حرية ـ (20/2/22025)
جمال عبد القادر البدوي
ظل مصير مشروع القاعدة العسكرية البحرية الروسية بقاعدة “فلامنجو” السودانية على ساحل البحر الأحمر شرق البلاد معلقاً على مدار ثماني سنوات مضت، نتيجة للتقلبات السياسية والعسكرية والأمنية من دون خطوة عملية تدفع بتنفيذه إلى الأمام. فهل يفتح تأكيد الحكومة الأخير إتمام الاتفاق النهائي لقيام القاعدة الأبواب لخطوات عملية نحو مرحلة التنفيذ، إيذاناً بقرب ميلاد أول قاعدة روسية بحرية في أفريقيا تمهد لتعاون عسكري أمني أوسع بين الخرطوم وموسكو، وتتجاوز محطة المناورة الدبلوماسية والسياسية والضغوط الإقليمية والدولية؟
الاتفاق النهائي
أكد وزير الخارجية السواني علي يوسف الشريف، عقب مفاوضات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو منتصف فبراير (شباط) الجاري، على اتفاق الجانبين التام على تنفيذ المشروع من دون أية عقبات تعرقل قيامه.
وفي منتصف عام 2021 أعلنت حكومة السودان وصول طلائع قوات وخبراء روس للشروع في خطوات التنفيذ عبر نصب المعدات الخاصة بهوائيات الاتصالات، لكن قراراً صدر لهم بإخلاء القاعدة بعد إعلان تجميد العمل بالاتفاق الذي حددت مسودته الأولى مدة سريانه بـ25 عاماً قابلة للتمديد، والإبقاء عليه معلقاً من دون إلغاء حتى يعرض على المجلس التشريعي بعد تكوينه.
واعتبر اللواء بحري المتقاعد الصادق عبدالله أحمد، رئيس كرسي البحرية السابق بأكاديمية نميري العسكرية العليا، أن إعلان التوصل إلى تفاهم كامل بخصوص ملف إنشاء قاعدة عسكرية بحرية روسية في مدينة بورتسودان، هو بمثابة تدشين كل من روسيا والسودان لمرحلة جديدة في العلاقات والتعاون، في وقت أثار المشروع حفيظة الولايات المتحدة وبعض البلدان الأخرى باعتبار أن إنشاء مثل هذه القاعدة يشكل خطراً على الأمن الدولي.
وأشار أحمد إلى أن الاتفاق النهائي المعلن جاء تتويجاً لمشوار طويل من جولات التفاوض استمر سنوات عدة، على رغم تعثره أكثر من مرة بسبب تقلبات الأوضاع في السودان، متوقعاً أن تتبلور ملامح ولمسات استكمال خطوات الاتفاق الأخرى قريباً.
وكشف رئيس كرسي البحرية السابق عن أن الاتفاق يتيح توسيع حرية الحركة للسفن الحربية الروسية في البحر الأحمر، ويمنح موسكو الحق في نشر 300 عسكري وأربع سفن في القاعدة، وستعمل روسيا في المقابل على دعم الجيش السوداني بالأسلحة والمعدات الحربية اللازمة لتطويره.
وتابع “يمنح الاتفاق في صياغته الأولى التي ربما تكون خضعت لبعض التعديلات في إطار التفاهمات الجديدة، روسيا حق استخدام مركز لوجيستي عملياتي في بورتسودان لعمليات الإصلاح وإعادة الإمداد والتموين لقطع البحرية الروسية في المنطقة، بحيث لن تتمكن أكثر من أربع سفن حربية روسية من البقاء هناك في وقت واحد”.
تجميد وتسريع
وأوضح اللواء بحري أنه بعد مرور أسابيع قليلة على إعلان الخرطوم من طرفها تجميد الاتفاق قبل نحو سنتين سرعت موسكو من خطواتها لتحويل الوثيقة إلى اتفاق ملزم عبر مروره بكل آليات الإقرار القانونية التي نص عليها، إذ أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد أسبوع واحد من مصادقة حكومته على الاتفاق رسمياً بإحالتها إلى مجلس الدوما (النواب) للمصادقة عليها، في ثاني خطوات الإقرار النهائي للاتفاق.
يلفت أحمد إلى أن الاتفاق هو في الواقع ليس واحداً، بل حزمة اتفاقات متعلقة بالتعاون العسكري بين البلدين تقضي بإنشاء ممثلية لوزارة الدفاع الروسية في السودان، وتسهيل دخول السفن الحربية الروسية للموانئ السودانية، ومن ثم إنشاء مركز دعم لوجيستي بحري روسي في السودان، بحسب ما صرح به وزير الدفاع السوداني الفريق ياسين إبراهيم، خلال زيارة سابقة له إلى موسكو، مشيراً إلى أن ثلاثة من هذه الاتفاقات لا تزال مستمرة وتنتظر فقط بعض المسائل التكميلية.
وعن الدوافع الروسية لإنشاء القاعدة البحرية، يشرح اللواء المتقاعد أن “طرح مفهوم القواعد البحرية يقتصر على الدول التي تتمتع بقدرات عسكرية كبيرة، وتتعرض لاحتمالات المشاركة في الصراعات، وهناك دافعان أساسيان لذلك، كلاهما مرتبط بالقدرات الملموسة للدول الكبرى مثل روسيا، الأول سياسي إذ تمثل القواعد البحرية مقياساً ملاحظاً للسياسة الخارجية الروسية، أما الثاني فهو تكتيكي لأن معظم هذه الدول ليست لديها التسهيلات الكافية لاستضافة أعداد كبيرة من هذه القوات، أو أن هناك ظروفاً تكتيكية تمنع وجود القوات الروسية على أراضي هذه الدول”.
وأردف “مع تطور تكنولوجيا التسليح ومنها تكنولوجيا المقذوفات على سبيل المثال، يقلق المخططون العسكريون الروس عند التفكير في تحديد أماكن وجود قواتهم على اليابسة، حتى في حال توفر الموانئ والمطارات التي يمكن استخدامها، لأن استهداف هذه الأماكن يكون سهلاً في ظل توفر تكنولوجيا المقذوفات”.
استحالة التنفيذ
من جانبه يرى المحلل السياسي والدبلوماسي السفير الصادق المقلي أن مسألة قيام قاعدة بحرية روسية في السودان لا تزال تتحرك في خانة المناورة الدبلوماسية، إذ يستحيل تنفيذها لسببين، أولهما أن هذه المسألة ترتبط بصورة وثيقة بالأمن القومي السوداني، بجانب تداعياتها الإقليمية والدولية في وقت تشهد المنطقة صراعاً للنفوذ بين كبار اللاعبين الدوليين، وارتباطها كذلك بدول الجوار بالبحر الأحمر وعلى رأسها السعودية.
الأمر الثاني الذي يجعل التنفيذ مستحيلاً، وفق المقلي، أنه لا يمكن لمثل هذه القاعدة أن ترى النور في الظروف السياسية الراهنة التي يعيشها السودان، إضافة إلى أن مثل هذا الاتفاق المهم ذي الأبعاد الجيوسياسية يجب أن تجري المصادقة عليه من برلمان منتخب وفي ظل ظروف طبيعية، وليس تمريره من خلال جهاز تشريعي (مفترض) يتكون من جلسة مشتركة بين مجلسي السيادة والوزراء الحاليين.
يعتبر مراقبون أن القاعدة الروسية ترتبط بشكل وثيق بالأمن القومي السوداني
وتابع “الأهم من كل ذلك هو أن روسيا نفسها تبدو زاهدة حالياً في ما يتعلق بإنشاء هذا المركز اللوجستي وليس قاعدة عسكرية كما يشاع، في ظل الظروف المرتبطة بانسحابها من سوريا من جهة، وتطلعها لحل أزمة الحرب مع أوكرانيا التي أنهكتها وطال أمدها، وذلك تحسباً لدور إيجابي من إدارة الرئيس ترمب الجديدة التي وعدت بإيجاد تسوية سلمية للنزاع تضع حداً لتوتر علاقاتها مع المعسكر الغربي وبخاصة الاتحاد الأوروبي”.
ووصف المقلي الحديث عن إتمام ترتيبات قيام القاعدة بأنه “محاولة لإرسال رسالة إلى الولايات المتحدة على سبيل الابتزاز بالتلويح بمثل هذه الخطوة، لفك الحصار ورفع العقوبات على حكومة بورتسودان”.
وترجع خلفية الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية بحرية روسية بالبحر الأحمر في السودان إلى عام 2017 خلال زيارة الرئيس السابق عمر البشير إلى موسكو، لكن الاتفاق لم يجر التصديق عليه في السودان منذ ذلك الحين.
بدوره يرى نور الدين عبدالعزيز، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعات السودانية، أن إتمام الحكومة السودانية ترتيبات قيام القاعدة الروسية يعتبر أمراً مشوشاً لعلاقات السودان مع الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، ومزعجاً بصفة خاصة لإدارة ترمب، متوقعاً أن يكون هناك رد أميركي على هذه الخطوة التي تعتبرها واشنطن مهددة لمصالحها ولأمن البحر الأحمر، إذ تنادي بالنأي بهذه المنطقة عن أية قواعد تخص إيران أو روسيا، لاسيما بعد تجربة الحوثي في تعطيل حركة الملاحة بهذا الممر الحيوي.
تعقيدات وتردد
ووصف عبدالعزيز سياسات حكومة السودان تجاه الوجود الدولي على البحر الأحمر بأنها تتسم بالتأرجح بسبب الأوضاع غير المستقرة التي تعيشها البلاد، إذ لا ترفض ذلك الوجود من حيث المبدأ، لكنها تتردد بسبب التعقيدات الإقليمية والدولية المحيطة بالأمر.
ويضيف “العقوبات والضغوط الغربية المستمرة على الحكومة السودانية هي التي دفعت لانتهاج سياسة جديدة تستند إلى تحقيق المصالح الوطنية وتجاوز الضغوط الدولية والإقليمية، وذلك بالتوجه شرقاً نحو روسيا وإيران بحثاً عن تحالفات، مع التطلع إلى إسهام الصين في إعادة تأهيل ما دمرته الحرب، بخاصة في البنية التحتية لقطاعات الطاقة والتعدين”.
وشدد على حق السودان في أن يدير علاقاته الخارجية وفقاً لأولويات أمنه القومي، سواء مع روسيا أو غيرها، بخاصة في ظل ما أفرزته الحرب الجارية من تحديات داخلية وخارجية، وما كشفت عنه من صراع للمصالح الدولية على أرضه، لكن مع ذلك عليه في الوقت ذاته التحسب لعواقب التصادم مع مصالح القوى الكبرى أو الإخلال بالتوازنات الإقليمية والدولية.

قاعدة “فلامنجو” التي ينتظر أن تحتضن بداخلها القاعدة اللوجستية الروسية
ولفت عبدالعزيز إلى أن الشراكات الاقتصادية الطويلة والمثمرة مع دول مثل الصين لعبت الدور الأكبر في تجاوز تأثير العقوبات الأميركية في السودان على مدى سنوات طويلة، مما يكسبها أهمية بخاصة خلال المرحلة الراهنة والمقبلة كنوع من التعاون الحميد الذي لا يستجلب معه جيوش تلك البلدان إلى المنطقة.
سياسياً اعتبر الحزب الشيوعي السوداني أن التوصل إلى اتفاق نهائي لقيام القاعدة العسكرية الروسية، هو تجاهل لما يشكله المشروع من تهديد مباشر للسيادة الوطنية والاستقرار الإقليمي، مطالباً القوى الوطنية السياسية السودانية كافة بالعمل على مناهضة الاتفاق.
وذكر بيان للحزب، أن إبرام مثل هذا الاتفاق في ظل الانقسام السياسي والصراع العسكري الذي يشهده السودان، ومن سلطة غير منتخبة، يجعله يفتقر إلى أية شرعية قانونية أو شعبية.
وعقب اندلاع الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في منتصف أبريل (نيسان) 2023، برزت توجهات جادة داخل مؤسسات الدولة السودانية العليا بضرورة التوجه نحو روسيا للحصول على السلاح في مقابل السماح بإنشاء القاعدة العسكرية.
ويبلغ طول الحدود البحرية للسودان نحو 853 كيلومتراً على ساحل البحر الأحمر، ويمتلك عدداً من الموانئ والقواعد البحرية الرئيسة والفرعية أهمها قاعدة “فلامنجو” البحرية بالقرب من بورتسودان، التي أنشأتها جمهورية يوغسلافيا أوائل سبعينيات القرن الماضي.
خلفية المساعي
وظلت المساعي الروسية متواصلة لإحياء اتفاق سابق مع نظام البشير بإنشاء قاعدة لوجستية عسكرية على ساحل البحر الأحمر، إذ وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام البشير على اتفاق إنشاء قاعدة بحرية قادرة على استقبال سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، وتستخدم كاستراحة ومركز للإصلاح والإمداد، لكن الحكومة السودانية أعلنت بصورة مفاجئة عام 2021 تجميد الاتفاق بحجة انتظار قرار المؤسسات التشريعية.
وتعود الخلفية البعيدة للقاعدة البحرية الروسية بالسودان لزيارة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير إلى موسكو في أواخر عام 2017، مستنجداً بالرئيس الروسي لإنقاذه من العقوبات الأميركية والدولية التي كانت تطبق بشدة على نظامه، ووقع في مقابل ذلك اتفاقات للتعاون العسكري والتدريب.