حرية ـ (26/3/2025)
إميل أمين
حين سقط الاتّحادُ السوفيتي وتفكَّكتْ أوصالُه، تراجعت موازنات التسليح العالمي، شرقًا وغربًا، وظنَّ الكثيرون أن زمنًا طويلاً من “الباكسا أميركانا” أو “زمن السلام الأميركيّ” هو المكافئ الموضوعيّ “للباكسا رومانا”، حين استعلنت روما عاصمةً للإمبراطورية الرومانية قديمًا، وقد أعلن وقتها الرئيسُ الأميركي جورج بوش الأب، أن النظام العالمي الجديد، قد حان أوانه، وكان قصده أن النظام العالمي بات نظامًا أميركيًّا بامتياز.
خَيَّمت الباكسا رومانا على العالم زهاء خمسة قرون، فيما المشهد بعد سقوط الشيوعية، لم يستمرَّ أكثر من ثلاثة عقود، وها هو العالم يكاد يفقد سلامه، وبخاصّة في ظل سباق التسلح الذي اشتعل من جديد.
لعلّ الأسابيع القليلة الماضية، حملت لنا عودة مثيرة وخطيرة لجهة عسكرة العالم مرّة جديدة، عسكرة تبدأ من عند الولايات المتحدة الأميركيّة، وتمرُّ بروسيا الاتحادية، وتصل إلى الصين، فيما أوروبا القارة التي اعتمدت طويلا على دفاعات حلف الأطلسي، يبدو وكأنها في حاجة ماسّة إلى قبلة حياة عسكريّة مرة أخرى.
من أين للمرء أن يبدأ؟
حكمًا من عند الولايات المتحدة الأميركية، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، حيث نجد الرئيس ترمب يعلن في مفاجأة غير مسبوقة عن منح شركة بوينج عقدًا لتصنيع أكثر طائرات سلاح الجوّ الأميركيّ تقدُّمًا ب-47، الأمر الذي رفع أسهم بوينغ بنسبة 5%.
يبلغ عقد تطوير بوينغ للطائرة نحو 20 مليار دولار، ولا يُعرف الكثير عن تصميم الطائرة، غير أنّه من المرجّح أن يشمل تقنيات التخفي الفائقة في النور والظلام على حدٍّ سواء، وأجهزة استشعار متقدّمة، ومحرّكات متطورة، ما يجعل منها طائرة الجيل السادس الجاهزة لخوض الحرب العالمية الثالثة حال حدوثها، حتّى وإن بدا الأمر نظريًّا اليوم، وواقعيًّا في الغد، لا سيما أن هناك داخل المؤسسة العسكرية الأميركية من يقطع بأن المواجهة المسلحة مع الصين، سوف تجري بها المقادير بحدود العام 2027.
لم يكن حديث F-47، هو المشهد العسكري الأميركي الوحيد الذي يدفعنا للقول بأن العالم في طريق العسكرة مرة جديدة، ذلك أن سيد البيت الأبيض، يبدو أنه ماضٍ قدمًا وبقوة في طريق تنفيذ المخططات العسكرية التي حلم بها الرئيس الجمهوري رونالد ريغان في ثمانينات القرن المنصرم، وبخاصة بعد أن أعلن عن رغبته في بناء “قبّة ذهبية” قادرة على الدفاع عن الولايات المتحدة بأكملها، حتى لو كانت هذه الرغبة من الناحية الإستراتيجية غير منطقيّة.
والشاهد أنّ القبة الذهبية هي محاولة من جانب إدارة ترمب لإعادة صياغة خطط غامضة لتدوير نظام دفاعي صاروخي يشبه القبّة الحديديّة الإسرائيليّة.
فكرة القبّة الذهبية تجد لها جذورًا في مشروع حرب الكواكب أو النجوم، والذي أرسى مقدراته الأولى الرئيس رونالد ريغان عام 1983، وتجلَّتْ فكرته في عمل حزام من أشعة الليزر في الفضاء، تقطع الطريق على صواريخ روسيا الباليستيّة، وتجعل وصولها إلى الأراضي الأميركية أمرا شبه مستحيل.
هنا يُفترض أن يقدّم وزير الدفاع الأميركي “بيت هيغسيث” خطّةً لتطوير وتنفيذ درع الدفاع الصاروخيّ، بحلول 28 مارس/ آذار الجاري، مع غياب معلومات كافية عن ماهية هذا الدرع وهل هو فضائي من خارج الأرض، أم بري وبحري من داخل الكوكب عينه، ويبدو من السذاجة في كل الأحوال إن اعتبرنا الطائرة الأحدث والقبة الذهبية، هما فقط المشروعان الوحيدان في طريق أميركا العائدة إلى التسليح بصورة غير مسبوقة، وربّما يتجاوز ما كان في زمن الحرب الباردة.
لم يكن لروسيا الاتّحادية، العنقاء الذي عاد حكمًا من الرماد، أن تظلَّ واقفة عاقدة الأذرع على الصدور، في ظلّ هذا التطور الكبير والخطير للترسانة العسكرية الأميركية.
غير أن سيد الكرملين، فلاديمير بوتين، يبدو جليًّا أنه تعلم الدرس ولهذا يتجَنَّب الفخّ الذي وقع فيه الاتحاد السوفيتي، حين جعل سباق التسلح التقليدي، يستهلك موازنة الاتّحاد السوفيتي.
رأى القيصر من بعيد أنه يمكن عبر الكيف وليس الكمّ، أن يهدد الولايات المتحدة وأوروبّا، بأنواع جديدة من الصواريخ الباليستية الجهنميّة، التي لا تصدّ ولا تردّ، لا سيّما من نوع “سارمات” .
أطلقت موسكو هذا الاسم على صاروخها النووي الأحدث بهدف إثارة الخوف في قلوب أعدائها، والاسم مشتق من “السارماتيين”، وهم اتّحاد تاريخي لمحاربي السنهوب الأوراسية، إلا أنه يعرف شعبيًّا باسم “الشيطان”، وهو لقب مناسب بالنسبة لقوته التدميرية الهائلة.
يعمل الصاروخ بالوقود السائل ويرتكز على منصة إطلاق، بمدى استثنائيٍّ يبلغ حوالي 11.185 مِيلاً، ما يسمح له بضرب أهداف في أيّ مكان تقريبًا على الأرض. هذا المدى الواسع، بالإضافة إلى قدرته على اتّخاذ مسارات طيران غير تقليدية، مثل القطب الجنوبي يصعب على أنظمة الدفاع الصاروخي تتبّعه واعتراضه قبل أن يتمكّنَ من إطلاق حمولته القاتلة.
ومن بين المعلومات المسرّبة عمدًا عن هذا الصاروخ، أنه قابل لحمل عشرة رؤوس نووية، ما يعني مقدرته على إلحاق الضرر الكبير بعدد من الولايات الأميركية حال رغب صاحب الكرملين، أو إبادة عدة دول أوروبية بقصفات لا تتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.
هل كانت الصين لتترك المشهد العالمي العسكري من دون شراكة مستقبلية؟
المؤكّد أنّ حلم القطبية يلوح صباح مساء كل يوم أمام أعين الصينيين، لكنهم لا يعلنون عن ذلك بشكلٍ دعائيّ، غير أن هذا لا يعني إيمانهم العميق بمراحل تطور الإمبراطوريات، ذلك أنه فيما يشتدّ العود اقتصاديًّا خارج الوطن، تظهر الحاجة المُلحّة إلى قوَّةٍ عسكرية تحمي تلك المصالح.
خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر أحد مجالات تطور القدرة العسكرية الصينية، حيث أعلنت بكين مؤخّرًا عن غواصتها الأحدث من نوع “تايب 096” والتي تعتبر كابوسًا مرعبًا للولايات المتحدة الأميركية في الحِلّ والترحال.
هذا النوع من الغواصات قادر ولا شك على حمل صواريخ باليستية ذات رؤوس نوويّة بعيدة المدى، ويرجح الباحثون العسكريّون أنّها نتاج تعاون روسي مع الصين.
تهتم الصين بنوعٍ خاصٍّ بتطوير غواصاتها لتضارع الروسية والأميركية، انطلاقا من إدراكها أن معركتها الحقيقية القادمة، ستكون في المياه لا سِيَّما المحيطين الهادئ والهندي بنوع خاصّ، حيث الكثير من المصالح الأميركية التي يمكن اعتبارها أهدافًا لترسانة البحرية الصينية حال القارعة، من عند بحر الصين الجنوبي وصولاً إلى قاعدة غوام، وبالمرور من عند أستراليا التي تجهزها واشنطن بغواصات فيرجينيا المتقدمة التي تطال صواريخها الحواضن الصينية بسهولة ويُسْر.
لا تبدو أوروبا بدورها بعيدة عن مجال العسكرة المتجدد، ويكفي المرء أن يطالع البرنامج العسكري الألماني الجديد، ذاك الذي رصد له المستشار السابق أولاف شولتز مبلع مائة مليار يورو، ناهيك عن مخطَّطات الرئيس الفرنسي ماكرون الخاصة بتشكيل قوة عسكريّة أوروبية، ذات مهام محدَّدة، حتّى وإن لم تكن بديلاً عن الناتو.
يدهش المرء حال المقاربة بين الأزمات الاقتصادية المحلقة فوق سماوات العالم، حيث الكثيرين يتوقّعون أزمة كساد طاحنة هذا العام، وبين برامج التسلح والعسكرة.
غير أن الجواب المخيف، يتمثَّل في أن الحروب هي عجلة دوران للاقتصادات العالميّة في حالات الكساد بنوعٍ خاصٍّ، فهل يكون هذا السعيُ مقدّمةً لمواجهات إقليميّة كبرى، نرى إرهاصات لها في الحال، وصولاً إلى حروب عالمية قد تجري بها المقاديرُ في الغد القريب؟