حرية ـ (26/3/2025)
تدرّ تجارة النفايات غير المشروعة عبر الحدود أرباحًا تقدر بمليارات الدولارات، وتشكل تهديدًا لصحة الإنسان. ولذلك، تكافح البلدان، مثل سويسرا، من أجل مقاضاة الجماعات التي تقترف هذه الجريمة.
يُعتبر استبدال سيارة قديمة بموديل أحدث صفقة يومية معتادة في سويسرا. وقد يفترض الكثير أن السيارات التي لم تعد صالحة للسير على الطريق، سيكون مصيرها في ساحة خردة في سويسرا.
فلسويسرا، في نهاية المطاف، قواعد صارمة لإدارة النفايات. وتصنَّف المركبات التي هي في نهاية عمرها الافتراضي على أنها “نفايات خاضعة للرقابة”، ولا يُتعامل معها إلا من قبل شركات النفايات المرخَّصة. ويمكن تصدير هذه النفايات والتخلص منها، بعد الحصول على تصريح، إلى إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة أو داخل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، المجموعة المتكونة من 38 دولة (معظمها غنية).
ومع ذلك، يتلقّى المكتب الفدرالي للبيئة (FOEN) كل عام، ما بين 150 و300 تقرير عن صادرات نفايات غير قانونية تكتشفها فرق الجمارك. وتتّصل معظم هذه التقارير بمركبات مستعملة، تليها الإطارات المستعملة والإلكترونيات المستنفذة الأغراض، وتُوجَّه إلى بلدان أوروبية أخرى أو إلى بلدان أفريقية.
لكن الأمر لا يقتصر على الفضاء الاوروبي، والنفايات لا تتوقف على السيارات المستعملة. ففي السنوات القليلة الماضية هزّت فضيحة تحويل كميات كبيرة من النفايات الإيطالية إلى تونس بشكل غير قانوني الرأي العام في البلد الشمال الأفريقي، وأثارت جدلا كبيرا لما انجرّ عنها من تلوّث بيئي ومخاطر صحية على السكان المحليين لاحتواء هذه النفايات على مواد خطرة مثل البلاستيك والمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية السامة.
ورغم الوقع الذي تركته هذه القضية، فإنها لا تعد سوى واحدة من الأمثلة الصارخة على التحديات التي تواجهها الدول في إدارة النفايات الخطرة وما يرتبط بها من شبكات الفساد. ويُرجّح أنّ هذا مجرد غيض من فيض. فقد صدّرت سويسرا رسميًّا أكثر من 460 ألف طن من النفايات، واستوردت 77 ألف طن في عام 2023، وتُعدّ جزءا من تجارة عالمية منظمة يعبر الحدود من خلالها حوالي 180 مليون طن من النفايات كل عام. ولكن بالموازاة مع ذلك، يتم الاتجار في بعض النفايات بشكل غير قانوني، فيقدّر الاتحاد الأوروبي الاتّجار بثلث النفايات التي ينتجها، لكن تفتقر سويسرا إلى أي تقدير مماثل.
وتقول أماندا كابريجو لو رو، نائبة رئيس برنامج الفساد الأخضر (Green Corruption programme) في معهد بازل للحوكمة: “إن الاتجار غير المشروع بالنفايات قطاع لا يُبلَّغ عنه بشكل كافٍ”، ويصعب اكتشافه، ويرجع ذلك أساسًا إلى الحجم الهائل للحاويات التي تتحرك حول العالم. فلا تُفتَّش سوى 2، 10% فقط من أكثر من 90 مليون حاوية تصل إلى موانئ الاتحاد الأوروبي كل عام. وتقول هذه الخبيرة إنّ المرجّح أن تقلّ مستويات التفتيش عن ذلك في أجزاء أخرى من العالم.
وأوضحت أن هذا لا يجعل جمع البيانات أمرًا صعبًا فحسب، بل يعني أن الالتفاف على القواعد سهل نسبيًا أيضاً. ومن ثم يعتبر الاتجار بالنفايات جريمة منخفضة الخطورة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات.
الجريمة المنظمة
ووفقًا لسيرينا فافارين، عالمة الجريمة في جامعة كاتوليكا ديل ساكرو كوري في ميلانو، والباحثة في الجريمة العابرة للحدود (Transcrime)، يمثّل المال الدافع الرئيسي لنقل النفايات إلى الخارج بشكل غير مشروع، كما هو الحال في أنواع أخرى من الاتجار غير المشروع. وبعد أن بدأت البلدان في تشديد لوائح إدارة النفايات في تسعينيات القرن الماضي بسبب المخاوف البيئية والصحية العامة، بحثت الشركات “عديمة الضمير” عن طرق لتجنب تكاليف معالجة النفايات أو التخلص منها بشكل صحيح.

وأوضحت فافارين: “أنها [أي الشركات] تواصل دفن النفايات بشكل غير قانوني… أو تشحنها إلى بلدان ثالثة حيث اللوائح التنظيمية أقل صرامة، لأن ذلك أرخص”.
كما أوضحت أن عصابات الجريمة المنظمة متورطة أيضًا، إذ تجمع كميات كبيرة من النفايات في بلد ما لشحنها إلى مكان آخر، أو باستخدام تكتيك شائع لدى عصابات المافيا، فتتسلل إلى شركات مشروعة للفوز بعقود عامة لإدارة النفايات، ثم تتحايل على اللوائح.
وغالبا ما يقوم الجناة بتزوير المستندات وتسمية الصادرات بشكل خاطئ عمدًا، من أجل المرور عبر الجمارك. وتشرح كابريخو لو رو ذلك بالقول: “قد تشير الوثيقة إلى أنها ورق لإعادة التدوير، بينما هي في الحقيقة بطاريات حمض الرصاص أو شيء مماثل سام”.
وفي بعض الحالات، يمكن لهذه التجارة أن توفّر فرصًا اقتصادية لكل من المؤسسات الإجرامية والقطاع غير الرسمي في بلدان المقصد. وقالت فافارين يمكن بيع السيارات المستعملة، على سبيل المثال، أو إزالة أجزائها لاستخدامها في منتجات أخرى. ووفقا لما ذكره الاتحاد الدوليّ للسيارات، يمكن تجريد ما يصل إلى ثلثي السيارة من البلاستيك، والمنسوجات، والمطاط، والزجاج، والمعادن.
التعرض للمخاطر الصحية
لكن، تطلق العديد من الجهات الناشطة على هذه التجارة اسم “استعمار النفايات”، معتبرة أن البلدان المتقدمة تستغل الاقتصادات التي تفتقر إلى مرافق إدارة النفايات المناسبة، من خلال إرسال نفاياتها غير المرغوب فيها. وقالت سمية الغربي، رئيسة جمعية التربية البيئية للأجيال القادمة، المنظمة التونسيّة غير الحكومية: “إن فكرة تصدير النفايات إلى أفريقيا أكثر من مجرد إلقاء النفايات… فنحن نعلم، على سبيل المثال، أن 9% فقط من المواد البلاستيكية يعاد تدويرها في أفضل الظروف، مما يعني أن الباقي لا يعاد استخدامه”.
وتشكّل النفايات غير المعالجة مخاطر صحية وبيئية متعددة. فعندما يُتخلَّص من المركبات التي انتهى عمرها الافتراضي بشكل غير صحيح، على سبيل المثال، يمكن أن تتسرب منها سوائل خطرة وملوثات أخرى. وهذا هو السبب في أن اتفاقية بازل بشأن التحكم في نقل النفايات الخطرة عبر الحدود، التي وقعت عليها سويسرا، تهدف إلى الحد من الاتجار في هذا النوع من النفايات. وفي أفريقيا، تحظر اتفاقية باماكو استيراد النفايات الخطرة إلى القارة الأفريقية.

ثم تشكّل السيارات القديمة مخاطر على السلامة، وتضر بالبيئة عند استمرار استخدامها على الطرقات. ويشير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، إلى وصول ملايين السيارات المستعملة “ذات النوعية الرديئة” إلى البلدان ذات الدخل المنخفض، ومعظمها في أفريقيا، وذلك من خلال تجارة غير مشروعة تجد مصدرها في البلدان الغربية، على وجه الخصوص. وأوضح برنامج الأمم المتحدة للبيئة أنّ هذه المركبات تُساهم “بشكل كبير في تلوث الهواء، و[تعيق] الجهود المبذولة للتخفيف من آثار تغير المناخ”.
وتشير مصادر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، إلى أنه عندما تكتشف السلطات شحنات النفايات غير القانونية، غالبًا ما يكون من المستحيل إعادتها إلى الوطن، إذ تميل الجهات المتاجرة إلى إخفاء مصدر نفاياتها. كما يقول المكتب: “ينتهي المطاف بمعظم النفايات في مدافنها غير القانونية، أو في المحيط، أو تُحرق في العراء”.
وفي الفلبين، حيث أثار استقبال شحنات كبيرة غير قانونية من القمامة غضبًا وطنيًا واسعًا، يوجد أقل من 300 مكب نفايات رسمي، في بلد يبلغ تعداد سكانه 117،3 مليون نسمة. وقال غريغوريو رافاييل بويتا، المستشار القانوني لمنظمة تحالف النفايات البيئية غير الحكومية، والمحاضر في كلية الحقوق بجامعة أتينيو دي مانيلا: “هذا بالكاد يكفي لتغطية الإنتاج المحلي من النفايات، لذلك هناك الكثير من المكبات غير القانونية العاملة… وتتسرب النفايات إلى أنهارنا ومياه [الشرب] في المجتمعات الريفية والحضرية”.

وأشار بويتا إلى أن العمالة في القطاع غير الرسمي الكبير في البلاد، بما في ذلك النساء والأطفال، “هي التي تنقب في النفايات [لتحويلها إلى مصدر رزق]، وتتعرض للمخاطر الصحية، إلى جانب تأثيرها في كرامة الأفراد”. وتتعرض العمالة غير النظامية في قطاع النفايات لمواد كيميائية سامة، وتكون عرضة للإصابة بأمراض الجهاز التنفسي.
تنامي الوعي
ويتزايد الوعي بمخاطر الاتجار غير المشروع في النفايات شيئا فشيئا، وتقر منظمة الجمارك العالمية بالحاجة إلى مزيد من البيانات لفهم المشكلة ومعالجتها بشكل أفضل. ويرسم كل من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة خرائط للاتجار غير المشروع بالنفايات على مستوى العالم، ويدرّبان فرق الجمارك للوصول إليها والكشف عنها.
وفي عام 2024 ، اعتمد الاتحاد الأوروبي لائحة جديدة لشحنات النفايات وتوجيهات بشأن الجرائم البيئية، تحضر، من بين أمور أخرى، تصدير البلاستيك إلى خارج الاتحاد الأوروبي، وتوقع عقوبات أشد على عصابات النفايات. وتعترف فافارين بأهمية هذه التدابير، لكنها تسلط الضوء أيضًا على “عدم التوافق” بين البلدان التي لديها لوائح تنظيمية صارمة تنص على عقوبات وتلك التي لا تطبقها، مما يجعل مكافحة التجارة غير المشروعة أكثر صعوبة. وفي كثير من الأحيان، يشير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، في تقرير عن الاتجار بالنفايات من أوروبا إلى جنوب شرق آسيا، إلى أنّ “العقوبات مخفّفة بشكل غير متناسب، مقارنة بالأضرار البيئية والصحية المحتملة التي تلحق ببلدان المقصد”.
وفي سويسرا، يفرض القانون عقوبة السجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات على واردات النفايات أو صادراتها غير القانونية. ومع ذلك، انتهت 15 تهمة، من بين 25 وُجِّهت ضد شحنات النفايات غير القانونية في عام 2023، بإدانات جميعها غرامات تتراوح بين 200 فرنك سويسري (222 دولارًا أمريكيًا) و8،000 فرنك سويسري.
ومع ذلك، قالت كابريجو لو رو: “لا يتعلق الأمر بالتخلص من بعض التفاح الفاسد فقط”، لمعالجة المشكلة حقّا. وتقترح بدلًا من ذلك، تعزيز السياسات لضمان عدم وجود “تأثير غير مبرر” يمكن أن يؤدي إلى الفساد في منح عقود إدارة النفايات المحلية، وتعزيز القدرة على التفتيش في مواقع النفايات والموانئ والحدود.
ودعت الدول الغنية أيضًا إلى إعادة النظر في ممارساتها الحالية، متسائلة: “هل يجب على الدول الغربية أن ترسل نفاياتها بعيدًا، أم يجب أن تحاول معالجتها بطريقة أكثر استدامة؟” وتتوقع الأمم المتحدة نموّ النفايات الصلبة البلدية من 2،1 مليار طن في عام 2023 إلى 3،8 مليار طن بحلول عام 2050.
وفي الفلبين، يدعو النشطاء هناك إلى فرض حظر على جميع واردات النفايات، تمامًا كما فعلت الصين، التي كانت أكبر مستورد للنفايات البلاستيكية في العالم في عام 2019. ويطالب النشطاء أيضًا بأن توقّع الحكومة على تعديل اتفاقية بازل، الذي يحظر على دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ودول الاتحاد الأوروبي تصدير النفايات الخطرة. وقال بويتا: “سيرسل ذلك إشارة إلى أننا لسنا موقعًا لإلقاء نفايات العالم المتقدم”.