حرية – (16/8/2021)
كثيراً ما ينساق الإنسان تحت ضغط الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية أو النفسية إلى ارتكاب الأخطاء ولربما الجرائم ولعل البعض منها جرائم خطيرة ترقى إلى مصاف الجناية بحق أشخاص أخرين، بيد ان المشرع العراقي ومثله أغلب مشرعي الدول الأخرى أخذ بمفهوم تفريد العقوبة أي جعلها ملائمة للجاني من حيث الظروف الحيطة به، وهو يقع بثلاثة أنواع، تفريد تشريعي حين يتولى المشرع تحديد أكثر من عقوبة للفعل المجرم أو يقر تخفيف العقوبة أخذاً بالاعتبار جسامة الجريمة وظروف الفاعل كما في ظرف الليل في جريمة السرقة أو سبق الإصرار في جريمة القتل، حيث يلزم المشرع القاضي بتشديد العقوبة، وفي أحيان أخرى يقر ضرورة تخفيف العقوبة في حال توافر بعض الأعذار أو الظروف مثل صغر السن أو حسن النية أو غيرها.
وهنالك التفريد القضائي الذي يمكن القاضي من اختيار العقوبة المناسبة للجاني وتوقيعها عليه بناءً على ما يملكه القاضي من سلطة تقديرية حيث يحدد المشرع حد أدنى وأعلى للعقوبة إذ ترد العبارة أحياناً بصياغة (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات) ما يعني ان القاضي مخول الحكم من (24) ساعة لغاية ثلاث سنوات، وهنالك التفريد الإداري الذي تضطلع به المؤسسات العقابية أو الإصلاحية التي تدير مؤسسة السجون إذ تقوم بتصنيف النزلاء والمودعين وتقرر لهم برامج إصلاحية وتحدد أماكن تواجدهم وزيارات أهليهم وغيرها كما تحدد مدى إمكانية استفادة المحكوم من بعض الأنظمة القانونية مثل الإفراج الشرطي، كونها تراقب سلوك المحكوم وتزود المحكمة المختصة بتقارير تتخذ أساساً لتحديد مصير الشخص.
بيد ان المحكوم عليه والذي ينهي مدة محكوميته أو يقوم بدفع الغرامة أو يمتثل لحكم المصادرة يبقى مكبلاً بقيد جنائي يمنعه في الكثير من الأحيان من ممارس حياته الطبيعية أسوة بأقرانه حيث تمنع القوانين في الغالب تعيين المواطن ممن صدر بحقه حكم سابق فقد ورد على سبيل المثال في المادة (7) من قانون الخدمة المدنية النافذ رقم (24) لسنة 1960 المعدل أنه “لا يعين لأول مرة في الوظائف الحكومية إلا من كان،…،رابعاً: حسن الأخلاق وغير محكوم بجناية غير سياسية أو بجنحة تمس الشرف كالسرقة والاختلاس والتزوير والاحتيال” كما ورد في قانون المنظمات غير الحكومية رقم (12) لسنة 2010 أن من شروط العضو المؤسس للمنظمة أن يكون “غير محكوم عليه بجناية غير سياسية او جنحة مخلة بالشرف” وورد في قانون الأحزاب رقم (36) لسنة 2015 في المادة (9) التي حددت شروط المؤسس للحزب أن يكون “غير محكوم عليه بحكم بات من محكمة مختصة عن جريمة القتل العمد أو جريمة مخله بالشرف أو جرائم الإرهاب أو الفساد المالي أو الإداري أو الجرائم الدولية وغير مشمول بإجراءات المساءلة والعدالة وغير منتمي إلى حزب البعث المنحل بدرجة عضو عامل فما فوق” وورد في قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم (9) لسنة 2020 في المادة (8) ان من شروط المرشح “ان يكون غير محكوم بجناية أو جنحة مخلة بالشرف” بل ان بعض القوانين العراقية المنظمة لمهن محددة تشترط عدم وجود القيد الجنائي منها قانون الدلالة رقم (58) لسنة 1987 بالمادة (3) أنه يشترط بالدلال ان كان شخصاً طبيعياً ان يكون “غير محكوم عليه، بجناية غير سياسية أو بجنحة مخلة بالشرف، ومن ذوي الاستقامة”.
ومما تقدم نلاحظ ان المحكوم عليه ببعض الجنايات غير المخلة بالشرف سيحرم من حقوق عديدة وهذا الأمر في بعض الأحيان يخالف المنطق كون هدف العقوبة الردع والإصلاح وليس محاصرة الإنسان والتضييق عليه بعد انتهاء مدة العقوبة كما ان ما تقدم يتسبب بعقوبة غير مباشرة على ذوي المحكوم عليه كونه ممنوع من التوظف عند الحكومة وممنوع عليه ان يؤسس حزباً، أو يمارس النشاط والحقوق السياسية، أو يترشح للمجالس التمثيلية في البلد بل يصل الأمر إلى المنع من ممارسة العمل التطوعي في المنظمات غير الحكومية كونه ممنوع من تأسيس منظمة ولو كانت خيرية، وما تقدم سلوك ولا شك يتنافى مع القيم الإنسانية ومع أهمية إتاحة الفرصة أمام الجميع في التكافؤ فرص العمل التوظف وان الإنسان المخطئ لابد ان يمنح إمكانية العودة كفرد عادي للمجتمع ولا يبقى القيد الجنائي عقبة تحول بيته وبين الحياة الطبيعية لذا شرع قانون رد الاعتبار في العديد من البلدان.
وهذا النظام يعني العودة إلى سابق الاعتبار الشخصي للفرد المحكوم عليه من أجل جريمة جنائية معينة فيكون بذلك وكأنه لم يسبق الحكم عليه، فهو نظام قانوني الغرض منه إزالة آثار الأحكام القضائية الصادرة من القضاء بفرض عقوبات جنائية ليساعد المحكوم عليه في استعادة مكانته الاجتماعية واندماجه مع أفراد المجتمع، بعبارة أخرى هو محو للأثار الجزائية للأحكام القضائية الصادرة بالإدانة فتزول الأثار المستقبلية للحكم ومنها العقوبات التبعية أو التكميلية فيعامل الفرد معاملة من لم يصدر حكم بحقه ليشق طريقه في الحياة كبقية أفراد المجتمع.
ويحقق هذا النظام أهداف عدة للمحكوم عليه والمجتمع فبعد تنفيذ العقوبة، أو سقوطها لأي سبب كان يفترض ان تتاح الفرصة لهذا الفرد ليعيش بكرامة ونحقق له سبل العيش الكريم، بيد ان القيد الجنائي المسجل باسمه قد يمنعه من ذلك فالعقوبة الجنائية وفق قانون العقوبات العراقي تتبعها عقوبات تبعية أو تكميلية ومنها العزل من الوظيفة وهذا ما أشار إليه قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (18) لسنة 1993 الذي ينص على أن “الحكم بالعقوبة في جرائم الرشوة أو الاختلاس أو السرقة يستتبعه بحكم القانون عزل الموظف من الخدمة وعدم جواز إعادة تعيينه في دوائر الدولة والقطاع الاشتراكي” وهذا تأكيد وتوسيع لما ورد بقانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل بالمادة (100) والتي تنص على “للمحكمة عند الحكم بالسجن المؤبد أو المؤقت بالحبس مدة تزيد على السنة أن تقرر حرمان المحكوم عليه من حق أو اكثر من الحقوق المبينة أدناه لمدة لا تزيد على سنتين ابتداء من تاريخ انتهاء تنفيذ العقوبة أو من تاريخ انقضائها لأي سبب كان:
1- تولي بعض الوظائف والخدمات العامة، على ان يحدد ما هو محرم عليه منها بقرار الحكم وان يكون القرار مسببا تسبيبا كافيا.
2- حمل أوسمة وطنية أو أجنبية….الخ” ما يعني ان المحكوم عليه سيعاني ألم العقوبة الأصلية والتبعية أو التكميلية ورد الاعتبار من شأنه ان يخفف من هذا الألم وبالخصوص لمن صلحت أحوالهم بالعقوبة الأصلية ويرغبون بالعودة لحياتهم الطبيعية، إذن لابد من وضع حد للآثار السلبية للعقوبة لمن ثبت صلاحه بعد انتهاء تنفيذ العقوبة، وفي العراق كان هنالك قانون رقم (3) لسنة 1967 المسمى بـ(قانون رد الاعتبار) والذي ينص في المادة (3) منه على “يرد بقرار قضائي اعتبار المحكوم عليه عند توافر الشروط التالية:
1- ان تكون العقوبة قد نفذت أو أسقطت عنه قانوناً.
2- نفذ ما عليه من التزامات مالية للمحكوم له أو قام بإجراء تسوية عنها.
3- رد اعتباره التجاري اذا كان محكوماً عن جريمة إفلاس.
4- أحسن سلوكه داخل السجن وبعد خروجه منه ….” “بيد ان قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (997) لسنة 1978 الغى القانون المتقدم والغيت المواد القانونية المتعلقة بذات الموضوع المتضمنة بقانون أصول المحاكمات الجزائية، والسؤال اليوم هل نحتاج إلى تشريع قانون رد الاعتبار في العراق؟ وللإجابة نقول ان المشرع الدستوري في دستور جمهورية العراق للعام 2005 لم يشر إلى تشريع قانون خاص برد الاعتبار إلا أن الدستور سمح بالمادة (73) لرئيس الجمهورية بإصدار العفو الخاص عن الجرائم باستثناء بعض أنواع الجرائم الخطيرة كالإرهابية والدولية وجرائم الفساد بتوصية من رئيس مجلس الوزراء ففي حال صدر العفو الخاص ستسقط العقوبة رغم بقاء الفعل المجرم وقرار المحكمة بالادانة وكل ما سيحصل هو انهاء تنفيذ العقوبة واطلاق سراح المحكوم، ولن يرد اعتبار الشخص بل سيبقى محتفظاً بالحكم الذي سيشكل قيد على ممارسته للأنشطة الحياتية مستقبلاً لذا ستكون الفلسفة التشريعية من العفو الخاص ناقصة فحين قدر رئيس الدولة أهمية وقف تنفيذ العقوبة لكون الشخص لم يرتكب جريمة خطيرة سيكون العفو ناقصاً حيث سيحرم المحكوم عليه من امتيازات كثيرة في المستقبل.
وكذا الأمر لو صدر قانون العفو العام استناداً لأحكام المادة (61/أولاً)من الدستور ففي هذه الحالة سينقلب الفعل المجرم إلى مباح وتسقط الأحكام الجزائية أو تتوقف الدعوى الجزائية المقامة ضد المتهمين وهذا ما أشارت إليه قانون العقوبات العراقي بالمادة (153) بأنه”
1- العفو العام يصدر بقانون ويترتب عليه انقضاء الدعوى ومحو حكم الإدانة الذي يكون قد صدر فيها، وسقوط جميع العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية والتدابير الاحترازية ولا يكون له اثر على ما سبق تنفيذه من العقوبات ما لم ينص قانون العفو على غير ذلك.
2- واذا صدر قانون بالعفو العام عن جزء من العقوبة المحكوم بها اعتبر في حكم العفو الخاص وسرت عليه أحكامه.
3- لا يمس العفو العام الحقوق الشخصية للغير” لذا قانون العفو العام يؤدي إلى نزع صفة المخالفة عن الفعل المنسوب لأحد الأشخاص فتنتهي العقوبة بدل تنفيذها إذ قد يقدر المشرع ضرورة إنهاء بعض العقوبات لمصلحة اجتماعية معينة غلا أنه أحيانا لا يمنع من استمرار بعض أثار الحكم الجنائي لاسيما الأثار المتعلقة بالوظيفة أو الحقوق الشخصية وهذا ما أشارت إليه المادة الأولى من قانون العفو العام في العراق رقم (27) لسنة 2016 المعدل والتي ورد فيها أن “يعفى عفوا عاما عن العراقي المحكوم بالإعدام أو بإحدى العقوبات أو بالتدابير السالبة للحرية سواء كان الحكم وجاهيا أم غيابيا اكتسب درجة البتات أم لم يكتسب ودون الإخلال بالمسؤولية المدنية أو التأديبية أو الانضباطية”.
لذا سنحتاج أيضا لقانون لرد الاعتبار لتتم إزالة الاثار المدنية فالتاجر المفلس المحكوم عليه بسبب الإفلاس سيكون بحاجة لرد اعتباره التجاري والموظف المحكوم عليه بالعزل من الوظيفة لارتكابه جرية خطيرة سيحتاج إلى قانون رد الاعتبار ليتمكن من التعيين مجدداً في دوائر الدولة والقطاع العام مثلاً، والسبب كون الاختلاف بين الأثنين العفو العام ورد الاعتبار سيبقى قائماً، فالعفو العام قانون قد يصدر عن البرلمان أو لا يصدر بينما رد الاعتبار سلطة تقديرية للمحكمة المختصة ويمكن في أي وقت ان يصدر بعد تحقق شروط معينة والعفو العام يعد منحه من المشرع يتحكم بها وبتحديد نطاقها من حيث الجرائم المشمولة بالعفو بينما رد الاعتبار يمثل حق مكتسب للجاني ان توافرت شروطه، كما ان العفو لا يزيل الأثار المدنية والانضباطية في الوقت الذي يمكن لقرار رد الاعتبار من إعادتها، وفي الختام نتمنى على المشرع العراقي ان يعيد إلى الحياة قانون رد الاعتبار للعراقيين ليتمكن المواطن الذي صلح حاله بالعقوبة أو بالعفو الخاص أو العام من الاندماج من جديد في المجتمع ويتمتع بحقوقه السياسية والاقتصادية والمدنية كاملة غير منقوصة.