حرية ـ (8/3/2025)
منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في دمشق غطى الطيران الإسرائيلي السماء السورية بغارات هي الأشد عنفاً من قبل إسرائيل على هذا البلد العربي، فدمرت خلالها ما تبقى من الجيش النظامي والبنية التحتية التابعة له من القنيطرة حتى البوكمال، وشمل ذلك الأسطول البحري.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل توغلت القوات الإسرائيلية براً لتسيطر على مناطق واسعة في الجنوب السوري، بما في ذلك جبل الشيخ الاستراتيجي. أما على الصعيد السياسي، فرحبت بسقوط نظام الأسد من دون أن تدعم الحكام الجدد للبلاد على خلاف الموقف الرسمي الإقليمي والدولي.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية تتكرر التصريحات الإسرائيلية التي تنتقد الحكومة السورية الجديدة، وتواصل انتهاك الأراضي السورية براً وجواً وسط إدانات من دمشق وعواصم عربية ودولية.
في الضفة المقابلة منذ اللحظات الأولى لإسقاط النظام السابق أعلنت سوريا الجديدة أنها ليست بصدد فتح جبهة أو حرب ضد أحد في رسالة مباشرة إلى إسرائيل فحواها بأن “سوريا الجديدة ستركز على التنمية وإعمار البلاد وازدهارها، وهي بعيدة كل البعد من تهديد أي من دول الجوار، أو الانضمام إلى أية حركة من حركات المقاومة، أو تصدير الثورة خارج البلاد”، إلا أن هذا الخطاب الذي لقي ترحيباً عربياً واسعاً لم يقنع حكومة نتنياهو على ما يبدو، فيطرح السؤال نفسه ما الذي تريده إسرائيل من سوريا؟
أهداف لا شروط
الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان قال في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “لا نستطيع أن نتحدث عن شروط حتى الآن، إذ لا يوجد هناك طاولة مفاوضات بين إسرائيل والحكومة الجديدة في دمشق، لكن يمكننا الحديث عن هدف عام يريده نتنياهو في سوريا، وهو تدمير البنى التحتية للقوى العسكرية السورية، إذ إن النظام السابق كان مضموناً بالنسبة إليها وسلاحه موجه فقط ضد شعبه، ولن يدخل في أية مواجهات معها، لكن خروجه من الحكم جعلها تدمر القوى العسكرية بصورة شبه كاملة”. وتابع، “أما التوغل الإسرائيلي على الأرض فهو للتفاوض مستقبلاً، أو لخلق مساحة كبيرة خالية من السلاح ومن أي وجود عسكري، وجعل هذه المنطقة عازلة فعلياً، ويحصل لاحقاً انسحاب جزئي منها عندما تكون هناك مفاوضات، وعندما يقدم لإسرائيل مقابل عن هذا الانسحاب”.

بعث الشرع برسالة مبكرة إلى إسرائيل بعدم رغبة إدارته في الصدام معها
هذا الرأي يتطابق جزئياً مع تقرير نشرته صحيفة “إسرائيل هيوم” في الثالث من مارس (آذار) الجاري تقول فيه إن “إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة لبقاء سوريا ضعيفة ومفككة، في حين حذرت الولايات المتحدة من ازدياد النفوذ التركي في هذا البلد بعد سقوط نظام الأسد، ولدى حكومة نتنياهو مخاوف من السلطة الجديدة في دمشق، المدعومة من أنقرة لأنها قد تشكل تهديداً للحدود الشمالية”.
وأوضح التقرير أنه “مع تدهور العلاقات بين إسرائيل وتركيا بسبب حرب غزة تزداد مخاوف نتنياهو من تأثير الأتراك في القيادة الجديدة بسوريا، وتطلب تل أبيب من واشنطن الضغط على أنقرة لمنع تشكيل تنظيمات معادية لإسرائيل في سوريا مثل (حماس) وغيرها، لذلك يجب ضمان بقاء سوريا في حال ضعف وتفكك”.
بديل إيجابي عن إيران
مصادر تركية قالت في تصريحات خاصة إن “الخلاف التركي – الإسرائيلي في سوريا لن يصل بأي صورة من الصور إلى الصدام العسكري”، مشيرة إلى أن “إسرائيل قد تتعاون مع تركيا لضمان ألا تشكل سوريا تهديداً لها. كما أن الوجود التركي في سوريا لا يقلق إسرائيل كالوجود الإيراني”.
وذكرت المصادر أن “إسرائيل وإيران في حال حرب وعداء مستمرة، أما العلاقات بين أنقرة وتل أبيب فهي ذات صورة أخرى، فهناك اعتراف متبادل بين البلدين وتمثيل دبلوماسي تاريخي، وتركيا محسوبة على الدول الغربية ذات العلاقات الإيجابية مع إسرائيل”.
وأوضحت المصادر أنه “بالنسبة إلى الانتقادات شديدة اللهجة التي وجهتها تركيا لإسرائيل بسبب حرب غزة، فإن مثل هذه الانتقادات صدرت أيضاً في مجلس الأمن الدولي، وعلى لسان عدد من كبار المسؤولين الأوروبيين، وحتى بعض الأميركيين، لكن يبقى النفوذ التركي في سوريا أكثر طمأنة لإسرائيل من غيره لأن الحوار بين أنقرة وتل أبيب ممكن، ولولا حرب القطاع لكانت علاقات البلدين حالياً في عصرها الذهبي”.
ومضت المصادر في حديثها، “قبل أسابيع قليلة من بدء حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونتنياهو في نيويورك، وكان هناك برنامج لأردوغان لزيارة إسرائيل، لكن أُلغي بسبب الحرب، بمعنى آخر يمكن القول إن حكومة نتنياهو قد تتعاون مع أنقرة في دعم استقرار سوريا”.
مقترح إسرائيلي لدعم سوريا
ينسجم هذا الرأي مع ورقة سياسية نشرها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في الرابع من مارس الجاري تقترح إنشاء آلية دولية لدعم الاستقرار في سوريا تمنع الاحتكاك العسكري في المستقبل بين البلدين.
المعهد التابع لجامعة تل أبيب يعد أحد أهم مخازن التفكير في إسرائيل، ويعتمد صناع القرار هناك على دراساته في كثير من القرارات الاستراتيجية التي يتخذونها.
وتضمنت “الورقة السياسية” أنه ينبغي “الدفع نحو آلية للتعاون مع دول عربية وقوى دولية تتضمن تحجيم الدور التركي النافذ في سوريا ويمنع الاحتكاك مع إسرائيل مع الإشادة بدور أنقرة والتعاون معها لضبط الأمن من دون أن يكون لها استئثار في سوريا الجديدة، وبهذه الآلية تُمنع إيران من استعادة نفوذها هناك”.
وبحسب الورقة فإنه ستكون هناك خطة دولية لإعادة إعمار سوريا بهدف استقرارها ومنعها من تهديد دول الجوار. وتقترح الورقة أن يشارك في هذه الخطة كل من “السعودية وقطر والإمارات ومصر والأردن وتركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والأمم المتحدة، وتكون بقيادة الولايات المتحدة”.
نشوة المنتصر
الباحث السوري محمد السكري عبر عن اعتقاده أن “إسرائيل لا تبحث عن أية طمأنة أو بوادر إيجابية من الحكومة السورية. إسرائيل هي فاعل إقليمي مركزي منتصر في الإقليم بعد صدمة أكتوبر، ولديها نشوة كبيرة، خصوصاً بعد كل المجازر التي ارتكبتها في غزة، وأيضاً الاغتيالات التي طاولت مستويات رفيعة في إيران، ثم حربها في لبنان وما فعلته بـ(حزب الله) من تفجيرات البيجر وغيره، ثم إسقاط نظام الأسد، وكل هذه هزائم متتالية لحقت بـ(محور المقاومة)، لذلك تبدو إسرائيل منتشية من حيث الانتصار، وهي اليوم ببساطة تريد استخدام هذا الانتشاء بالزمان والمكان اللذين تريدهما”.

قوات إسرائيلية متوغلة في الجنوب السوري
وأوضح السكري، “لهذا لا تبحث إسرائيل عن ضمانات، سواء أمنية أو سياسية أو غيرها من الحكومة السورية، بل تريد أن تبقى سوريا غير مستقرة، بحيث تفعل كل ما تريد في الداخل والدخول والخروج إلى ومن الأراضي السورية متى تشاء، ومن جانب آخر هناك هاجس إسرائيلي من إعادة بناء السلطة السورية الجديدة، وتشكيل تحالفات جديدة في المنطقة تؤدي إلى انهيار التحالفات التقليدية، وهذا ما سيضع الإقليم أمام توازنات جديدة”. ومضى في شرحه بالقول، “على سبيل المثال يمكننا ذكر ما لمحت إليه كل من الحكومتين السورية والتركية من إمكان توقيع اتفاق دفاعي مشترك. هنا لا نتحدث عن تحالف سوري إيراني أو روسي، وإنما سوري – تركي، وهذا النوع من التحالف (بين دمشق وأنقرة) بهذه الصورة غائب منذ نحو 100 عام، بالتالي فإن عودة مثل هذا التحالف الإقليمي الذي يتسم بأبعاد ثقافية وجيوسياسية ومصيرية، بكل تأكيد يشكل هاجساً كبيراً لدى إسرائيل في التعاطي مع صورة السلطة السورية الجديدة”. وتابع، “التحالف السوري التركي له أثره المباشر في إسرائيل، إذ إن دمشق بهذه الحال تصبح حليفة لأنقرة العضو في (الناتو)، والتي تعد واحدة من أهم دول الإقليم مثلها في ذلك مثل السعودية”. وذكر أنه “لمواجهة النفوذ التركي تحاول إسرائيل إعادة النظر في العلاقات السورية – الروسية، وتريد عودة موسكو إلى المنطقة الجنوبية في الأقل لضمان ألا يكون هناك تهديد في المستقبل البعيد لإسرائيل من هذه الجبهة أو حتى من قبل تركيا، ولفعل كل هذا تعمل تل أبيب على استخدام جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكارت الطائفي، والهدف الأساس تعزيز حال اللااستقرار في سوريا”.
أقلية داخل أقلية
أحد أبناء الطائفة الدرزية في الجنوب السوري فضل عدم الكشف عن اسمه لحساسية الموضوع قال إن “دروز سوريا يدركون أن إسرائيل ليست حريصة عليهم بالصورة التي تُدَّعى، وليس هناك مؤهلات قانونية لها للتدخل في سوريا بحجة حماية الأقليات، لذلك تستخدم ورقة الأقليات لتحقيق أهداف أخرى”.
أما بالنسبة إلى التجاوب مع دعوات إسرائيل فإن المجتمع الدرزي شهد نوعاً من الانقسام في الرأي بخصوص التعامل معها، فالغالبية العظمى ترفض أي تدخل من هذا النوع في شؤونهم، وترفض الحديث عن التقسيم، بل حتى فكرة الفيدرالية، لكن هناك أقلية ضمن الأقلية الدرزية تتجاوب مع دعوات حكومة نتنياهو، وتصدق ما تسمعه من تصريحات إعلامية تدَّعي أن من دمر غزة حريص على حماية الدروز في سوريا.
تغذية الكيانات العرقية والدينية
أما الباحث في مركز “أبعاد” للدراسات فراس فحام فأكد أنه “باختصار إسرائيل لا تريد أن تتأسس هياكل دولة قوية في سوريا لأن لديها تخوفات من عودة السلطة إلى الشعب السوري وهو بغالبيته عربي، ولديه موقف داعم لفلسطين، ولذا تريد تغذية كيانات عرقية ودينية تقوض سلطة الدولة، إضافة إلى أنها رافضة تأسيس جيش قوي”.
وذكر فحام أن “العقيدة الأمنية الإسرائيلية تقوم على التحوط من التيارات القومية العربية والإسلامية، وتعدهما تهديدين، وهي لديها مشكلة مع خلفيات الحكومة السورية الحالية، ولديها مشكلة مع التموضع السوري الجديد وكونها عقدة ربط بين الخليج العربي وتركيا، ويمكن أن تؤسس أرضية لتحالف عربي – تركي مهم لا يخدم مصالح إسرائيل، وكانت مرتاحة من هذا الهاجس في ظل سيطرة نظام أقلَّوي علاقاته متوترة من الخليج وأنقرة غالباً”.
بالمحصلة تبدو إسرائيل لديها مخاوف جدية من أن تشكل سوريا تهديداً، لكن هذا التهديد يكون على المدى البعيد وليس على المتوسط أو القريب، لأن دمشق حالياً منهكة خارجة من حرب تعد واحدة من أوحش حروب العصر الحديث، إلا أن غالب المؤشرات الصادرة من الإدارة السورية الجديدة تشير بوصلتها إلى أن المنهج الذي تريده هو العمل على الاقتصاد والتنمية، واستنساخ أجزاء من نماذج مختلفة مثل سنغافورة وماليزيا وتركيا والدول الخليجية الصاعدة، بحيث يتم التركيز على التنمية خلال العقدين المقبلين في أقل تقدير، وقد يكتب لهذه الخطة النجاح في حال وُجدت مباركة أميركية.