حرية ـ (23/2/22025)
هيلين كوفي
“كنت أسدد ضرائب بعشرات آلاف الجنيهات الاسترلينية، ثم انتهى هاتفي مسروقاً من يدي في الشارع، لماذا أقوم بدفع كل تلك الضرائب؟”، يطرح راي أمجد، 24 سنة، هذا السؤال البلاغي من شقة ذات غرفة نوم واحدة يستأجرها راهناً في اليابان. يعيش أمجد هناك منذ ثمانية أشهر، واستنتج خلال هذه الفترة بأن جهوده للنجاح في بريطانيا كانت بلا طائل.
الشاب راي أمجد هذا يمكن أن يلخص ما يسمى بـ”هجرة الأدمغة”، الظاهرة التي ابتليت بها البلاد طوال العام الماضي، والمتمثلة بالهجرة الجماعية السائدة في أوساط الجيل البريطاني الفتي والموهوب الذي يغادر أفراده المملكة المتحدة للعيش في بلدان أخرى. وكان الشاب أمجد المتخرج في جامعة كامبريدج والمتحدر من مانشستر، حظي بعد دراسته الجامعية بوظيفة ذات أجر جيد قبل أن يبدأ ترحله. بيد أن زياراته إلى بلدان أجنبية مختلفة فتحت عينيه على ما يراه فشلاً في بلده الأم: الجرائم الصغيرة [كالنشل وغيره من جنح]، وإضرابات القطارات، وإيجارات وأسعار المساكن المبالغ بها، ومرافق الخدمات العامة المتداعية، وطبعاً الطقس “الرديء”.
يقول لي أمجد: “سافرت إلى 20 بلداً مختلف تقريباً، وذاك جعلني أقول في نفسي ’يا إلهي، يمكن لبريطانيا أن تكون أفضل حالاً بكثير!‘”، ويتابع “لقد قادني الأمر إلى لقاء أشخاص آخرين في تلك الأسفار، ممن تركوا بريطانيا منذ 15 أو 20 عاماً، وهؤلاء أخبروني عن حياتهم في المهجر. ثم التقيت شباناً كثراً في بريطانيا يخططون للمغادرة”، وذاك ما جعله يرى أن عليه ربما أن يكون في عدادهم.
هو ليس وحده طبعاً، فمنذ نحو ستة أشهر ظهر منحى جديد على مواقع التواصل الاجتماعي: أشخاص ينشرون محتوى على “تيك توك” و”يوتيوب” بعناوين مثل “لماذا أنوي مغادرة المملكة المتحدة”. كيت بار، الشابة ابنة الـ29 سنة، المسؤولة عن قناة “إديوكيت” (EduKate) على “يوتيوب”، كانت واحدة من المدافعين عن الهجرة، إذ نشرت مقطع فيديو بليغ ومؤثر بعنوان “بريطانيا تموت وأنا بحاجة إلى التنفيس” THE UK IS DYING AND I NEED TO VENT. وكتبت كيت في التعليق المرافق للفيديو: “أنصحكم بمغادرة بريطانيا عام 2025، فهي مكان مرهق جداً للعيش، وأرى أن ذاك ليس سوى البداية. يحصل الإنسان على فرصة واحدة في العمر، وأنا لن أقضي فرصتي في العمل من دون مقابل تقريباً كي أساعد أشخاص آخرين ليصبحوا أصحاب ملايين. اللعنة على كل هذا!”.
في الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، مسجلاً نحو مليون مشاهدة و56 ألف استحسان مذ قامت كيت بتحمليه على “يوتيوب” في يوم الـ31 من ديسمبر (كانون الأول)، تشرح الخريجة الجامعية الاسكتلندية الشابة قرارها بمغادرة بريطانيا في صيف 2024. فهي استفادت من “فرصة عمل رائعة” لمدة أربعة أشهر في غرينلاند قبل انتقالها إلى هونغ كونغ لتعليم اللغة الإنجليزية. “بات هذا المكان الآن [هونغ كونغ] منزلي، وسيبقى كذلك بالتأكيد طوال العام المقبل”، تقول كيت، ثم تذكر لائحة كاملة من المشكلات في بريطانيا: الضرائب المرتفعة من دون معرفة وجهة صرفها، أقساط الدراسة وفوائد القروض المرتفعة للطلاب، ومواقيت الانتظار الطويلة للحصول على موعد من الهيئة الصحية الوطنية البريطانية، وعدم توفر الرعاية الصحية النفسية، ونقص في مخصصات الرواتب التقاعدية، وعدم توفر المساكن الميسرة والوظائف الكافية، ومدة انتظار تقدر بعقد سنوات كي تتلقى شقيقتها الراشدة، التي هي من ذوي الحاجات الخاصة، مسكناً مدعوماً يمكنها من العيش باستقلالية.
تضيف كيت بار “أتقدم، مع وجع في القلب، لأنني أحب بلدي كثيراً، بنصيحة صادقة للشباب البريطانيين من أمثالي كي يفكروا بالانتقال والعيش في مكان آخر”، وتتابع “هذه الفكرة القائلة إن بريطانيا أفضل من أي مكان آخر في العالم ليست سوى هراء. وذاك المنطق يحدنا، ويمنعنا من الشعور بالقدرة على التشكي”.
وعلى رغم أن البلدان التي يميل أفراد جيل “زد” البريطاني للانتقال إليها تتنوع وتختلف، فتشمل دولاً مثل الإمارات العربية المتحدة وأستراليا، وبلداناً في جنوب شرقي آسيا أقرب إلى أوروبا، إلا أن مقاصدهم تكاد تتشابه على نحو غريب.
مسألة عدم توفر الفرص، مثلاً، كثيراً ما تطرح. سول هايد، ابن 24 سنة، الذي كان يعمل مستشار تخطيط، نشر عدداً من الفيديوات تتناول قراره بالانتقال من بريطانيا إلى دبي وبالي. في أحد تلك الفيديوات يقول: “بهذه المرحلة من حياتي، كرائد أعمال شاب، لا أرى أي منطق في بقائي ببريطانيا. هناك مشكلات جدية تحتاج إلى معالجة قبل أن يفكر الأشخاص الطامحون من أمثالي أن بريطانيا مكان جيد للعيش فيه”.
كما يعتقد سول هايد أن هناك في بريطانيا “ثقافة متأصلة ضد النجاح” وذاك يمثل بيئة “سامة”، وهذه مشكلة يذكرها راي أمجد بدوره. إذ يرى الأخير أن بريطانيا تقوم بوضع سقف للطموح، فالشبان والشابات الذين يريدون النجاح يلقون التشجيع، لكن فقط لدرجة معينة. أمجد، مثلاً، الذي نشأ بمنطقة محرومة في مانشستر، تعرض للتشكيك من زملاء ومعلمين على حد سواء عندما أفصح عن تخطيطه للدراسة في أوكسفورد أو كامبريدج. وتلك الثقافة المجافية للنجاح برأيه تشكل عامل إحباط لرائدي أعمال شبان مثله، بيد أنه ومنذ انتقاله إلى اليابان تمكن من إطلاق مشاريعه الخاصة الناجحة، مبتكراً تطبيقات ومواقع إلكترونية وبرامج كومبيوتر.

كثيراً ما يشتكي أفراد جيل الشباب في بريطانيا انخفاض الرواتب وارتفاع تكاليف العيش في بلدهم
“لقد شاركت في برنامج تسريع للشركات الناشئة [برنامج مصمم لمساعدة الشركات الناشئة في مراحلها المبكرة في النمو بسرعة من خلال توفير الإرشاد والتمويل وفرص التواصل والموارد] في الولايات المتحدة لشهرين أو ثلاثة، أعتقد أن الموقف تجاه الأشخاص الذين لديهم طموحات أو أحلام كبيرة في بريطانيا مختلف كثيراً عن الموقف منهم في الولايات المتحدة وغيرها من الثقافات. فالأمر في بريطانيا يكاد يشبه وجود سقف لما يمكن للمرء أن يحققه. هذا السقف في لندن مثلاً يتجسد بأنك قد تحصل على وظيفة جميلة في مجال الاستشارات أو التمويل أو أي شيء آخر، فيما يسهل، حين تكون في سان فرانسيسكو، أن تلتقي بأشخاص من أمثالك قاموا بتأسيس شركات استثنائية ثورية أو تطبيقات وخدمات أخرى لا تقل ثورية”.
شاب آخر وهو من أصدقاء سول هايد ممن حققوا إنجازات أيضاً، التحق بركب المهاجرين بدوره، تحديداً في موجة من درسوا الطب، وجاء قراره بالسفر مثل الآخرين “لأنه سمع أن الأطباء يلقون معاملة أفضل ويتلقون أجوراً أعلى في أستراليا وكندا”.
يكاد الأمر يبدو وكأن هناك سقفاً لما يمكن للمرء أن يحققه في بريطانيا (راي أمجد)
وفي هذا الإطار، تشكل أستراليا على نحو متزايد وجهة جذابة للشباب البريطاني الساعي إلى الإقامة في المهجر. وأسهم عدد قياسي من المسافرين الشبان في جعل هذا البلد أكثر وجهة مرغوبة للسياح الأجانب القاصدين للعمل، فبحسب دراسات إحصائية نشرت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ارتفع عدد سياح العمل القادمين من بريطانيا من 31 ألف سائح / عامل عام 2023، إلى نحو 50 ألف سائح / عامل سنوياً. هذه الزيادة الكبيرة في جاذبية أستراليا تعزى، إلى حد كبير، إلى توسعة معايير الأهلية للحصول على تأشيرة “عطلة عمل” أسترالية. فيمكن اليوم للأشخاص حتى سن الـ35 أن يعيشوا ويعملوا في أستراليا لثلاث سنوات (الحد الأقصى للسن كان في السابق 30 سنة)، فيما لم يعد يطلب من البريطانيين المتقدمين بطلب هذه التأشيرات، إتمام 88 يوماً بالسنة من العمل في الزراعة.
في السياق ذاته، وضمن حديث مع مجلة “التايم” العام الماضي، قال شابان بريطانيان إنهما منذ انتقالهما إلى أوز [أستراليا وفق التسمية الشعبية] ضاعفا دخلهما ثلاث مرات، وشعرا بمزيد من الثقة، كما تمتعا بمستوى حياة أفضل.
هذان الشابان المذكوران يمثلان في الواقع رأس “جبل جليد” حركة الهجرة، إذ بحسب استطلاع شمل أكثر من 3 آلاف شاب وشابة قام به “المجلس البريطاني” British Council فإن نحو 72 في المئة من الأفراد بين سني الـ18 و30 يفكرون بالعيش والعمل في المهجر بالمديين القصير أو البعيد. كذلك فإن ثلثي الذين شملهم الاستطلاع قالوا إن مستويات العيش [في بريطانيا] تراجعت عما كانت عليه بالنسبة إلى جيل أهلهم، كما قال أكثر من نصف المستطلعين إنهم يعانون انخفاض الرواتب.
وفي تقرير آخر منفصل صادر من مؤسسة “كارينسيس دايركت” Currencies Direct، فإن جيل الشباب في بريطانيا يمثل أكبر شريحة اجتماعية يفكر أفرادها بمغادرة المملكة المتحدة، إذ إن 74 في المئة ممن هم بين سني الـ18 والـ35 يفكرون بالانتقال إلى المهجر خلال السنوات الخمس المقبلة، و11 في المئة ممن هم بين سني الـ18 والـ25 قالوا إنهم يفكرون باتخاذ خطوة الانتقال قريباً.
كاميرون ماكليري، البالغ من العمر اليوم 25 سنة، كان واحداً من أولئك الذي تجرعوا الكأس المر وقطعوا بطاقة سفر بوجهة واحدة إلى تايلاند في يناير (كانون الثاني) العام الماضي. كان ماكليري في السابق يعمل رجل إطفاء في بيرمنغهام فيغطي بين 40 و60 ساعة عمل أسبوعياً، واتخذ قرار السفر بعد مشاهدته مقاطع على السوشال ميديا تظهر قرناء له يكتشفون مستوى حياة أفضل خارج بريطانيا.
“أرى بريطانيا مكاناً محبطاً جداً للعيش، وما زلت أشعر بذلك حتى الآن حين أعود لزيارة العائلة والأصدقاء”، يقول لي كاميرون، يضيف: “من حالة الطقس، مروراً بقرارات الحكومة وكلف المعيشة المرتفعة، وصولاً إلى الأشياء البسيطة كالذهاب إلى السوبرماركت والتواصل مع العاملين هناك، تشعر بأن لا أحد سعيد ولا أحد يريد أن يكون هنا”. ويذكر كاميرون أنه لا يلوم الناس على ذلك، “فهذه أمور لها ما يشبه التأثير غير المباشر، إذ يبدأ كل شيء في القمة ثم للأسف يأتي الانحدار وتباشر الأشياء هبوطها، والناس في الأسفل هم أكثر من يتكبد المعاناة”.
أرى بريطانيا مكاناً محبطاً جداً للعيش، وما زلت أشعر بذلك حتى الآن حين أعود لزيارة العائلة والأصدقاء (كاميرون ماكليري)
وبعد أن ذهب للعيش والعمل في تايلاند قام ماكليري بقضاء وقت في ماليزيا وإندونيسيا، قبل أن يستقر سعيداً في قبرص منذ نحو ستة أشهر. أحد مكاسبه الكبيرة في هذه التجربة يتمثل بالاستقلالية – بعد أن كان يتشارك بيتاً صغيراً مع أمه وشقيقه على مدى السنوات الـ23 الأولى من حياته. فقد تمكن هذا الشاب أخيراً من الحصول على مسكنه الخاص. ويثني كاميرون أيضاً على الأيام المشمسة التي تبلغ 320 يوماً في السنة وعلى الحياة الآمنة في قبرص، “أستمتع الآن بإمكان الذهاب إلى المتجر عند الساعة الـ11 ليلاً من دون أي احتراس أو التفكير بأن مكروهاً قد يحصل معي”، وهذا أمر يورده راي أمجد بدوره من ضمن محاسن حياته المهجرية في اليابان، فيقول: “يترك الأشخاص في طوكيو أجهزتهم [الماك بوكس] على الطاولة في ستارباكس ويغيبون لـ20 دقيقة، ويعودون ليجدوا الماك بوك خاصتهم موجوداً في مكانه. هذا أمر لا يمكنك القيام به في لندن، فجهازك المحمول قد يسرق ويختفي في دقيقتين”.
وعلى رغم أن ماكليري يشتاق لأصدقائه وعائلته في بريطانيا (وطبعاً لحفلة شواء اللحم أيام الأحاد)، إلا أن فوائد العيش بعيداً من الوطن تفوق السلبيات بدرجة كبيرة. “إنه أفضل قرار اتخذته شخصياً”، يقول، وباستثناء الحالات الطارئة هو لا يرى “أي سبب يحمل على العودة لحياتي السابقة في المملكة المتحدة”.
بيد أن ابتعاده من بريطانيا لا يأتي بهذا الحسم القاطع بالنسبة إلى راي أمجد، فهو يفتقد كثيراً لروح الدعابة والتهكم البريطانية، وبالتالي ما زال يبحث عن ثقافة “يتفاعل” معها بالطريقة التلقائية نفسها. وهو في السياق يقول إنه ربما يعود لبريطانيا بيوم من الأيام ليستقر وينشأ عائلة، “على أمل أن يقرأ [هذا] بعض الأشخاص في الحكومة ويقولون ’مهلاً، علينا القيام ببعض التغييرات!‘”، يقول مشيراً إلى هذه المقالة. كيت بار من جهتها عبرت عن موقف مماثل في الفيديو الذي صورته، فتحدثت عن سلبيات الحياة الاجتماعية الراهنة في بريطانيا قائلة: “كلما زاد حديث الناس عنها، زادت فرص اتخاذ خطوات حقيقية لمعالجتها”.
لكن في الأثناء ستبقى الرواتب الجيدة المتاحة لأولئك البريطانيين الشبان والأذكياء والموهوبين، متوفرة بعيداً من الوطن.