حرية – (27/10/2021)
منذ القدم والإنسان يتعامل مع الحياة من خلال الفن، كونه الشكل التعبيري للحياة بجميع جوانبها الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويحمل رسائل مهمّة في التغيير أو التحريض على التغيير.
كربلاء- هو أوّل معرض تشكيلي في العراق يوجّه رسالته إلى الحكومة العراقية ويقول إن ثمة أحلاما للشعب.. وهو أوّل معرض تشكيلي يقام بعد الانتخابات المبكرة التي أجريت في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري بقصدية القائمين والأهداف المرجوّة التي تعبّر عنها حركة الفرش والألوان على قطع قماش اللوحات، وكذلك النحت والسيراميك، وتقول كما يريد المشاركون قوله إن ثمة أحلامًا منتظرة ترتبط بواقع لا يراد له أن يكون مثل انتظار غودو ولا انتظار المجهول الذي يحوّل الدنيا إلى أشياء أخرى.
وشارك 40 فنانا وفنانة في المعرض الذي أقيم في مدينة كربلاء (جنوب بغداد) قدّموا أكثر من 70 عملًا فنيًّا تحوّلت إلى صرخة احتجاج بأن العراقيين يريدون سياسيين جددا، نبلاء يحكمون البلاد بإخلاص، وحمل المعرض عنوان “حلم قريب”، وتنوّعت الأعمال باختلاف مدارس المشاركين وأساليبهم بين الواقعية والرمزية السريالية والتجريدية والتعبيرية، وهي حصيلة أفكار ولدت من رحم الواقع السياسي، أرادوها رسالةً مباشرة للسياسيين.
ترميم الذاكرة
المعرض أقامته جمعية التشكيليين في كربلاء التي أُسّست قبل أشهر، وهي جزء من جمعية التشكيليين في العراق التي أسّست عام ١٩٥٦ ولها جذور ضاربة في التاريخ، فقد كانت دوما لها الكأس المعلّى في تحريك الوعي والذائقة وتوجيه الرسائل الفنية، كما يقول رئيس الجمعية الفنان محمد حاتم.
ويضيف حاتم “أقمنا معرضنا الفني الأول الذي حمل عنوان (حلم قريب) بمشاركة 40 فنانة وفنانًا، قدّموا فيه أكثر من ٧٥ عملًا فنيًّا توزّعت بين الرسم والنحت السيراميك”، مشيرا إلى أن الفن رسالة وأن الفنانين يمارسون دورهم في”تثوير العقل الذي لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الفن”.
وتابع أن العمل الفني يترابط بشكل كبير مع الواقع الذي يعيشه الفنان وتصوّراته عن الكون والموجودات في الطبيعة وانعكاساتها على ذاتيته، “ولذا فإن الفنانين ومن خلال المعرض” أرادوا منح فسحة من الأمل لكي يؤسّسوا أو ينطلقوا إلى مساحات أوسع وأشمل ليعبّروا عن مكنوناتهم الداخلية من هواجس ورؤى”، معتبرًا أن الفن “ترميم للذاكرة وعبور جديد وآني لما تقدّم”.
ويعتقد حاتم أن الواقع العراقي الذي يراه الفنانون يشبه “حلم طفولة، حلم شباب إلى جسور ومعابر مغلقة، ودروب ودهاليز مظلمة”، ولذا فإنهم في هذا المعرض حاولوا كما يقول “من خلال الفرشاة واللون والأشكال، أن نضيء البعض منها، ولنجعل حاضرنا أكثر إشراقا، رغم الواقع المتردّي الذي يمرّ به الفنان والمجتمع ككل”، مؤكّدًا أن الهدف هو إيصال رسالة أن “الأحلام ما زالت مخبّأة والأماني مؤجّلة حتى يكون الواقع أفضل”.
الفنانون في (حلم قريب) تختلف انتماءاتهم ومدارسهم، وأساليبهم حصيلة سنوات من الإبداع والتألّق، واللوحاتّ رغم تنوّعها بين الصرخة المباشرة والمنظر الطبيعي والبورتريه فإنها جميعها تدخل في جوهر التحدي للواقع.
وهو ما يؤكّده الفنان التشكيلي فاضل ضامد بقوله “نسعى دائما لإثارة المتلقّي للتأمّل أمام اللوحة أو العمل الفني بأشكاله المختلفة، ونوازن بين تركيبة المتلقّي في تحسّسه الثقافي”، ولهذا فإن الرسائل التي يعتقد أنها متضمنة في جوهر المعرض جاءت “لوجود تذوّق جمالي يتحرّك لاختيار الفكرة التي تحمل رسالة إن كانت احتجاجًا بصوتٍ لوني أو حركة فرشاة”، ولهذا فإن زمن الافتتاح الذي ركّزت عليه الجمعية إنما جاء بعد انتخابات عاصفة واحتجاجات على النتائج والاتهامات، لكن صوت الفنان نريده “أعلى في رفض كلّ حالات التزوير واللصوصية وسرقة الحريات، وأن يبعث رسالة حبّ وجمال لكل الذين أساؤوا إلى الوطن والناس من أحزاب فاسدة” وكل من تسبب في تخريب عقلية الإنسان العراقي وتهميشه وتجهيله.
ويرى ضامد أن أهم رسالة يوجهها الفنانون العراقيون أنهم “يريدون سياسيين نبلاء يحكمون البلد، وهذه لا يمكن أن تنجح إلا مع من جاء محمّلًا بعشق الفن والحياة”، مؤكدا أن الرسائل الفنية “لن تتوقّف وصرخاتنا تتوالى من جمال إلى جمال، ولنا قدرة كبيرة على إنشاء حركة تشكيلية مهمة لها صوت أعلى من صوت السياسي”.
لوحات الحلم والصراخ
ثمة لوحات جميلة في المعرض.. هناك لوحات تحمل الأمل والحلم والصراخ والدم، لكنها تشترك في المتاهة التي صنعها الواقع السياسي. وتقول الفنانة تمارا الأنباري إن المعرض “محاولة لخلق معادلات موضوعية جمالية في مواجهة حالة ترقّب وأسى وأسئلة مفتوحة أفرزتها الانتخابات البرلمانية”، وبيّنت أن توقيت المعرض كان مقصودًا لكونه محاولة جادّة لجعل الفعل الجمالي يتحرّك بقوّة في مساحة مفتوحة لمواجهة الفشل المستمر الذي كرّسته سلسلة طويلة من الإخفاق السياسي”.
وتصوّر الأنباري الأمر على أنه دور للفنان كونه “يخلق صلات كثيرة بالمتلقّي ويدفعه إلى معانقة الأمل، بل إنه يجعلنا محكومين بقوة الأمل ذاتها”، وتحدّثت عن لوحتيها فقالت إنها نفذتهما بمواد مختلفة على القماش، “حاولت من خلالهما أن أجعل الموسيقى جمالًا سائلًا يدخل في شقوق حياتنا ويرمّمها وهو عمل تعبيري تناولت فيه فرقة جاز تحيط بها دائرة تجعل متلقي العمل يتساءل: كيف سيكون الخروج من الدائرة؟ ومن جهة أخرى إنه السؤال ذاته الذي يمكن أن تكون صياغته: كيف يمكن للعراق أن يخرج من هذه الدائرة؟”.
إقامة المعرض في مثل هذا التوقيت ربما جاء كأنه محاولة إنقاذ من التيه العراقي وما يُخشى من حدوثه بعد الانتخابات، كما يقول الفنان حازم الأشهب، معتبرا أن “المعرض خطوة في غايه الأهمية وهو خطوه كبيرة، وخصوصا في ظل السياسات الخاطئة التي اتبعتها الحكومات والأحزاب التي تعاقبت بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 وأدت إلى دمار العراق في جميع مفاصل الحياة”.
ويرى الأشهب أن المقابلة لهذا الدمار تأتي من “الفن الذي وحده الذي له جرأة على مواجهة الفقر والخراب والأمراض والتدهور في كل القطاعات التعليمية والصناعية والصحية والزراعية”، لافتا إلى أن الفنان العراقي “رغم إمكاناته البسيطة حتى في العثور على مكان لإقامة معرض، فإنه أقوى وأكثر التصاقًا بالمجتمع كون الفن رسالة الحياة”.
ودعا الأشهب جميع الفنانين إلى التحرك المستمر وإقامة كل الفعاليات “لأنها السبيل الوحيد الذي يجعل المواجهة واعية وسلمية، فالفن هو الذي ينهض بعراق بابل وآشور وسومر، وكي تعود به إلى مصاف الدول العظمى كما كان في سابق عهده”.
الحلم ووظيفة الذاكرة
منذ القدم والإنسان يتعامل مع الحياة من خلال الفن، كونه الشكل التعبيري للحياة بجميع جوانبها الاجتماعية والسياسية والثقافية ويحمل رسائل مهمّة في التغيير أو التحريض على التغيير.
ويؤكد الناقد مهدي هندو أن “المعرض ليس عرض لوحات جمالية، بل رسالة محبة مثلما هو رسالة احتجاج مثلما هو رسالة روح مثلما رسالة أمل”، ولذا فإنه يعدّ الفن التشكيلي من “الفنون التي تحمل رسائل الحرية”.
وعن المعرض وأهدافه قال هندو “يوجه نخبة من الفنانين التشكيليين رسالة إلى الساسة العراقيين تحاكي الأوضاع التي يمرّ بها البلد سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية، وجاءت على شكل لوحات تشكيلية ونحتية في تعدّد واضح للمدارس الفنية التشكيلية بين الواقعية والرمزية السريالية والتجريدية والتعبيرية”، وبعيدًا عن المقدرة الفنية للوحات ونقدها تشكيليًا فهو يعدّهم فنانين كبارًا لكن “المغزى يبقى هو الأسمى وخاصة عنوان (حلم مؤجل) كونه يفصح عن مدلولات النصّ وأبعادها الفكرية والأيديولوجية سواء أكان النصّ كلاميا أم صوريا”.
وأشار هندو إلى أن جميع الفنانين “استخدموا التكنيك العالي في توظيف العناصر الفنية للعمل التشكيلي وحتى اللوحات التي اعتمدت المدرسة الواقعية أو الطبيعية لأنها تحدّدت بالوظيفة الفنية، ألا وهي وظيفة الذاكرة فهي سجلت ما كانت عليه الطبيعة من خير ونماء وما صارت عليه اليوم من جدب”، مؤكدا أن بعض اللوحات جاءت “محاولةً كسر الفراغ الذي ربما يشير إلى وجوب التشكيل الحكومي لتقريب الحلم”.