حرية ـ (11/3/2025)
كفاية أولير
تتصاعد المخاوف من سيطرة الذكاء الاصطناعي (AI) على قطاع الأعمال، إذ تتسارع وتيرة تبني الشركات لهذه التقنيات لأتمتة العمليات وتحسين الكفاءة وخفض الكلف.
لكن هذا الأمر محل خلاف، ففي وقت يرى بعض أن الذكاء الاصطناعي يوفر فرصاً غير مسبوقة لتعزيز الإنتاجية وخلق نماذج أعمال جديدة يحذر آخرون من تأثيره في سوق العمل، واحتكار الشركات الكبرى لهذه التكنولوجيا وتعزيز الفجوة بين المؤسسات التي تمتلك القدرة على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وتلك التي لا تستطيع مواكبة التطور.
وتشمل المخاوف أيضاً احتمالية اتخاذ أنظمة الذكاء الاصطناعي قرارات استراتيجية قد تؤثر في استقرار الأسواق المالية وسلاسل التوريد، فضلاً عن تحديات متعلقة بالخصوصية والأمان السيبراني.
وفي ظل هذه التغيرات السريعة، يواجه قطاع الأعمال معضلة تحقيق التوازن بين الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي والحفاظ على السيطرة البشرية على عمليات صنع القرار، بما يضمن استدامة النمو من دون المخاطرة بتبعات غير متوقعة.
ومع تسارع اعتماد الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، تزداد المخاوف في شأن تأثيره في سوق العمل والمنافسة والخصوصية واتخاذ القرار، ولعل أبرز المخاوف المرتبطة بسيطرة الذكاء الاصطناعي على الأعمال تتمثل في:
فقدان الوظائف البشرية واستبدالها
ويمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة عدد من الوظائف مما يؤدي إلى تسريح الموظفين، خصوصاً في الوظائف التي تعتمد على المهام الروتينية أو التحليلية.
خلال العام الماضي، أعلنت شركات مثل “آي بي أم” و”أكسينتشيور” عن خططها لاستبدال الذكاء الاصطناعي بآلاف الوظائف، خصوصاً في مجالات خدمة العملاء والتحليل المالي.
زيادة الفجوة بين الشركات الكبرى والصغرى
يضاف إلى قائمة المخاوف اتساع الفجوة بين الشركات الكبرى والصغرى، إذ تهيمن الشركات الكبرى مثل “غوغل” و”أمازون” و”مايكروسوفت” و”ميتا” على تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يجعل من الصعب على الشركات الصغيرة المنافسة. وفرضت “أوبن أي آي” رسوماً مرتفعة على استخدام “تشات جي بي تي أي بي آي”، مما جعل الشركات الناشئة تواجه صعوبات في تبني التكنولوجيا السهولة نفسها التي تتمتع بها الشركات العملاقة.
هناك قلق آخر من تحيز الذكاء الاصطناعي واتخاذ قرارات غير عادلة، إذ إن أنظمة الذكاء الاصطناعي تعتمد على جمع كميات هائلة من البيانات، مما يثير مخاوف في شأن استخدام المعلومات الشخصية بطرق غير أخلاقية أو غير قانونية، ومثال على ذلك فرض الاتحاد الأوروبي غرامة على “ميتا” العام الماضي، بسبب انتهاكها لخصوصية المستخدمين من خلال أدوات الذكاء الاصطناعي التي تجمع بيانات من دون موافقة واضحة.
تهديد الخصوصية وسرية البيانات
وتعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على جمع كميات هائلة من البيانات، مما يثير مخاوف في شأن استخدام المعلومات الشخصية بطرق غير أخلاقية أو غير قانونية.
ويتنامى القلق من سيطرة الذكاء الاصطناعي على اتخاذ القرار في الشركات، فقد تعتمد الشركات بصورة مفرطة على الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات استراتيجية، مما يقلل من دور القادة البشر في تحليل العوامل غير الرقمية مثل الأخلاق والعلاقات الإنسانية، وبدأت بعض البنوك تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لمنح القروض مما أدى إلى قرارات غير عادلة نتيجة عدم مراعاة الظروف الفردية للعملاء.
ويرتفع القلق أيضاً من احتمالية زيادة الاحتكار وضعف المنافسة، فالشركات الكبرى التي تمتلك الذكاء الاصطناعي المتقدم يمكنها إغلاق السوق أمام المنافسين من خلال دمج هذه التقنيات في خدماتها الأساس، وهذا حدث عندما استخدمت “أمازون” الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المتاجر الصغيرة التي تبيع عبر منصتها، ثم تقدم منتجات منافسة بأسعار أقل، مما يؤدي إلى خروج هذه المتاجر من السوق.
الأخطار الأمنية والهجمات السيبرانية
وهناك أيضاً الأخطار الأمنية واستخدام الذكاء الاصطناعي في الهجمات السيبرانية، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين الهجمات السيبرانية، مما يزيد من خطر الاحتيال والاختراقات الأمنية.
وحذرت وكالات الأمن السيبراني من أن أدوات الذكاء الاصطناعي مثل “ديب فيك” و”تشات جي بي تي” قد تستخدم في حملات الاحتيال الإلكتروني.
تحديات أخلاقية
إلى ذلك، تطور بعض الشركات تقنيات ذكاء اصطناعي من دون رقابة كافية مما قد يؤدي إلى استخدامها بطرق غير أخلاقية، وتعرضت شركة “Clearview AI” لانتقادات واسعة بسبب استخدامها الذكاء الاصطناعي في التعرف على الوجوه وجمع بيانات من الإنترنت من دون موافقة أصحابها.
هناك أيضاً الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي وضعف المهارات البشرية، ويمكن أن يؤدي الاعتماد الكبير على الذكاء الاصطناعي إلى فقدان المهارات البشرية في بعض المجالات، مما يجعل الشركات والاقتصادات أكثر عرضة للأخطار عند حدوث أعطال تقنية.
واليوم بعض الأطباء باتوا يعتمدون بصورة كبيرة على أدوات تشخيص الأمراض بالذكاء الاصطناعي، مما أثار مخاوف من فقدان الخبرة البشرية في التشخيص الطبي.
الذكاء الاصطناعي يجتاح القطاعات الاقتصادية
وتستفيد صناعات مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من الذكاء الاصطناعي لتعزيز خدمة العملاء وتحسين العمليات، بينما يستخدم قطاع الرعاية الصحية حلول الذكاء الاصطناعي لتحسين رعاية المرضى وكفاءة العمليات الإدارية. ويشهد قطاع التجزئة تحولاً مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تعزز إدارة سلسلة الإمدادات وتجربة التسوق الشخصية، وتبنى قطاع التصنيع تقنيات الذكاء الاصطناعي للصيانة التنبؤية وضبط الجودة، مما يسهم في زيادة كبيرة في الإنتاجية.
وفي الوقت ذاته، تعتمد قطاعات البنوك والمالية بصورة متزايدة على الذكاء الاصطناعي لتعزيز الأمان وأتمتة التداول، وتحسين التفاعل مع العملاء.
ويبرز تعدد التطبيقات عبر هذه الصناعات الإمكانات الكبيرة في سوق الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل العالمية مع سعي الشركات نحو حلول مبتكرة للبقاء في المنافسة.
واليوم أصبح الذكاء الاصطناعي عاملاً حاسماً في تطوير مختلف القطاعات، مما يساعد الشركات على تحقيق كفاءة أكبر وتحسين تجربة العملاء وخفض الكلف، ومع استمرار تطور هذه التكنولوجيا من المتوقع أن نشهد مزيداً من الابتكارات والتطبيقات التي ستعيد تشكيل مستقبل الأعمال عالمياً.
وطورت “أوبن أي آي” و”مايكروسوفت” نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل “تشات جي بي تي” لتحسين تجربة المستخدم وإنشاء المحتوى وأتمتة العمليات الإبداعية، بينما أطلقت شركة صينية أخيراً تطبيق “ديب سيك” وهو أداة ذكاء اصطناعي توليدي مشابهة لـ”تشات جي بي تي” و”غيميني”، مدربة على كميات كبيرة من المعلومات، مما يهدد بإشعال حرب ذكاء اصطناعي بين الولايات المتحدة والصين.
ويبدو أن الذكاء الاصطناعي يعيد كتابة قواعد النمو للشركات، فقد خلقت التطورات التكنولوجية السريعة والعولمة وتوقعات المستهلكين المتغيرة تحديات غير مسبوقة، وفرصاً خلال الوقت نفسه للشركات التي تسعى إلى النمو المستدام.
وليس سراً أن الشركات الكبرى تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحقيق التقدم، لكن عدداً من الشركات الصغيرة أيضاً تجد طرقاً للاستفادة من هذه التكنولوجيا، إذ أظهر استطلاع حديث أجرته “أميركان إكسبريس” أن مالكي الشركات الصغيرة الذين يعتمدون الذكاء الاصطناعي يشعرون بأنهم في وضع أفضل للنمو والتوسع، إذ تخطط 50 في المئة من الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتوسيع قوتها العاملة عام 2025، مقارنة بـ36 في المئة من الشركات التي لا تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
في حين تتطلب الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي نهجاً استراتيجياً متكاملاً، إذ لا يكون الهدف مجرد خفض الكلف فحسب بل تحقيق نمو مستدام أيضاً، فالمفتاح يكمن في تحديد حالات الاستخدام التي تتماشى مع الأهداف الاستراتيجية للشركات، مع بناء ثقافة داخلية تدعم تبني الذكاء الاصطناعي، لذا فإن الجمع بين الكفاءة في الكلف والطموحات التوسعية هو ما سيحدد نجاح الشركات في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحقيق مكاسب فورية ونتائج طويلة الأجل.
ويقول الشريك الأعلى في شركة “سيمون كوتشر” أوننو أولديمان إلى صحيفة “وول ستريت جورنال”، إن “المبادئ الأساس لم تتغير وإن النمو كان دائماً يتعلق بتوسيع الأساس وبناء الفرص المجاورة والدخول في نماذج أعمال جديدة”، مستدركاً “لكن وتيرة التغيير أصبحت مختلفة بصورة جذرية”، مشيراً إلى أن تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والأدوات التوليدية من الجداول الزمنية سرعت الانتقال الزمني من أعوام إلى أشهر.
ومن جانبه، أوضح أستاذ الاستراتيجية والتسويق في كلية “أي أم دي” للأعمال ستيفان ميشيل أهمية توافق استثمارات الذكاء الاصطناعي مع الأهداف الاستراتيجية للشركات، قائلاً “يجب على الشركات تحديد ما تهدف إلى تحقيقه من الذكاء الاصطناعي، ليس فحسب من الناحية المالية بل من حيث القدرات والمزايا طويلة الأمد، فالتركيز فحسب على المقاييس قصيرة الأمد قد يؤدي إلى تقليل الاستثمارات في التقنيات التحويلية”.
مبادرات توفير الكلف
ويؤكد الشريك في “سيمون كوشر” خوسيه فون روث أن الشركات التي تحقق ميزة تنافسية هي تلك التي تستخدم مبادرات توفير الكلف كنقطة انطلاق لدفع النمو.
ويرى روث أن الذكاء الاصطناعي يسرع دورات اتخاذ القرارات ويسمح للشركات بالتكيف مع التغيرات السوقية في الوقت الفعلي، وسواء كان ذلك في تحسين الكلف أو توسيع مصادر الإيرادات الجديدة، فإن تعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي هو أكبر أصوله.
من جانبها، ترى أستاذة الاقتصاد في كلية “إنسياد” للأعمال ماريا غوادالوبي أن “دور العولمة كان محورياً في تحويل المشهد الاقتصادي، إذ خلقت ضغوطاً تنافسية شديدة ودفعت الشركات إلى تبسيط هياكلها التنظيمية، وتمكين الفرق المحلية وتغيير طرق تعويض العمال لتحفيز الابتكار”.
وتشير إلى أن تأثير الذكاء الاصطناعي يتجاوز بكثير الأتمتة، فهو يجبر الشركات على إعادة التفكير في كيفية تفاعلها مع عملائها وتقديم القيمة من خلال وضع العميل في قلب استراتيجياتها. وقالت إن “الرقمنة تمكن الشركات من تقديم حلول مخصصة من خلال فهم الحاجات الفردية”، مستدركة “لكن عدم اليقين حول كيفية استخدام هذه التقنيات بأفضل طريقة يشكل تحدياً”.
من جانبه، قال الرئيس التنفيذي المشارك في شركة “سايمون كوتشر” غونار كلاوسن “العملاء يتغيرون، والشركات التي تفشل في التكيف تجد نفسها متأخرة وشاهدت هذا بنفسي، فالشركات التي تجاهلت اتجاهات الحجز الرقمي أو التسوق عبر الإنترنت أصبحت الآن غير موجودة”.
من المؤكد أن سيطرة الذكاء الاصطناعي على قطاع الأعمال يثير مخاوف متعددة، بدءاً من فقدان الوظائف وزيادة الاحتكار والتحيز، ووصولاً إلى تهديدات الخصوصية والأمن السيبراني.
وعلى رغم الفوائد الكبيرة تحتاج الشركات والحكومات إلى وضع سياسات تنظيمية قوية، لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بصورة مسؤولة وعادلة.