حرية – (24 \4\2021)
بعد 18 عاماً من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق والإطاحة بحكم صدام حسين، يستعد الاقتصاد العراقي لتحقيق قفزة تكنولوجية يمكن أن تتيح له تجاوز المشكلات الهيكلية وثغرات الفساد التي تخنق القطاع الخاص. ففي الأول من أيار المقبل سيدشن المصرف العراقي للتجارة تطبيقه للخدمات المالية عبر الهاتف المحمول.
هذه الخطوة قد تبدو بسيطة، لكن القدرة على دفع الأموال عبر الهاتف ساعدت الكثير من الدول في أغلب مناطق العالم على تجاوز البنية التحتية المصرفية المادية الضعيفة وجففت نظم الفساد الشائعة وشجعت على الابتكار، بحسب بلال وهاب الباحث في معهد واشنطن، وميشيل روبين الباحث المقيم في معهد “أميركان إنتربرايز” في التحليل الذي نشرته مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية.
ويقول وهاب وروبين إن الفساد شكل عقبة في طريق الاقتصاد العراقي لسنوات طويلة. وتضع منظمة الشفافية الدولية العراق ضمن الدول الأكثر فسادا على مستوى العالم، متقدما فقط على إريتريا وكمبوديا، مع تحسن طفيف مقارنة بمستوى الفساد منذ 10 سنوات. وأدت المظاهرات الشعبية الحاشدة الرافضة للفساد في العراق في تشرين الأول 2019 إلى استقالة رئيس الوزراء لكنها لم تؤد إلى إصلاحات ذات معنى.
وأضافا أن “من أبرز القواسم المشتركة بين مكونات الطيف السياسي العراقي، استعداد السياسيين لاستغلال مناصبهم لإثراء أنفسهم وعائلاتهم أو لصالح شركاتهم. وتبدو المشكلة أكثر وضوحا في كردستان العراق، حيث يستخدم السياسيون طائرات خاصة في حين أن رواتب الأطباء والمعلمين لم تدفع منذ شهور”.
وفي عهد صدام حسين وفي السنوات الأولى بعد الإطاحة به كانت الحكومة العراقية تدفع الرواتب للموظفين نقداً، وهو ما يفتح الباب أمام إدراج أسماء وهمية في كشوف الرواتب، ويتيح للرؤساء اقتطاع أموال لأنفسهم من رواتب مرؤوسيهم. ولمواجهة هذه الممارسات سعت الحكومة إلى الانتقال إلى نظام دفع الرواتب عبر الحسابات البنكية.
ولكن إيداع الرواتب في حسابات بنكية لا يكفي لسبب بسيط وهو أن العراقيين لا يثقون في البنوك. واستخدام الخدمات المصرفية في العراق ما زال منخفضا. فحتى عام 2017 كانت نسبة العراقيين الذين يمتلكون حسابات مصرفية نحو 20 في المئة من إجمالي العراقيين.
والآن ورغم وجود حوالي سبعين بنكا تعمل في العراق، تستحوذ ثلاثة بنوك كبرى فقط وهي الرافدين والرشيد والمصرف العراقي للتجارة على حوالي 85 في المئة من إجمالي أصول القطاع المصرفي.
ولا يوجد سوى بنك دولي كبير واحد يعمل في العراق حاليا وهو ستاندرد تشارترد ويمتلك عددا قليلا من الفروع ويركز على المشروعات الحكومية الكبرى. وفازت شركة إنترناشيونال سمارت كارد العراقية بعقد لصرف رواتب العاملين في الحكومة إلكترونيا عبر بطاقات مؤمنة بالعوامل البيولوجية “كيو.آي كارد”. وفي عام 2019 قالت الشركة إن لديها حوالي 7 ملايين شخص يحملون بطاقاتها.
ويقول الباحثان إن ضعف النظام المصرفي في العراق يعتبر سببا رئيسيا وراء وضع البنك الدولي العراق في المركز 186 من بين 190 على مؤشر سهولة الحصول على القروض ضمن تقرير البنك الدولي عن ممارسة الأعمال لسنة 2020 وأدى هذا إلى خروج كبير لرؤوس الأموال من العراق.
ويقول علي علاوي وزير المالية العراقي على سبيل المثال إن حوالي 250 مليار دولار خرجت من العراق منذ 2003 وهو ما يعادل ثلاثة أمثال الميزانية السنوية للعراق. في الوقت نفسه فإن ضعف النظام المصرفي دفع المواطنين العراقيين إلى الاعتماد بصورة أكبر على التحويلات المالية غير الرسمية مما يؤثر سلبا على قدرة الحكومة على متابعة حركة الأموال وتحصيل الضرائب والرسوم.
وعلى سبيل المثال، فإن الخزانة العامة تفقد حوالي 90 في المئة من الإيرادات المحتملة للجمارك والمقدرة بنحو 7 مليارات دولار سنويا بسبب فساد المسؤولين والميليشيات المسلحة.
في الوقت نفسه فإن الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان لا تبذلان جهدا كافيا لتعزيز ثقة المواطنين في النظام المصرفي. وهناك مشروع قانون في البرلمان العراقي للتأمين على الودائع لا يهتم به أحد.
وفي عام 2014 عندما واجهت حكومة إقليم كردستان أزمة سيولة استولت على أموال الودائع في البنوك مما بدد ثقة المواطنين في القطاع المصرفي ككل. ولكن جائحة “كورونا” المستجد دفعت أعدادا كبيرة من العراقيين إلى القبول بفكرة الاقتصاد الرقمي. وفي أربيل وبغداد تزايدت شعبية تطبيقات توصيل الطعام عبر الأجهزة الذكية مثل “تيب توب” والسريع. وفي مدينة السليمانية بإقليم كردستان زاد إقبال السكان على استخدام موقع “بييك بوك دوت كوم” لشراء احتياجاتهم بدلا من الذهاب إلى المتاجر.
وبينما يستعد العراقيون لعصر الاقتصاد الرقمي حيث أن أكثر من 40 في المئة من العراقيين مولدون بعد الغزو عام 2003، فإن خطوة دخول المصرف العراقي للتجارة إلى عالم المعاملات المصرفية عبر الهاتف المحمول، سيتردد صداها في مجالات أوسع بالنسبة إلى الثقة العامة. على سبيل المثال عندما يتم تغريم راكب السيارة في العراق 50 ألف دينار (34 دولار) لعدم ارتداء الكمامة الواقية من فايروس “كورونا” المستجد، فإنه لا يعرف إن كانت الأموال التي سيدفعها تصل إلى الخزانة العامة أو تذهب إلى جيب رجل الشرطة. في حين أنه عند سداد الغرامة عبر تطبيقات الهاتف المحمول فهو سيتأكد من وصولها إلى الخزانة العامة.
الأمر نفسه ينطبق على مختلف أشكال الغرامات والرسوم التي يدفعها المواطن العراقي. في الوقت نفسه فإن تقديم المصرف العراقي للتجارة للخدمات المصرفية الإلكترونية يمكن أن يتيح للعراق التغلب على العقبات المتزايدة بالنسبة إلى البنية التحتية للبنوك التقليدية والفساد الناجم عن تداخل المصالح.
وفي حين تمتلك أغلب أقاليم العراق مثل كربلاء والأنبار وبغداد القدرة على جذب المستثمرين وإتاحة الفرصة أمامهم لتحقيق أرباح كبيرة، فإن الخدمات المالية عبر الهاتف المحمول ستسهل ممارسة الأنشطة التجارية، وتساعد في تجنب الرسوم المصرفية الكبيرة وتدعم قدرا أكبر من الشفافية.
لذلك يدعو الباحثان بلال وهاب وميشيل روبين الإدارة الأميركية إلى تقديم كافة وسائل الدعم للحكومة العراقية من أجل تطوير النظام المصرفي العراقي ودفعه نحو التحول إلى الاقتصاد الرقمي مع ضمان الأمن المعلوماتي له. في الوقت نفسه فإنه من مصلحة الولايات المتحدة التنسيق والتعاون مع العراق لضمان ألا تتحول تطبيقات المعاملات المالية عبر الهاتف المحمول والتي تسمح بتحويل العملات بين الدينار والدولار إلى قناة خلفية لإيران للالتفاف على العقوبات الأميركية.