حرية ـ (5/3/2025)
أحمد حسن
لأكثر من عشرين عامًا، والعراقيون يواجهون أزمة كهربائية لم تعد مجرّد خلل فني أو عثرة إدارية، بل باتت صورة مكثفة لفشل الدولة وعجزها عن امتلاك قرارها السيادي. مع كل صيف، يعود مشهد الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي كطقس موسمي ثقيل، حتى صار جزءًا من الحياة اليومية، كأنه مصير محتوم لا مجال للفكاك منه. غير أن أصل المشكلة لم يكن يومًا في الإنتاج وحده، بل في ارتهان القرار السياسي لمعادلات إقليمية ودولية جعلت العراق ساحة مفتوحة للتجاذبات، فيما تقف السلطة مكبلة بين الضغوط الأمريكية والتبعية لإيران، فاقدة القدرة على رسم استراتيجية وطنية تحرّر قطاع الطاقة من دائرة الفشل المزمن.
ومع تصاعد حدة الأزمة، عاد ملف استيراد الغاز لتغذية قطاع الكهرباء إلى واجهة الجدل السياسي، خاصة بعد تصريح رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عن ضغوط أمريكية مارستها واشنطن لمنع العراق من استيراد الغاز الإيراني، ملوّحة بعقوبات اقتصادية قاسية إن لم يمتثل. غير أن المالكي، وهو أحد أكثر الشخصيات نفوذًا في المشهد العراقي منذ 2003، لم يقترب من السؤال الأهم: كيف انتهى الحال ببلد يعوم على بحر من النفط والغاز إلى الارتهان لإمدادات الطاقة الإيرانية؟ ولماذا صار مصير الكهرباء في العراق يُقرَّر في واشنطن وطهران بدلًا من بغداد؟.
اختزال الأزمة في الضغوط الأمريكية أو الإيرانية، أو الادعاء بأن العراق لا يملك بدائل، ليس سوى تبسيط مخلّ للحقيقة. فإيران، رغم العقوبات الدولية الخانقة، تواصل تصدير الغاز إلى دول أخرى دون أن تتحوّل هذه الدول إلى رهائن لهذا الاعتماد، كما هو الحال في العراق. إذًا، المشكلة ليست في المورد ذاته، بل في البنية السياسية والاقتصادية التي أُعيد تشكيلها بعد 2003، والتي جعلت العراق دولة هشّة غير قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأمد، وأسيرة لنخبة سياسية ترى في استمرار الأزمات فرصة لتعزيز نفوذها بدلًا من حلّها. فلماذا لم يسعَ العراق خلال العقدين الماضيين إلى تنويع مصادره الطاقوية؟ ولماذا لم يطوّر إنتاجه المحلي؟ ولماذا ظلّ هذا الملف خارج دائرة الإرادة الوطنية؟.
لم يكن قطاع الطاقة في العراق مجرد ملف اقتصادي، بل ورقة ضغط جيوسياسية بامتياز. فمنذ الغزو الأمريكي، شهد العراق تفكيكًا ممنهجًا لبنيته التحتية الطاقوية، ولم يكن ذلك مجرد نتيجة للفوضى، بل جزءًا من استراتيجية إعادة هيكلة الدولة بما يضمن بقائها في حالة ارتهان دائم للقوى الخارجية. في هذا السياق، لعبت واشنطن دورًا مزدوجًا: فمن جهة، فرضت سياسات اقتصادية أعاقت استعادة العراق لسيادته الطاقوية، ومن جهة أخرى، تركته في مواجهة الاعتماد على الغاز الإيراني، ليُستخدم هذا الملف لاحقًا كأداة ضغط سياسي.
أما إيران، فقد استغلت الأزمة لتعزيز ارتباط العراق اقتصاديًا بها، عبر تصدير الغاز والكهرباء، ضمن استراتيجيتها القائمة على “ربط الدول التابعة بمصالحها الاستراتيجية”. وهكذا، لم يعد بإمكان العراق اتخاذ قرارات تتعلق بملف الطاقة بمعزل عن الحسابات الإيرانية، مما جعله رهينة لمعادلة معقدة تتداخل فيها المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية.
لكنَّ الأزمة لا يمكن إرجاعها بالكامل إلى الضغوط الخارجية وحدها، فالنخب السياسية العراقية تتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية في استمرارها. فمنذ 2003، لم تُتخذ أي خطوات جادة لتطوير قطاع الغاز المحلي أو استغلال الاحتياطات الهائلة التي يملكها العراق، والتي تُقدَّر بـ 132 تريليون قدم مكعب، وهي كمية تكفي لسد احتياجات البلاد لعقود. بدلًا من ذلك، استمر النهج القائم على الاستيراد، دون أي رؤية استراتيجية، ما يثير أسئلة جوهرية:
هل هناك أطراف سياسية مستفيدة من إدامة هذه الأزمة؟ هل تتحكم شبكات فساد في هذا الملف لضمان استمرار الاعتماد على الغاز الإيراني، بما يتيحه ذلك من صفقات مبهمة وأرباح خفية؟ ولماذا لم يُفتح هذا الملف أمام الرأي العام بشفافية؟.
إنَّ استمرار أزمة الكهرباء في العراق ليس بسبب تعقيد الملف، بل بسبب غياب الإرادة السياسية الحقيقية لحلّه. فالبلد يمتلك كل المقومات لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة، لكنه واقع تحت قبضة منظومة ترى في الأزمات وسيلةً لترسيخ نفوذها. فلو تحقق الاستقرار الكهربائي، لفقدت قوى سياسية أدوات ضغطها، ولخسر سماسرة السياسة مصدراً من مصادر ثرائهم، ولتلاشت قدرة البعض على توظيف الكهرباء كورقة انتخابية.
لقد نجح العراقيون في هزيمة تنظيم داعش بدمائهم وصمودهم، فلماذا يعجز بلدهم عن تأمين الكهرباء؟ لماذا يُترك المواطن ليحترق تحت لهيب الصيف بلا كهرباء وكأنها مشهدٌ متكرر لا نهاية له؟ ولماذا تصرّ الحكومات المتعاقبة على لعب دور المتفرج، وكأن هذه المعاناة قدرٌ لا فكاك منه؟.
الجواب ببساطة أن العراق، بعد عقدين من الغزو، لا يزال محكومًا بمنطق “الدولة المُسيّرة لا الدولة المُقررة”، حيث تُصاغ قراراته الاستراتيجية خارج حدوده، ونخبه السياسية عاجزة عن كسر هذه الدائرة، إما لأنها مستفيدة من الوضع، أو لأنها لا تملك الجرأة على مواجهته. ولهذا، فإن أزمة الكهرباء ليست مجرد مشكلة خدمية، بل تجسيد لفشل الدولة العراقية الحديثة، بكل ما تحمله من أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية.
إنَّ الحل لا يكمن في انتظار معجزة خارجية، ولا في تكرار لعبة التبريرات والبحث عن شماعات لتعليق الفشل، بل في مواجهة الحقيقة: القرار العراقي لم يعد مستقلًا، والسيادة ليست مجرد شعار، بل اختبارٌ لقدرة الدولة على اتخاذ قرارات جريئة، بعيدًا عن حسابات التوازنات القاتلة. فإذا كانت الحكومات عاجزة عن التحرر من دائرة الابتزاز والارتهان، فعليها أن تتحلى بالحد الأدنى من الصدق وتصارح شعبها، أو تفسح المجال لقوى جديدة تمتلك الإرادة لكسر هذا الجمود القاتل.
أما الإبقاء على الوضع كما هو، فلن يعني سوى استمرار العراق في دوامة أزمات مفتعلة، يُدفع ثمنها من حياة المواطن وكرامته ومستقبله، فيما يواصل سماسرة السلطة تحصين مواقعهم، كأن الزمن كُتب ليدور في حلقة مغلقة. لكن هذا المشهد لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، لأن الأوطان، مهما طال بها الاستنزاف، لا تُبنى على المعادلات المشوّهة، ولا يمكن لشعب أن يظل رهينة لعبة لا تخدم إلا من يصنعها.