حرية ـ (22/2/22025)
قبل بضعة أيام كنت أجلس في المقهى المحلي الصغير وأنظر من خلف زجاجه إلى العالم المتحرك في الخارج، على الرصيف المقابل رأيت رجلاً يحاول إقناع الناس بشراء صحيفة “بيغ إشيو” التي تسعى الحكومة من خلالها إلى مساعدة الأشخاص المشردين أو المعرضين للتشرد على كسب دخل قانوني وتحسين أوضاعهم المعيشية، إلى جانبه كان هناك رجل بزي العمال الملطخ بالطلاء، وليس بعيداً منهما وقف شاب أنيق يتحدث في هاتفه بينما يبحث في جيبه عن مفتاح سيارته الفارهة المركونة أمامه. تأملت المشهد، وأدركت كيف أن الحياة ليست عادلة للجميع، بعضنا يولد في ظروف تمنحه فرصاً لا نهائية، بينما يكافح آخرون لمجرد البقاء.
في مثل هذا اليوم، الـ20 من فبراير (شباط)، يحتفل العالم باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، وهي مناسبة تذكرنا بأن العدالة ليست مجرد كلمة جميلة في كتب الفلاسفة، بل قضية حقيقية تؤثر في حياة الملايين، إنها تتعلق بالقدرة على الحصول على تعليم جيد ورعاية صحية ووظيفة محترمة وحياة كريمة، لكن في عصر التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي هل أصبحنا أقرب إلى تحقيق العدالة، أم أن الفجوة بين الطبقات لا تزال تتسع؟
ما العدالة الاجتماعية؟
تُعرَّف العدالة الاجتماعية بأنها مبدأ يهدف إلى تحقيق المساواة والإنصاف في توزيع الحقوق والموارد داخل المجتمع، بحيث يتمكن الجميع من الوصول إلى الفرص نفسها من دون تمييز.
يختلف مفهوم العدالة الاجتماعية باختلاف المجتمعات والثقافات، لكنه يتمحور حول أربعة أبعاد أساسية هي: المساواة التي تعني ضمان عدم التمييز بين الأفراد بناء على عوامل مثل الجنس أو العرق أو الدين أو الطبقة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص في التعليم والعمل والتنمية الاقتصادية بحيث لا تؤثر الخلفية الاجتماعية أو الاقتصادية في إمكانات النجاح، والإنصاف المتمثل في اتخاذ تدابير تعويضية لضمان أن الفئات الأكثر ضعفاً تحصل على الدعم اللازم لتحقيق العدالة الفعلية وليس فقط القانونية، وأخيراً الحقوق الأساسية التي تشمل الحق في التعليم والرعاية الصحية والسكن والحماية القانونية وبيئة عمل عادلة.
وفقاً للبنك الدولي، يعاني أكثر من 40 في المئة من سكان العالم عدم المساواة الاقتصادية، مما يؤدي إلى تفاقم التفاوت في الوصول إلى الخدمات الأساسية ويؤثر في استقرار المجتمعات.
جذور المفهوم وتطوره
لم يكن مفهوم العدالة الاجتماعية وليد العصر الحديث، بل له جذور ضاربة في التاريخ، في الفكر الفلسفي اليوناني ناقش أفلاطون مفهوم العدالة في كتابه “الجمهورية”، إذ رأى أن تحقيق العدالة يتطلب توزيع الأدوار والموارد وفقاً لقدرات الأفراد وحاجات المجتمع، أما أرسطو فقد ميز بين “العدالة التوزيعية” التي تضمن توزيع الموارد بصورة عادلة و”العدالة التصحيحية” التي تعالج الظلم من خلال التعويضات والعقوبات.
في العصور الوسطى تأثر مفهوم العدالة الاجتماعية بالتعاليم الدينية، إذ دعت الأديان السماوية إلى رعاية الفقراء والمساواة في الحقوق والواجبات، على سبيل المثال في الإسلام يُعتبر تحقيق التكافل الاجتماعي من المبادئ الأساسية من خلال الزكاة والصدقات، وفي المسيحية، دعت التعاليم إلى حماية الفقراء وتحقيق الإنصاف من خلال العدل والمحبة.
في العصر الحديث، برز المفهوم بصورة أكبر مع تطور الحركات الاجتماعية خلال القرنين الـ19 والـ20، وبخاصة مع الثورة الصناعية التي أدت إلى تفاقم التفاوت الطبقي، دعا الفيلسوف جون راولز في كتابه “نظرية العدالة” إلى ضرورة تحقيق المساواة في الفرص وتعزيز السياسات التي تضمن تحسين ظروف الفئات الأضعف في المجتمع.
لماذا نحتاج إليها؟
تلعب العدالة الاجتماعية دوراً حيوياً في تعزيز استقرار المجتمعات الحديثة وازدهارها، فمن خلال ضمان توزيع عادل للموارد والفرص تسهم العدالة الاجتماعية في تقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية مما يؤدي إلى مجتمعات أكثر تماسكاً واستقراراً، وتشير دراسات إلى أن الدول التي تتبنى سياسات عدالة اجتماعية فعالة تشهد معدلات جريمة أقل ومستويات ثقة أعلى بين المواطنين.
علاوة على ذلك، ترتبط العدالة الاجتماعية ارتباطاً وثيقاً بالتنمية المستدامة، تؤكد الأمم المتحدة أن القضاء على الفقر بجميع أشكاله يمثل ضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، في هذا السياق يُعتبر الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة هو القضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030، مما يعكس التزاماً عالمياً بتعزيز العدالة الاجتماعية.
إضافة إلى ذلك تسهم العدالة الاجتماعية في مكافحة الفقر والتهميش من خلال توفير فرص متساوية في التعليم والعمل والرعاية الصحية، وأظهرت دراسات أن تطبيق سياسات حماية اجتماعية شاملة يمكن أن يقلل من معدلات الفقر ويعزز الإدماج الاجتماعي للفئات المهمشة، في مصر مثلاً تعد “رؤية مصر 2030” بمثابة خريطة طريق لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، مع التركيز على توزيع عادل للموارد وتحسين جودة الحياة لجميع المواطنين.
في العصر الرقمي
تلعب التكنولوجيا دوراً محورياً في تعزيز العدالة الاجتماعية من خلال تمكين الأفراد وتحقيق المساواة في الفرص، في مجال التعليم تسهم التكنولوجيا في تحقيق المساواة عبر منصات التعلم عن بُعد، التي تتيح للطلاب في جميع أنحاء العالم الحصول على محتوى تعليمي عالي الجودة بغض النظر عن موقعهم الجغرافي.
وفقاً لتقرير للـ”يونسكو”، فإن أكثر من 1.5 مليار طالب استفادوا من التعلم عن بُعد أثناء وباء كورونا، مما أتاح فرصاً متساوية لعدد من الطلاب في مناطق نائية.
في قطاع الرعاية الصحية توفر التكنولوجيا حلولاً مبتكرة مثل التشخيص عن بُعد الذي يتيح للمرضى في المناطق النائية الوصول إلى الاستشارات الطبية عبر الإنترنت، وتشير دراسة إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض يمكن أن يحسن دقة التشخيص بنسبة 30 في المئة، مما يساعد في توفير رعاية صحية أفضل للأفراد في المجتمعات الفقيرة، كما تسهم الرعاية الصحية الرقمية في تقليل الفجوات بين المدن الكبرى والمناطق الريفية.
صحة الفلسطينيين في انتظار تأمين شامل يوفر العدالة الاجتماعية
أما في مجال العمل فإن التحول الرقمي يوفر فرص عمل عن بُعد تتيح للأفراد في المناطق النائية الحصول على وظائف عبر الإنترنت من دون الحاجة إلى الوجود في مراكز حضرية.
وفقاً لتقرير صادر عن منظمة العمل الدولية يمكن للتكنولوجيا أن تخلق فرصاً اقتصادية جديدة لزيادة دخل الأفراد في المناطق الأقل تطوراً.
في ما يتعلق بالجانب المالي، تسهم الابتكارات التكنولوجية مثل الخدمات المصرفية الرقمية والمحافظ الإلكترونية في تمكين الأفراد المهمشين مالياً من الوصول إلى الخدمات المالية، ويشير تقرير للبنك الدولي إلى أن استخدام التكنولوجيا المالية ساعد في تقليل معدلات الفقر في عدد من البلدان النامية، حيث أصبح بإمكان الملايين الوصول إلى خدمات مالية كانت غير متاحة لهم في الماضي.
لكن على رغم هذه الفوائد تواجه التكنولوجيا تحديات خطرة قد تعمق الفجوات الاجتماعية، ويعد عدم القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا في المقام الأول من أبرز التحديات التي قد تسهم في زيادة التفاوت بين الفئات الاجتماعية.
وفقاً لدراسة من الاتحاد الدولي للاتصالات فإن هناك أكثر من 3.7 مليار شخص في العالم لا يملكون الوصول إلى الإنترنت مما يعزز الفجوة بين المجتمعات الغنية والفقراء، كما أن التفاوت في الوصول إلى الأدوات الرقمية يمكن أن يؤثر في فرص التعليم والرعاية الصحية في المناطق النائية.
إضافة إلى ذلك قد يسهم الذكاء الاصطناعي في تعزيز التحيزات القائمة في سوق العمل وفي تقديم الخدمات مثل تمييز الخوارزميات في قرارات التوظيف أو في تقديم الرعاية الصحية.
وأخيراً يمكن أن يؤدي الاستبعاد الاجتماعي إلى تهميش أولئك الذين لا يستطيعون مواكبة التحولات الرقمية مما يعرضهم للحرمان من فرص النمو الاقتصادي والاجتماعي.
هل هناك حلول؟
لتحقيق العدالة الاجتماعية عبر التكنولوجيا من الضروري تبني مجموعة من الحلول المستدامة التي تضمن المساواة في الوصول إلى الفرص الرقمية. أولاً، يعد الاستثمار في البنية التحتية الرقمية خطوة أساسية لضمان توفر الإنترنت في المناطق النائية والفقيرة.
وفقاً لتقرير البنك الدولي فإن توصيل الإنترنت إلى المناطق الريفية يمكن أن يزيد من فرص الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية ويحفز النمو الاقتصادي، على سبيل المثال أطلقت الهند مبادرة “الهند الرقمية” التي تهدف إلى توفير الإنترنت في جميع أنحاء البلاد مما أسهم في تمكين الملايين من الوصول إلى الخدمات الرقمية.
ثانياً، يتطلب تمكين الفئات المهمشة تطوير برامج تدريبية تهدف إلى تعليم المهارات الرقمية الأساسية. وأظهرت دراسة من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن 90 في المئة من الوظائف المستقبلية ستتطلب مهارات رقمية، وهنا تبرز أهمية تدريب الأفراد وبخاصة في المجتمعات المحرومة على هذه المهارات، على سبيل المثال المبادرات التي تهدف إلى تدريب النساء في المناطق الريفية على البرمجة والتسويق الرقمي أسهمت في تمكينهن اقتصادياً، مثل برنامج “النساء المبرمِجات” الذي يتيح للنساء الفرص للحصول على وظائف تكنولوجية.
ثالثاً، من الضروري وضع سياسات تنظيمية للذكاء الاصطناعي لضمان استخدامه بما يحقق العدالة والمساواة، يؤكد تقرير “الذكاء الاصطناعي من أجل الخير الاجتماعي” الصادر عن الأمم المتحدة على أهمية تطوير تشريعات تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات الحساسة مثل التوظيف والصحة والعدالة الجنائية، يمكن للسياسات التنظيمية أن تضمن عدم تحيز الخوارزميات ضد الفئات الاجتماعية الضعيفة مثل النساء أو الأقليات.
أخيراً، يعد التعاون بين الحكومات والشركات أمراً حيوياً لتحقيق تكافؤ الفرص في الوصول إلى التكنولوجيا والخدمات الرقمية.
وفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي فإن الشراكات بين القطاعين العام والخاص قد أثبتت فاعليتها في تعزيز الشمول الرقمي، على سبيل المثال أسهم التعاون بين الحكومات المحلية والشركات التقنية الكبرى مثل “غوغل” و”مايكروسوفت” في تنفيذ مشاريع تهدف إلى توفير الإنترنت المجاني في المناطق الفقيرة مما ساعد في توفير فرص تعليمية وصحية لملايين الأشخاص.
من خلال تبني هذه الحلول، يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية عبر التكنولوجيا وتمكين الفئات المهمشة من الاستفادة من الفرص الرقمية المتاحة، لكن في عالمنا اليوم حيث تتراكم التحديات الاقتصادية والتكنولوجية، تظل العدالة الاجتماعية حلماً يسعى كثيرون إلى تحقيقه، وتعمل الدول بجد من خلال السياسات العامة وبرامج الحماية الاجتماعية على تحقيق هذا الهدف النبيل إلا أن الطريق لا تزال طويلة، فالتفاوت الاقتصادي والفجوة الرقمية والتغيرات المناخية تواصل الضغط على الفئات الأكثر هشاشة، تلك التي تحمل أعباء ثقيلة لم تكن مسؤوليتها، ومع كل خطوة نخطوها نحو العدالة تتناثر قصص المعاناة، لكن الأمل يظل ينبض في قلوب من يسعون إلى رفع الظلم، وبينما نبذل جهدنا في تحقيق هذا الهدف نتذكر أنه عندما تتحقق العدالة الاجتماعية في العالم لن نحتاج إلى يوم عالمي للاحتفاء بها.