حرية ـ (9/3/2025)
ثمة مفارقة، قد نجدها في صفحات رواية ما، بين نشأة بطلها في بيئة وضيعة، وبين مآلات مصيره المجيد، هذا الحدث السردي يتوازى فطرياً مع زهرة اللوتس التي تنمو من قلب الوحل، وتطفو على سطح الماء في سمو وحسن، حتى اعتبارها زهرة المفارقات أيضاً. فالورود لها عالم سحري وغامض، يجعلها تتجاوز في وجودها كونها مجرد نباتات جميلة وهشة، كي تمضي نحو أفق شاسع، مرتحلة عبر التاريخ الإنساني الطويل، حاملة بين وريقاتها دلالات رمزية حول المعاني العاطفية والثقافية والفنية والسياسية أيضاً. فالوردة سواء كانت جزءاً من لوحة فنية، بيتاً شعرياً، أو هدية بسيطة، أو شعاراً في الحرب، فإنها تظل وسيلة تعبير تتجاوز الكلمات، كي تعكس مشاعر الإنسان في أكثر لحظاته عمقاً وصدقاً.
زهرة مقدسة
ارتبطت زهرة اللوتس بالحضارات القديمة، استخدمها الفراعنة في طقوسهم الدينية، فكانت تزين الولائم والمعابد، كما استخدمت الورود عند الإغريق والرومان كأكاليل توضع على رؤوس المنتصرين. وفي العصور الوسطى، أصبحت رمزاً دينياً وروحياً، وارتبطت بالقديسة مريم العذراء في المسيحية كما نرى في لوحات العصر القوطي، مثلاً لوحة الفنان الألماني ستيفن لوخنر “العذراء في حديقة الورد”، واتخذت بعض الدول الأوروبية الوردة شعاراً لها، كما حدث في “حرب الوردتين” بين أسرتي يورك ولانكاستر في إنجلترا عام 1455، فقد كان شعار لانكستر وردة حمراء، بينما كان شعار آل يورك وردة بيضاء.

كتاب منى أبو النصر
وفي الإبداع الفني والأدبي، لعبت الورود دوراً أساسياً. ففي اللوحات الفنية، استخدمها الرسامون للتعبير عن الجمال الزائل، كما نجدها في لوحات عصر النهضة التي جسدت الوردة كرمز للترف والفناء. أما في الأدب، فقد كانت الوردة حاضرة بقوة، من قصائد الشاعر الفارسي عمر الخيام إلى أعمال شكسبير، حيث جسدت معاني الحب والشوق، لكنها في بعض الأحيان كانت رمزاً للحزن والوداع، والنقاء والانحطاط، كما في قصيدة بودلير “أزهار الشر”، فالعنوان نفسه يشي بأن الجمال قد ينبت وسط الفساد، وأن الفن يمكن أن يزدهر وسط التجربة الإنسانية الأكثر ظلاماً وقسوة.
لقد رسخ مرور الزمن، واقع بقاء الورود كجزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، يحمل دلالات يمكن اعتبارها لغة بحد ذاتها، إذ يعبر كل لون عن معنى مختلف: الأحمر للحب والعاطفة، الأبيض للنقاء، الأصفر للصداقة والغيرة أحياناً، بينما يرمز الأسود إلى الفقدان والحداد. هذه الرمزية لم تقتصر على الاستخدام الشخصي، بل دخلت في مجالات مثل السينما والموسيقى، إذ أصبحت الورود عنصراً بصرياً قوياً يستخدم لنقل الأحاسيس والمشاهد الدرامية، يكفي أن نتأمل في عناوين الأعمال الأدبية والفنية، التي تحمل كلمة “وردة” في عنوانها، كي ندرك مدى حضور هذه الكائنات البديعة في عالمنا الواقعي والمتخيل.
سحر الوردة
في كتابها “الحالة السردية للوردة المسحورة”، الصادر عن دار الشروق، تقدم الكاتبة منى أبو النصر، رؤيتها الإبداعية لحضور الورد في الفن والأدب، مؤكدة أن الوردة كثيراً ما ظلت جسراً بين الطبيعة والإنسان، تحمل في بتلاتها قصصاً من الحب والجمال والتاريخ، والألم كي تذكرنا دائماً بأن الجمال الحقيقي، على رغم زواله الظاهري، يبقى خالداً بين صفحات عمل أدبي فذ، وفي لحن موسيقي، وفيلم مؤثر.
يمضي هذا الكتاب عبر 14 فصلاً في رحلة استثنائية، مستندًا إلى أكثر من 100 عمل فني، ليكشف عن أثر الوردة من زاوية غير مألوفة، إذ تمتزج الفنون المتنوعة مع النصوص الأدبية والمشاهد البصرية، لتشكل نسيجاً معرفياً كاشفاً للمعاني والدلالات. تتبع الكاتبة ظهور الوردة ككائن ينبض بالحياة، يختزن أسراراً تتجاوز شكلها المرئي، كي تروي حكايتها الخاصة بلغة الصمت والعطر واللون، بوصفها كائناً سردياً يحمل في طياته فلسفات متشابكة ورؤى درامية متداخلة.

كتاب الشاعر الألماني ريلكه عن الورد
ننتقل من فصل إلى آخر في رحلة تأملية تتقاطع فيها الأسطورة مع الأدب، نجد الوردة متجذرة في الميثولوجيا اليونانية، متوهجة في قصائد محمود درويش، متشابكة مع حكايات نجيب محفوظ وماركيز، أو حاضرة في دروب محمد المنسي قنديل في “قمر على سمرقند”. نلمحها أيضاً في عالم المسرح، تتمايل في باليه “جيزيل”، ثم نراها تتحول إلى رمز للدهشة في “أليس في بلاد العجائب”، وإلى زهرة نادرة في ملحمة “هوميروس”، قبل أن تتراءى لنا من بين سطور “الأمير الصغير” ككائن شديد الفرادة، يحمل أسرار الكون في بتلاته.
تتبع الوردة في الأدب، يتقاطع فيه السحر والغموض، في أعمال شكسبير، تظهر الوردة كرمز للحب، وأخرى كإشارة إلى الفناء، وثالثة كدليل على الصراع بين العوالم والأقدار. لنقرأ: “لا يتوقف انشغال الفن بالأزهار كهيئة وبنية شكلية وشخصية وحسب، بل انطلق منها كفكرة فلسفية تنطوي على كل شيء في ذاتها، الدلالة واللغز، كما كان يراها أمبرتو إيكو، الذي سئل مراراً عن سبب اختياره عنوان اسم الوردة لروايته الأشهر. يقول إيكو إن هذا العنوان جاءه صدفة، وعرف الوردة بأنها إحدى الصور المترعة بدلالات كثيرة، إلا أنها قد تؤول في نهاية المطاف، إلى عدم الإحالة كليا أو تقريبياً، على أية دلالة من تلك الدلالات جميعها”.
في “بؤساء” فيكتور هيغو أدركت إيبونين، في لحظة حاسمة، أنها تقف على أعتاب الحياة والموت، شعرت بوهج الحب ينساب في أنفاسها الأخيرة، كأنما الأمل الذي قادها يوماً على دروب المستحيل لم يتركها إلا بعدما نثر عليها عبقه الأخير. همست باسم ماريوس، فكان ذلك الوعد الأخير الذي حملته الرياح إلى العدم، بينما بقيت الوردة شاهدة على رحلتها نحو الأبدية. لم يكن لها من الدنيا سوى ذلك الهمس، وتلك الزهرة التي سقطت.
في تقلبات الحياة وبؤسها، تجلت الوردة رمزاً يعبر العصور، بين أفراح تذبل سريعاً وأحزان تورق بلا نهاية. حين حملت الطفلة “هولابا” وردة صغيرة إلى دار النساء في فيلم “أوراق متساقطة”، لم تكن مجرد زينة توضع على طاولة طعام شحيحة، بل كانت إشارة إلى لحظة نادرة من الأمل، وقطرة لون تضيء ظلمة الحياة الرمادية.
وردة أخرى، متوارية في جيب رجل متعب على رصيف محطة القطار في فيلم “هوجو”، تحكي قصة انتظار بلا نهاية. هي زهرة صغيرة، لكنها تحمل بين وريقاتها ثقل الذكريات ورائحة الحنين، واللقاءات التي لن تحدث.
الأنوثة والورد
لقد ارتبطت الوردة دوماً بما هو أنثوي، فهي مزيج من الرقة والغموض الجارح، من الجمال الذي يأسر، والقوة المختبئة بين أشواكها. ومنذ أزمنة بعيدة، تغنى الشعراء بالورد. كتبت الشاعرة إميلي ديكنسون، المعروفة بين أصدقائها كونها بستانية أكثر مما هي شاعرة، عن شدة ولعها بالنرجس والزهور الياقوتية والروز، كما درست علم النبات في أكاديمية أمهرست، ولها قصيدة بعنوان “زهرة مايو”، وهو الشهر نفسه الذي غادرت فيه ديكنسون الحياة. أما فريدا كاهلو، فكانت تقول: “أرسم الزهور، كي لا تموت”، وذلك رداً على تساؤل مكرر حول الزهور التي تتكرر في لوحاتها، ومن المعروف أنها خلقت خيطاً مشتركاً يجمع بين النباتات والزهور والفاكهة، مما أضفى بعداً سريالياً في لوحاتها. وبين اللوحة واللحن، تنساب موسيقى باليه “جيزيل” في تعبير كلاسيكي راقص، كي يحكي قصة حب جيزيل للأمير الذي تخلى عنها من أجل أخرى، فتموت في ريعان شبابها، أما هو فيلحق بروحها المعذبة إلى قبرها، كي يضع لها زهور الزنبق.
تتوقف الكاتبة أمام إبداعات عربية، قصص وروايات، تشير إلى الورد، كما قصة الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبدالله: “أنا وهي وزهور العالم”، تصفها بأنها تنساب كقصيدة. هذا ينسجم أيضاً مع وصف الشاعرة فاطمة قنديل لغزل الكلمات في متن النص بأنه أقرب لنظم عقد من الفل، وعلى النقيض منها رولا بطلة رواية أمجد ناصر “هنا الوردة”، حين تقول للبطل: “شاعر ولا تفهم بالورد”.
دمعة أفروديت
أما فلسفياً، فإن الوردة في الأسطورة اليونانية القديمة هي الدمعة الأولى التي طفرت من عين أفروديت حزناً، اختلطت بالتراب فظهرت وردة بيضاء، لذا الوردة مخلوقة من جمال صاف. وفي الصوفية ترمز الوردة إلى تقلبات الحياة نفسها، فهي تنبثق، وتزهر، ثم تذبل، في دورة لا تنتهي، كأنها تلخص قصة الإنسان بكل ما فيها من لقاءات وفراق. إنها الشاهد الصامت على مرور الزمن، على الوعود التي لم تحفظ، والأحلام التي تساقطت كالأوراق في مهب الريح. لكنها، على رغم كل شيء، تظل زهرة، تمنح العالم فتنتها، واحتمالات الحب والجمال أو الفقد الغياب.
لعل ما يميز هذا الكتاب، تقديمه جرعة دسمة من عناوين الروايات والأفلام والمقطوعات الموسيقية والقصائد، عربية وغربية، تحتاج إلى توقف ومراجعة لها، بعضها معروف ومنتشر عالمياً، وجزء آخر تعيد الكاتبة اكتشافه وتقديمه للقارئ في تحليل دقيق وبارع، بغرض العثور على الصلة بين مضمون العمل الفني وعنوان الكتاب، أو كما تستدل المؤلفة بتعبير الشاعر فؤاد حداد “الفلة جنب الياسمينا”، حيث وردة تجاور أخرى، من دون أن نعرف إن كانت ستغدو عقداً أو سواراً أو بيت شعر في قصيدة.