حرية ـ (11/3/2025)
سوسن مهنا
تتسارع الأحداث في سوريا بصورة دراماتيكية، مما ينبئ بأن القادم ليس سهلاً، بل وخطر، وقد يعكس تحولات جوهرية في المشهد السياسي والعسكري.
وكانت الإدارة السورية في دمشق أعلنت عن اشتباكات استهدفت قواتها في مناطق عدة بالساحل السوري ليلة الخميس الماضي السادس من مارس (آذار) الجاري، وأنها كانت معدة مسبقاً و”منسقة”، وهو ما يتقاطع مع التشكيل الذي ظهر وأعلن عنه فجأةً تحت اسم “المجلس العسكري لتحرير سوريا”.
وأسفرت الاشتباكات عن مقتل أكثر من 30 عنصراً من قوات الأمن العام السورية، مما دفع وزارة الدفاع في حكومة دمشق الانتقالية للزج بتعزيزات كبيرة إلى ثلاث مدن ساحلية هي طرطوس واللاذقية وبانياس. ومع وصول التعزيزات إلى المدن الثلاث أعلنت قوات الإدارة السورية الجديدة أنها بدأت عمليات تمشيط في قرى وبلدات ساحلية، وتوجهت لكسر السيطرة التي تحاول أن تفرضها على ما سمته “فلول نظام الأسد” في منطقة جبلة (محافظة اللاذقية).
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية في تقرير لها يوم الثامن من مارس عن الباحث في مؤسسة “سنتشوري إنترناشيونال” آرون لوند قوله إن الأحداث تظهر “هشاشة الحكومة” التي لا تملك للتعامل مع المسلحين العلويين “إلا سلطة القمع، لذا عندما تقع هجمات تنطلق هذه الجماعات لتجوب القرى العلوية، لكن تلك القرى مليئة بالمدنيين الضعفاء وبالعسكريين السابقين المسلحين، مما يجعلها أشبه بقنبلة موقوتة”.
وفي أول تعليق له قال رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع إن الحكومة ستلاحق فلول النظام وستقدمهم للمحاكمة، مضيفاً “سيحاسب حساباً شديداً كل من يتجاوز على المدنيين العزل”. وتابع، “سنبقى نلاحق فلول النظام السابق. سنقدمهم إلى محكمة عادلة. ولن يبقى سلاح منفلت في سوريا”.
وبحسب تقرير الوكالة الفرنسية فإن الشرع ومنذ وصوله إلى السلطة وجه رسائل طمأنة إلى الأقليات على وقع مطالبته من المجتمع الدولي بإشراك المكونات كافة في إدارة المرحلة الانتقالية، وطالب قواته بضبط النفس، محذراً من الطائفية، لكن ذلك لم يجد على الأرجح صدى لدى مختلف الفصائل التي تعمل بإمرته، والتي تشكل حالياً وفقاً للباحث آرون لوند “جيش سوريا وشرطتها”.
ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 162 مدنياً بينهم نساء وأطفال في خمس مجازر مروعة ارتكبت في مناطق متفرقة من الساحل السوري.
عودة “الفرقة الرابعة”
في الأيام الماضية، انتشر فيديوهات وتسجيلات لما يسمى “الفلول” وثقت إمساكهم بأسلحة ثقيلة وتوزعهم في مناطق جبلة غرب سوريا. وتحت اسم “المجلس العسكري لتحرير سوريا” انتشر بيان أشار إلى أن تشكيل “المجلس” يهدف إلى تحقيق أهداف عدة، من بينها “تحرير كامل التراب السوري من جميع القوى المحتلة والإرهابية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية وديمقراطية، وإسقاط النظام القائم وتفكيك أجهزته الطائفية القمعية”.
وجاء البيان بتوقيع القيادي السابق في “الفرقة الرابعة” غياث دلا، وهو الذي اختفى بعد سقوط نظام الأسد إلى جانب العشرات من القادة الكبار (أمنيين وعسكريين)، وفقاً لتقارير إعلامية سورية.
يذكر أن العميد غياث دلا كان من أبرز ضباط “الفرقة الرابعة” المدرعة التي كانت تحت قيادة ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام السوري البائد، وكان لقب دلا سابقاً بـ”أسد الغوطتين”.
من جهته دعا شيخ طائفة الموحدين الدروز في سوريا حكمت الهجري، إلى وقف العمليات العسكرية في الساحل السوري، معرباً عن رفضه لما سماه “القتل الممنهج”، ومطالباً في بيان، “بوقف إطلاق النار، ووقف الاقتتال”. كما دعا “القيادات المتخصصة، وكل الجهات المحلية والدولية والأمم المتحدة لأخذ دورها بفض الاشتباكات ووقف القتل والموت ونشر السلام بصورة فورية وعاجلة”.

تظاهرة داعمة للوحدة السورية في محافظة السويداء
وقال الهجري، “الساحل السوري يشتعل. نرفض هذا القتل الممنهج. ونطالب بوقف فوري لهذه العمليات العسكرية غير المبررة على المدنيين الأبرياء، والتي لا تجلب إلا مزيداً من الدماء والاحتقان”، مناشداً “الجميع الاحتكام إلى القانون والأصول الدينية التي تمنع قتل الأبرياء والمدنيين”، ومشيراً إلى أن “المذنب يحاسب تحت مظلة القانون والقضاء والعدل، بعيداً من لغة العنف والانتقام”.
وأضاف بيان الشيخ الهجري، “نضع المسؤولية أمام الدول الضامنة لكل الأطراف أن تتخذ إجراءاتها الفورية وبكل الوسائل لوقف هذه المأساة فوراً ومن دون تردد أو ازدواجية في المعايير”، راجياً من العقلاء وكل الأطراف التدخل لحقن الدماء فوراً وتجنب انزلاق البلاد إلى هاوية لا تحمد عقباها.
في السياق تعرض منزل الشيخ سليمان عبدالباقي قائد تجمع “أحرار جبل العرب” في مدينة السويداء لهجوم بقذيفة صاروخية، تبعها إطلاق نار كثيف من داخل المنزل وبعض المنازل المحيطة باتجاه مصدر إطلاق القذيفة، وذلك وفقاً لموقع “السويداء 24”. وبحسب المعلومات الأولية فقد تسبب الهجوم في إصابتين طفيفتين داخله، إضافة إلى أضرار مادية.
وكان عبدالباقي أكد رفضه التام لأي تدخل خارجي في شؤون المحافظة، مشدداً على تمسكه بـ”الهوية السورية”، رداً على تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي أعلن فيها أنه “لن يسمح لقوات هيئة تحرير الشام، أو الجيش السوري بدخول الأراضي السورية الواقعة جنوب دمشق”، مؤكداً أن “إسرائيل لن تتوانى عن حماية دروز السويداء من أي تهديد”.
أيضاً اندلعت اشتباكات في مدينة جرمانا ذات الغالبية الدرزية، والواقعة في الضاحية الجنوبية للعاصمة السورية دمشق، بين قوات الأمن السوري ومسلحين محليين دروز. ووفقاً للوكالة السورية الرسمية للإعلام (سانا) دخلت قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة جرمانا الأحد لملاحقة “مجموعات خارجة عن القانون امتهنت عمليات الخطف والقتل والسطو بقوة السلاح”، وفقاً للبيان الذي نقلته الوكالة عن مديرية أمن ريف دمشق.
وتعليقاً على أحداث جرمانا قال الرئيس السابق للحزب “التقدمي الاشتراكي” في لبنان وليد جنبلاط، إنه سيزور سوريا مجدداً بعدما طلب موعداً للقاء رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع. وتابع خلال مؤتمر صحافي أن إسرائيل تريد استخدام الطوائف لمصلحتها وتفتيت المنطقة، مؤكداً أن “الذين وحدوا سوريا أيام سلطان باشا الأطرش لن يستجيبوا لدعوات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو”.
انقسامات في السويداء
وتشهد محافظة السويداء الدرزية انقساماً سياسياً يتمحور حول شخصيتين بارزتين، هما الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، والشيخ يحيى الحجار، قائد حركة “رجال الكرامة”، حول موقفهما من الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024. ولا تزال الأطراف المحلية في السويداء تراوح ما بين الجدل السياسي والتعبير الميداني عن مواقفها. ففي حين يظهر الحجار ميلاً نحو التقارب مع دمشق، لا يزال الهجري متمسكاً بتحفظاته تجاه العلاقة مع النظام مما يعزز مكانته بين أنصاره داخل المحافظة وخارجها.
وكشف مصدر مقرب من الشيخ الهجري في حديث إعلامي عن أنه عبر عن رفضه دخول سيارات تابعة للأمن العام إلى السويداء في وقت سابق من هذا الأسبوع، بينما رحبت حركة “رجال الكرامة” التي تعد أكبر الفصائل المسلحة في المحافظة بهذه الخطوة وقدمت كل التسهيلات اللوجيستية اللازمة لتنفيذها. وفي حين أوضح الهجري مراراً موقفه الوطني السوري العام الرافض لأي حديث عن الانفصال، وإن أشار إلى أن تسليم السلاح ممكن بعد تأسيس الدولة وتثبيت أركانها ضمن رؤية سورية جامعة، أكد الحجار إنهاء المظاهر المسلحة في السويداء ودعم الحكومة السورية في دمشق واستعداد “الحركة” للاندماج ضمن جسم عسكري يكون نواة لجيش وطني جديد، رافضاً أي جيش فئوي أو طائفي.

لقاء بين نتنياهو والشيخ موفق طريف
يذكر أن محافظة السويداء تضم ثلاثة شيوخ عقل يمثلون الزعامة الدينية للدروز في سوريا، أبرزهم الشيخ حكمت الهجري. وقد لعبت هذه المرجعيات الدينية دوراً مهماً في تحديد مواقف الطائفة من التطورات السياسية والأمنية في البلاد.
وكثيراً ما شكل الدروز في الجنوب السوري جزءاً أساساً من النسيج الاجتماعي والسياسي للمنطقة، مستفيدين من موقعهم الجغرافي وتركيبتهم المجتمعية للحفاظ على قدر من الاستقلالية السياسية. مع ذلك فإن التطورات الأخيرة في سوريا أثارت مخاوف جديدة لدى الطائفة الدرزية عموماً، حيث يجد الدروز أنفسهم أمام معادلة معقدة بين الضغوط التي تمارسها القوى الإقليمية، والمساعي الإسرائيلية لإنشاء منطقة آمنة، والتغيرات في ميزان القوى داخل سوريا. وفي ظل واقع يزداد تعقيداً وتشابكاً يواجه الدروز كأقلية في المنطقة تحديات عديدة على المستويات الأمنية والاجتماعية والسياسية.
الطائفة ومعضلتها التاريخية
شكلت الطائفة الدرزية نموذجاً فريداً في التركيبة السياسية والاجتماعية للشرق الأوسط. فهي طائفة دينية أقلوية تتميز بهويتها المغلقة، وتاريخها المعقد الذي شهد تنقلات بين الاندماج في الدول التي تعيش فيها، والانعزال لضمان بقائها في ظل الأخطار التي تهدد الأقليات. اليوم، ومع التحولات الإقليمية الكبرى التي تشهدها المنطقة تجد الطائفة الدرزية نفسها أمام معضلة جديدة، لكنها امتداد لمسار تاريخي طويل، فكيف تحافظ على وجودها وهويتها في ظل إعادة رسم الخرائط السياسية والعسكرية؟
تمكنت الطائفة الدرزية عبر التاريخ من الحفاظ على خصوصيتها واستمراريتها على رغم العواصف السياسية التي ضربت المنطقة. وقد اعتمدت في بقائها على استراتيجيتين رئيستين هما التحالف مع القوى الحاكمة في كل حقبة، مع احتفاظها بمسافة تضمن استقلالية الطائفة. على سبيل المثال، خلال الحكم العثماني حظي الدروز باستقلالية نسبية في جبل لبنان وجبل العرب، حيث كانوا قوة عسكرية لا يستهان بها. مع ذلك وككل أقلية فإن هذه الطائفة وفي سبيل الحفاظ على هويتها “تقوقعت”، وهو ما تجلى بوضوح في طبيعة التجمعات السكانية الدرزية التي غالباً ما سكنت المناطق الجبلية الوعرة، ما وفر لها دفاعاً طبيعياً ضد محاولات الإبادة أو السيطرة القسرية.
وعلى رغم هذه الاستراتيجيات، فإن الدروز لم يسلموا من استهداف القوى الإقليمية، كما حصل خلال المجازر التي استهدفتهم في القرن الـ19، أو الضغوط التي تعرضوا لها خلال مرحلة نشوء الدول الحديثة في المنطقة. وعلى رغم قلة عددهم نسبياً لعب زعماء الدروز عبر التاريخ أدواراً بارزة في السياسة والحروب والحياة الدينية، وكان لهم تأثير واسع في مجتمعاتهم وفي أحداث المنطقة.
التحديات المعاصرة للدروز
في ظل التغيرات الجيوسياسية الحالية تواجه الطائفة الدرزية تحديات متزايدة أبرزها التحولات في سوريا، فهل ما زال جبل العرب محصناً؟
في سوريا يشكل الموحدون الدروز نحو 3.2 في المئة من سكان سوريا، وتراوح أعدادهم بين 700 ألف و736 ألف نسمة، علماً أن بعض المراجع تتحدث عن أن عددهم يتخطى المليون. ويشكل الموحدون الدروز الغالبية السكانية في جبل العرب، أبرز معاقلهم السكانية في العالم، وهو جزء من محافظة السويداء، المحافظة الوحيدة في سوريا ذات الغالبية الدرزية. ويعيش معظم الدروز السوريين في جبل الدروز، ويتوزعون هناك على نحو 120 قرية.
ويعد جبل العرب في سوريا من آخر المعاقل الدرزية، ومن هذا الجبل خرج سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى التي اندلعت في سوريا ضد الاستعمار الفرنسي في الـ21 من يوليو (تموز) عام 1925. ويعد سلطان باشا رمزاً وطنياً سورياً وقومياً عربياً، وأحد أكثر الشخصيات تأثيراً في تاريخ الدروز وسوريا عموماً. وحظي بلقب “القائد العام للثورة” وتقدير السوريين كافة.
وطالما تمتع الدروز في تلك الفترة بقدر من الاستقلالية، لكن الحرب السورية زعزعت هذا الاستقرار. وعلى رغم أن الدروز لم يدخلوا بصورة مباشرة في الصراع السوري منذ عام 2011، فإنهم وجدوا أنفسهم بين مطرقة النظام السوري وسندان الفصائل المسلحة المختلفة. كما أن محاولات بعض القوى الإقليمية، مثل إسرائيل، استقطاب الدروز في الجنوب السوري ضمن مشروع “منطقة آمنة” تضعهم أمام معضلة الولاء السياسي والتوازنات الداخلية.
الدروز في لبنان
يبلغ عدد الدروز في لبنان وفقاً لبعض المراجع نحو 400 ألف يتوزعون بين حاصبيا الجنوبية وراشيا الوادي البقاعية، وفي عشرات قرى المتن والشوف كعالية وبعقلين والمختارة وبعض أحياء بيروت. وطالما كان للدروز في لبنان دور سياسي وعسكري بارز، بخاصة مع زعامات تقليدية مثل كمال جنبلاط السياسي والمفكر اللبناني الذي يعد قائداً تاريخياً للطائفة وعموم الحركة الوطنية اللبنانية في القرن الـ20. أسس الحزب “التقدمي الاشتراكي” عام 1949، وقاد جبهة اليسار خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1989). عرف بفكره الموسوعي ونزعته الإنسانية، وعلى رغم إرثه الإقطاعي تبنى الاشتراكية الديمقراطية ودافع عن قضايا التحرر العربي. وترك اغتياله على يد النظام السوري البائد عام 1977 فراغاً كبيراً في الساحة الدرزية واللبنانية، ولا يزال إرثه الفكري والسياسي حياً في وجدان اللبنانيين.
نجله وليد جنبلاط أبرز زعيم درزي لبناني في العصر الحالي، خلف أبيه في زعامة الدروز ورئاسة الحزب منذ عام 1977 وحتى تنحيه وتسليم الراية لنجله تيمور أخيراً. ويعد من أكثر الشخصيات نفوذاً في السياسة اللبنانية منذ عقود. عرف بتقلب تحالفاته للحفاظ على مصالح طائفته والتوازن الوطني، فكان “صانع الرؤساء” في محطات عديدة.
ومن الشخصيات الدرزية اللبنانية المهمة الأمير مجيد أرسلان (1908–1983)، وهو من أبرز الزعماء الدروز في مرحلة نشوء دولة لبنان الحديث. ترأس الأمير مجيد بيت أرسلان الإقطاعي الذي نافس آل جنبلاط على زعامة الدروز. ولعب دوراً محورياً في استقلال لبنان عام 1943، وكان من القيادات الوطنية التي وقفت ضد الانتداب الفرنسي. تبوَّأ مناصب وزارية مرموقة فكان وزيراً للدفاع لسنوات طويلة، وأسهم في تأسيس الجيش اللبناني وقاد متطوعين للدفاع عن فلسطين في حرب 1948. بقي لعقود ممثلاً للدروز في الحكومات اللبنانية، واشتهر بفروسيته وشجاعته السياسية. وورث زعامته نجله الأمير طلال أرسلان وشغل مناصب وزارية عدة.
لكن مع تصاعد نفوذ “حزب الله” في لبنان، وجد الدروز أنفسهم في وضع حساس بين الحفاظ على استقلالية قرارهم السياسي وعدم الدخول في مواجهة مع قوة إقليمية صاعدة. ومع اشتداد الصراع على الحدود الجنوبية يجد الدروز في مناطق مثل حاصبيا وراشيا أنفسهم أمام تهديدات متزايدة، بخاصة مع الحديث عن إمكان إقامة منطقة عازلة في الجنوب.
وفي حديث صحافي الشيخ فادي العطار، مستشار شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان سامي أبي المنى، قال إن موقف الدروز في لبنان موحد، ورأى في ادعاء إسرائيل حماية الدروز “ذريعة واهية لا تخدم سوى أطماعها التوسعية في سوريا”. وفي السياق كان الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط أعلن نيته الذهاب إلى دمشق، موضحاً أن الزيارة تأتي “لتأكيد مرجعية الشام، فالمشروع كبير، وسيجرون بعض ضعفاء النفوس إلى حروب أهلية، لست أدري كيف تنتهي؟”.
في فلسطين وإسرائيل
وتمتد جذور الدروز في فلسطين التاريخية إلى قرون خلت، إذ تنتشر قراهم في الجليل الأعلى وجبل الكرمل وهضبة الجولان. وعلى رغم أن دروز هذه المنطقة أصبحوا ضمن دولة إسرائيل بعد 1948، فإنهم حافظوا على تراثهم وزعاماتهم الخاصة. ويشكلون نسبة 7.6 في المئة من مجمل السكان العرب في إسرائيل، ووصلت أعدادهم في 2019 إلى نحو 143 ألف نسمة، أي 1.6 في المئة من السكان في إسرائيل.
برز في فلسطين قادة روحيون ودنيويون كان لهم تأثير في مجتمعهم وعلاقاتهم مع الدولة الجديدة. أبرزهم الشيخ أمين طريف (1898–1993)، وهو القاضي الروحي الأعلى (شيخ العقل) للدروز في فلسطين وإسرائيل طوال معظم القرن الـ20 (تولى المنصب منذ 1928 حتى وفاته)، تمتع بهالة قدسية ومكانة رفيعة لدى الدروز، حتى اعتبر مرجعهم الأعلى بلا منازع. وقاد الشيخ أمين طائفته خلال حقبة مفصلية شملت نهاية الانتداب البريطاني وقيام دولة إسرائيل، واستطاع بحكمته الحفاظ على حقوق الدروز الدينية واستقلالية أحوالهم الشخصية داخل إسرائيل. وسعى إلى علاقات متوازنة مع السلطات، وفي عهده أعفي الدروز من بعض القيود المفروضة على العرب عموماً، كما أقر اعتبار النبي شعيب (الخضر) عيداً دينياً رسمياً للدروز. بعد وفاته ورث حفيده الشيخ موفق طريف (1963) هذا الدور الروحي عام 1993، وما زال يمثل السلطة الدينية العليا للطائفة هناك.

الزعيم الدرزي كمال جنبلاط والرئيس المصري أنور السادات عام 1958
انتظم عديد من الدروز الفلسطينيين/ الإسرائيليين في الحياة السياسية والعسكرية للدولة الإسرائيلية منذ تأسيسها. وفي عام 2001 عين صالح طريف وزيراً من دون حقيبة في الحكومة الإسرائيلية، فكان أول وزير غير يهودي في تاريخ إسرائيل. كما تولى الدرزي مجلي وهبي عام 2007 منصب رئيس الدولة بالإنابة لفترة وجيزة أثناء غياب الرئيس الفعلي موشيه كتساف في عطلة، ليكون بذلك أول شخص غير يهودي يتولى (ولو موقتاً) رئاسة إسرائيل. هؤلاء وغيرهم مثل أيوب قرا وحمد عمار (أعضاء في الكنيست) أسهموا في دمج أبناء الطائفة بمؤسسات الدولة الإسرائيلية.
خدم آلاف الدروز العرب في صفوف الجيش والشرطة في إسرائيل، ووصل بعضهم إلى مراتب عليا. على سبيل المثال، كان يوسف مشلب جنرالاً وقائداً للجبهة الداخلية ومنسق أعمال الحكومة في المناطق سابقاً، وقاد غسان عليان لواء النخبة “غولاني” كأول غير يهودي يتولى قيادة هذا اللواء. كما يحضر الدروز في فلسطين في ميدان المصالحة بين العرب واليهود، إذ أسس بعض مشايخهم لجاناً للتواصل والحوار. ويبقى ولاء دروز إسرائيل موضع نقاش في السياق العربي الأوسع، لكن الأكيد أن زعاماًتهم لعبت دور الجسر بين هويتهم العربية الدرزية ومواطنتهم الإسرائيلية. من هنا يعيش الدروز في فلسطين وضعاً فريداً، مما خلق انقساماً داخلياً بين من يعدون أنفسهم جزءاً من الدولة العبرية ومن يرفضون هذا الواقع ويرون في التجنيد قسراً سياسياً. ومع تصاعد التوتر في غزة والضفة بدأت أصوات شبابية درزية تتعالى رفضاً للتجنيد، مما يعيد طرح تساؤلات جوهرية حول هوية الدروز داخل إسرائيل وعلاقتهم بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
أي مستقبل للدروز؟
في ظل هذا المشهد المتشابك يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمستقبل الدروز في المنطقة: الاندماج المشروط داخل الدول القومية، وهو المسار الذي يمكن أن تعززه القيادات الدرزية التقليدية، حيث يستمر الدروز في تقديم الولاء للأنظمة الحاكمة مقابل ضمان أمنهم وحقوقهم، كما هي الحال في لبنان وسوريا. أو التحول إلى فاعل سياسي مستقل، وقد يدفع الضغط الإقليمي بعض القيادات الدرزية إلى تبني نهج أكثر استقلالية، بخاصة في سوريا، إذ يمكن أن يسعى دروز السويداء إلى نوع من الحكم الذاتي على غرار الأكراد. ويبقى سيناريو التهميش التدريجي وزيادة الهجرة إذا ما استمرت الضغوط الأمنية والاقتصادية، فقد تتجه أعداد متزايدة من الدروز نحو الهجرة، بخاصة من لبنان وسوريا، مما سيؤدي إلى تراجع دورهم في المعادلات السياسية المستقبلية.
تمثل الطائفة الدرزية نموذجاً استثنائياً في المنطقة، حيث نجحت تاريخياً في الحفاظ على وجودها على رغم التحديات الجسيمة. لكن التحولات الإقليمية اليوم تضعها أمام اختبار جديد، إذ لم يعد من السهل البقاء على الحياد في ظل استقطابات حادة بين القوى الكبرى، والمشاريع التي تتحدث عن “شرق أوسط جديد”، والممر الإسرائيلي “كوريدور داوود”.
لذلك، سيعتمد مستقبل هذه الطائفة على مدى قدرتهم على إعادة التكيف مع المتغيرات، مع الحفاظ على توازنهم الدقيق بين الاندماج والانعزال. وفي المحصلة تبقى الطائفة الدرزية أمام خيارين أساسين، إما الاستمرار في سياسات التكيف التي ضمنت بقاءها لقرون، وإما البحث عن صيغ جديدة تضمن لها دوراً أكثر وضوحاً في مستقبل المنطقة.