعاصرة.
– السيناريو الثالث: الصين تحقق التفوق النووي على الولايات المتحدة وروسيا.
وفي هذا السيناريو تكون الصين قد أنتجت وحصلت على 2000 رأس نووي استراتيجي و2500 سلاح نووي تكتيكي بحلول عام 2035، وحينها سيفوق مخزونها مخزون روسيا، وسيكون الدافع الرئيس وراء سعي الصين إلى تحقيق التفوق النووي هو الهيمنة العسكرية الصينية غير المتنازع عليها.
وفي هذا السيناريو ستنشر الصين نحو 400 رأس حربي على صواريخ باليستية عابرة للقارات و400 رأس حربي على صواريخ باليستية عابرة للقارات متحركة على الطرق و900 رأس حربي على غواصات صواريخ باليستية، و300 رأس حربي يمكن إطلاقها من قاذفات استراتيجية، مع 2500 سلاح نووي غير استراتيجي آخر على صواريخ هجومية برية وصواريخ مضادة للسفن، فضلاً عن صواريخ كروز تفوق سرعتها سرعة الصوت، وقنابل الجاذبية، وأنظمة القصف المداري الجزئي.
هنا يؤكد كتاب وباحثي “هيرتاج فاونديشن” أنه على رغم التعاون الصيني- الروسي الذي ازداد بشكل ملحوظ في أعقاب الحرب الروسية غير القانونية على أوكرانيا، فإن هذا التعاون يستند إلى حد كبير إلى المصالح المشتركة التي لم تصمد بعد أمام اختبار الزمن. فلروسيا والصين تاريخ طويل من انعدام الثقة والمصالح المتضاربة، وكان الانقسام الصيني- السوفياتي في ستينيات القرن العشرين مثالاً معروفاً على ذلك، وحتى اليوم هناك خلافات يمكن أن تتطور إلى نزاعات أوسع نطاقاً.
يبدو من المؤكد أن حديث التفوق الصيني في عالم الاندماج النووي، أمر يضيف مدماكاً جديداً في الجدار القوي الذي تبنيه الصين، لا لتعزل نفسها عبره عن العالم الخارجي، بل لتعزز من قوتها وحضورها ونفوذها في مواجهة الولايات المتحدة غرباً، وروسيا الاتحادية شرقاً، ما يفيد بأنها تسعى جاهدة بالفعل في طريق السعي لحيازة وامتلاك “كأس الطاقة المقدسة” عما قريب.