حرية – (1/9/2021)
المطربة المصرية الراحلة منيرة المهدية (رسم علاء رستم – اندبندنت عربية)
كان ذلك عشية اندلاع ثورة 1919 الوطنية الكبرى في مصر، وكانت كل المؤشرات تقول إن تلك الثورة التي يتزعمها سعد زغلول ستندلع لا محالة، وكان ذلك شعور يتغذى بخاصة من الحياة الفنية والأدبية والفكرية، وبالتالي من الحلقات الصاخبة في مسارح شارع محمد علي القاهري الذي كان من مزاياه في ذلك الحين جمعه بين اللهو والفن والفكر والسياسة والوطنية في بوتقة واحدة.
الحديث عن سعد ممنوع
في ذلك الحين، كان الإنجليز المحتلون مصر والمدركون الشرارة التي يمثلها ذكر اسم سعد زغلول في أي مكان من مصر، كانوا قد منعوا الفنانين والصحافيين وحتى الطلاب والناس العاديين من الإشارة إليه، ومن هنا كانت الفنانة منيرة المهدية، المعتبرة حينها ملكة الفن الاستعراضي غير المتوجة في مصر، تقدم على مخاطرة كبيرة إذ قررت في حفل غنائي حاشد أقامته في صالتها الخاصة واجتمع فيه كالعادة كبار الأدباء والسياسيين وأفراد الطبقات الموسرة وبعض محبي الفن والموسيقى والسهر من أبناء الشعب، قررت أن تختبر قوتها ووطنيتها بخرق القرار الإنجليزي.
شال الحمام حط الحمام
ليلتها إذاً وكما يروي كمال النجمي وغيره من مؤرخي الحياة الفنية المصرية، وقفت منيرة على المسرح بكل دلالها وكبريائها مشيرةً إلى فرقتها الموسيقية (التخت) لينطلق على الفور صوت العود والناي والقانون والكمان على إيقاع الطبل، ولتنطلق تلك التي كانت تلقب بـ “سلطانة الطرب” تغني بأعلى صوت يسمعه كل من في الصالة ومن دون ميكروفون “شال الحمام حط الحمام/ من مصر لما للسودان/ زغلول وقلبي مال إليه/ أندهله لما أحتاج إليه/ يفهم لغاه اللي يناجيه/ ويقول حمحم يا حمام”. وكانت تلك العبارات من الأغنية كافية بالطبع لاستثارة الجمهور الذي راح يردد معها كلماتها بصخب يقرب من هتافات الثورة المقبلة، وكانت كلما حاولت الانتقال الى المقطع الثاني يستعيد الجمهور المقطع الأول هاتفاً لذلك “الطائر” الذي تغني له صارخاً “زغلول… زغلول، والله يا ست كمان زغلول وزغلول”، ثم يصرخون من جديد مستعيدين عبارة تقول فيها، “من مصر السعيدة للسودان”.
صحيح أن المؤرخين سيبالغون فيقولون إن تلك الليلة كانت البداية العملية لانطلاق ثورة عام 1919، لكن دلالة الحكاية تتجاوز طبعاً اللحظة التاريخية لتقول كم أن الفن، حتى في مستوياته الأقل شأناً، كان يلعب كل ذلك الدور الوطني في الحياة الشعبية، والحال أننا إن استعرضنا نقلاً عن المؤرخين أسماء العدد الكبير من المفكرين والمبدعين وحتى السياسيين المصريين الكبار الذين كانوا حاضرين في تلك الليلة، يمكننا أن نفهم أموراً كثيرة عن علاقة الفن بالوطنية في مصر وبخاصة القاهرة، وربما غيرها من المدن العربية في ذلك الحين.
كلهم في صالة السلطانة
ولكن يمكننا أن نستعيد طبعاً ذكر تلك الفنانة الكبيرة التي جمعت كل أولئك المصريين من حول فنها وغنائها، منيرة المهدية، كما نفهم ورثتها حين احتجوا بعد سنوات طويلة على المخرج حسن الإمام حين اكتفى في فيلم حققه بعنوان “سلطانة الطرب” بالتركيز على الجانب الترفيهي والمغامر في حياة هذه الفنانة، مقللاً من الدور السياسي الذي لعبته، وكان دوراً كبيراً بالتأكيد، يكاد يوازي الدور الفني الذي يمكننا تلمسه من خلال استعراضنا الأعمال الفنية التي أنجزتها، مارّين على أسماء كبيرة أسهمت معها في تلك الأعمال من سيد درويش إلى فرح أنطون، ومن سلامة حجازي إلى عزيز عيد وجورج أبيض ومحمد عبدالوهاب وآخرين، وفي نهاية الأمر لم تكن المهدية مغنية “ارخي الستارة” أو “الحلو في البارانده” فقط، بل كانت سيدة المسرح الغنائي في أدوار لا تقل عن “كليوباترا” و”تاييس” و “سميرأميس” و”عايدة” و”أكسير الحب” و”كارمن” و”البوهيمية”، ويمكن لهذه اللائحة أن تطول.