حرية – (30/10/2021)
كهوف الطار أثرٌ سحيقٌ غائرٌ في عمق التاريخ.. يقال إن عمرها أكثر من 4 آلاف سنة، ولم يتفق الكثير من البعثات التنقيبية العالمية لم تتّفق على سرّ وجوده في منطقة تقع إلى الغرب من مدينة كربلاء المتخمة بالآثار عبر العصور.
تقع كهوف الطار على مكان مرتفع عن مستوى سطح الأرض في عمق الصحراء على يمين الطريق المؤدي إلى بلدة عين تمر جنوب غرب كربلاء، يلتفّ من منتصف الطريق وكأن يمينه يصل بغداد وإلى شماله مدينة النجف. وفي هذا الأثر أكثر من 400 كهف لم تكن طبيعية كما يقول الباحثون، بل هي من صنع الإنسان، ولكلّ كهفٍ فتحة للدخول يبلغ ارتفاعها مترًا ونصف، وعرضها نصف متر. والكهوف تأخذ شكل الغرف أو الحجرات الصغيرة.
وعن التنقيبات التي حصلت يشير ياسر إلى أنه في عام 1970 بدأت بعثة تنقيب من جامعة كوكيشيكان اليابانية برئاسة البروفيسور هيدو فوجي موسمها التنقيبي الأول في كهوف الطار، واستهلّت عملها في التل “إيه” (A) الذي تتكوّن تربته من طبقتين طينية ومن الحجر الرملي.
وقد واصلت البعثة عملها عام 1972 في مجموعة من الكهوف، ووجدت أن معرفة كيفية تفاعل الإنسان مع هذا الوسط الجغرافي يتطلّب إجراء استكشافات طوبوغرافية وجيولوجية وهيدرولوجية.
ونتيجة ذلك كشفت البعثة عن بقايا قرب التل “إيه” (A) وغرفتين في الشمال الشرقي من الكهف، وظهر أن شكل الغرفة غير منتظمٍ، وأرضية المدخل تتّصل من الجهة اليسرى بدكّة تمتدّ إلى قسمين، وكشفت في أرضية الدكة عن بقايا هياكل عظمية وقطع جلد، وهو الأمر الذي يشبه ما حصل في الغرف الأخرى مع وجود دهاليز غير منتظمةٍ مع نحت بدائي بشكل رأس سهم يتجه إلى الأعلى.
ويشير ياسر إلى أن البعثة وجدت عام 1984 الأرضيات مغطّاة بكمياتٍ من الصخور الرملية والكلسية مع مجموعة خرز وخاتم معدني مزدان بحرز وقرص ذهبي هلالي الشكل، كما كشفت في الطبقة الرملية فوق الصخور المهشمة التي تقع فوق أرضية الغرف الداخلية عن فكّ إنسانٍ مع كومةٍ من الأنسجة المختلفة الأنواع والجلود عليها آثار الخياطة، وذات حياكةٍ بسيطةٍ مزدانة بالرسوم والصور والنسيج القطني المضلّع وذات تزيينات ملونة وأشكال هندسية، ويبدو أنها تعود للعصر الهلنستي.
ويؤكد الباحث أن الأمر لا يزال سرًّا بالنسبة لتاريخ الأثر، والسبب أن كل بعثة ترى الأمر بحسب تحليلاتها وهو يشمل جميع المواقع الأثرية.
عصور غابرة
تتشكّل الكتلة الخاصة من المواد الصخرية أو الطينية أو حتى الجبسية للمنطقة، ولهذا فإن السرّ في تحديد التاريخ كان بسبب عدم تمكّن أيّ جهةٍ من ربط الأحداث التاريخية مع بعضها، كما يؤكد الباحث في الآثار وفلسفة التاريخ الدكتور عدنان عبيد المسعودي.
ويضيف المسعودي أن هذا الموقع عبارة عن صدعٍ أو انكسارٍ أرضي كبير، يرتدّ زمانه إلى عصور جيولوجية غابرة، وهو يمتدّ بتشعبٍ شوكي حول قاعدة بحيرة الرزازة شمالًا، ويتعرّج بقوسٍٕ هلالي منبعجٍ باتجاه الجنوب والجنوب الغربي، ليلتقي على بعد 45 كلم جنوب غرب الكوفة، في عمق صحراء الطف، بطارات منخفض بحر النجف، ليشكلا معًا رأسًا انكساريًا حادّ الزاوية، شمال غرب هذا البحر.
ويرى أن بعض القمم والروابي لكهوف الطار أو كما يسميها البعض الطارات لتعدّدها “ترتفع لأكثر من 100 متر فوق مستوى سطح البحر، خصوصا في بعض روابي النجف.
ويصف المسعودي هذه الطارات بأنها عبارة عن انخساف أرضي حصل في أحد العصور الجيولوجية القديمة، نتيجة انخساف في أحد أقسام الصفيحة الغربية لهضبة غرب الفرات، ترك من هضبة الطف كتلة هضبية معلقّة على ارتفاع أكثر من 70 مترا فوق مستوى سطح البحر، معتبرا أن ذلك يمثّل خطًّا صدعيًا عظيمًا يشير إلى ما لاحظه الآثاريون من وجود عددٍ كبيرٍ جدا من الكهوف، بعضها منعزل في رواب جبلية منفصلة، والبعض الآخر يمثّل سلاسل متّصلة.
واعتبر أن هذه الكهوف تمثّل طبقات سكنية مختلفة، فهي تتشكّل أحيانًا بأقبيةٍ يعلو بعضها بعضا، ويذكر أنه حين يفيض نهر الفرات القديم الذي كان يمرّ ببحيرة الرزازة، كان الماء يجتاح الكهوف المنخفضة فيغيّر سكان الكهوف الأوائل سكنهم إلى الكهوف العليا.
وانتقد المسعودي الجهات العراقية المعنية التي لم تتمكن من تحديد تاريخ أو زمنٍ محدّد لهذا الأثر، لكنه يستدرك بتحليل طبيعة سكان الكهوف كونهم ربّما يمثلون الأصول العليا لأهل سومر الذين نزلوا السهل الرسوبي، قبل أكثر من 5 آلاف سنة قبل الميلاد، وربما كانوا الأسلاف القدماء لسكان تلّ العبيد وسلالة أوروك الأوائل.
ويربط الأمر في تحليله أو استنتاجه بوجود خيط دقيق يجمع بين شكل الطارات المتدرّج بتشكيلات طبقية جيولوجية متراكمة، وبين هندسة الزقورة السومرية والبابلية المتشكلة من طبقات ريازية متراكمة بتشكيل هندسي فذ، لذا يعد سكان الطارات هم الأسلاف الحقيقيون لأهالي وادي الرافدين الأوائل، ويمثلون مرحلة انتقالية بين عصور الصيد وجمع القوت، وبين عصور تدجين الحيوان، وأوائل عصور نهضة الزراعة.
بعثة يتيمة
أمام تعدّد الرواة الذي يشبه تعدّد المصادر عن تكوين هذه المنطقة، هناك من يقول إن هذه الكهوف تعود إلى العصر البابلي، فعندما عاد اليهود من بابل باتجاه فلسطين بعد السبي البابلي ودخول الفرس بزعامة كورش الإخميني إلى بابل والقضاء على دولتها، وأثناء عودتهم اتخذوا من هذه الكهوف مكانًا بعيدًا عن الأنظار لإعادة كتابة توراتهم.
وهو ما يؤكده الباحث حسين الوزني بالقول إن “تاريخ هذا الأثر يعود إلى آلاف السنين ويسمى بالمصطلح الشعبي بالطار، ويشير إلى أن البعثة اليابانية توصّلت بالدليل إلى أن كهوف الطار مرّت بـ3 أدوار حضارية، الأول أن هذه الكهوف “حفرها الإنسان عام 1200ـ1300 قبل الميلاد واتخذها مساكن”، والثاني أن الكهوف “استخدمت كقبور في الفترة ما بين 300 قبل الميلاد و300 م، وهو طور يتواكب زمنيًا مع دول وحضارات تدمر والحضر والحيرة المحيطة بمنطقة كهوف الطار في تلك الفترة”.
ويقول الوزني إن الطور الثالث هو “العصر الإسلامي حيث عثرت البعثة اليابانية على ألفي قطعة أثرية مختلفة من ضمنها ملابس”، ولذا يعتقد كتحليلٍ إن هذه الكهوف “كانت مستوطنة لأكثر من 1480 سنة حسب المعطيات التاريخية”، كما أن سبب عدم تحديد تاريخها يعود إلى أن بعثة التنقيب اليابانية هي البعثة الوحيدة واليتيمة التي عملت في هذا المكان عام 1955، وإذا ما جرت حملات تنقيبية جديدة فسوف تكتشف أشياء جديدة قد تغير سلسلة تاريخ العراق القديم.