حرية – (31/10/2021)
يحقق فيلم “معركة بحيرة تشانغجين” بنظرته القومية عن الحرب الكورية تقدما ملحوظا نحو قمة شباك التذاكر العالمي لعام 2021 . على كل حال يجب على الغرب أن ينظر إلى إنتاجاته قبل توجيه أصابع الاتهام إلى الغير
لقد هزم جيمس بوند، ليس على يد المجرم الشرير “بلوفيلد” ولا خصمه “غولدفينغر” ولا القائد الإرهابي المصاب بجنون العظمة “ليوتسيفر سافن” الذي يجسده رامي مالك في أحدث أفلام السلسلة، بل بسبب فيلم “معركة بحيرة تشانغجين” The Battle at Lake Changjin. تمكن هذا الفيلم الصيني الناجح، وهو ملحمة حربية تدور أحداثها خلال الحرب الكورية، من التفوق ليس فقط على آخر أفلام بوند “لا وقت للموت” No Time to Die في ترتيب شباك التذاكر العالمي، ولكن على كل الإنتاجات التي طرحتها هوليوود حتى الآن في سنة 2021.
من بين الأفلام الأخرى التي ستتراجع بعد صدور “تشانغجين”: فيلم الأكشن “أف” F9، فيلم مارفل الأحدث “شانغ تشي وأسطورة الخواتم العشرة” Shang-Chi and the Legend of the Ten Rings و”وغودزيلا ضد كونغ” Godzilla vs Kong، وذلك وفقاً لإحصائيات جرت في وقت سابق من هذا الأسبوع. على كل حال، يبدو أن الغالبية العظمى خارج الصين متفقة على فكرة واحدة: هذا الفيلم هو دعاية قومية فجة، صاغتها وأقرتها الدولة الصينية.
وصفت صحيفة “ذا تلغراف” العمل بأنه “فيلم دعائي مناهض للولايات المتحدة”. بينما كتبت “بي بي سي” أنه “دعاية صينية”، ولم يكن توصيف “اندبندنت” مختلفاً. وفقاً لكل ما تردد، فإن وصفه بـالدعاية أمر منصف تماماً، وقد أشارت الانتقادات إلى الأخطاء التاريخية التي يزخر بها الفيلم والروح القومية المقحمة التي تضفي لمسة بطولية على صورة التدخل الصيني في كوريا.
قد يكون السخط هو رد الفعل الأنسب عندما تدركون أن الفيلم حقق للتو مكاسب تصل إلى نحو خمسة مليارات يوان في شباك التذاكر (ما يعادل 769 مليون دولار، أو 557 مليون جنيه إسترليني) ، اعتباراً من عطلة نهاية الأسبوع الماضي، من أصل ميزانيته وقدرها 1.3 مليار يوان (147 مليون جنيه إسترليني). إنه عملياً رابع أضخم فيلم صيني في تاريخ السينما، ويبدو أنه سيتقدم إلى المركز الثالث قريباً. من المرجح أن يتفوق على فيلم “مرحباً يا أمي” Hi, Mom! وهو عمل كوميدي صيني يدور حول السفر عبر الزمن صدر في فبراير (شباط) وتصدر شباك التذاكر العالمي لعام 2021. يا ليتنا كنا قادرين على توجيه أصابع اتهامنا نحو الدعاية عندما تكون الإنتاجات أقرب إلى بلداننا.
لطالما عرفت هوليوود بتاريخها الطويل والحافل مع الدعاية، وتحديداً ذلك المرتبط بالأعمال العسكرية. يعود هذا التاريخ إلى مرحلة السينما الصامتة: أنتج فيلم “أجنحة” Wings، أول عمل يفوز بأوسكار أفضل فيلم على الإطلاق، بمساعدة من البنتاغون. وخلال الحرب العالمية الثانية، أنشأت وزارة الدفاع الأميركية مكتب الإعلام الحربي، الذي خصص وكالة كاملة (باسم مكتب السينما) لفرض الرقابة أو الرفض على أكثر من 1650 نصاً خلال فترة ثلاث سنوات. بعد حل المكتب، ظلت أفلام الحرب الأميركية منصة لتعزيز الشوفينية. عندما اندلعت حرب فيتنام، تمكن جوين واين من إنتاج الفيلم الدعائي الناجح “القبعات الخضراء” The Green Berets بفضل دعم الحكومة.
ولم تكن المملكة المتحدة محصنة ضد إغراء الإنتاجات الفنية العسكرية. شهدت الحرب العالمية الأولى قيام لجنة التصوير السينمائي بمكتب الحرب في المملكة المتحدة بإنتاج ورعاية عدد من الأعمال الروائية والواقعية التي تحمل أبعاداً أيديولوجية واضحة. من بين تلك الإنتاجات كان ” قلوب العالم”Hearts of the World، وهو قصة حربية فئوية من إخراج “دي بليو غريفيث” الذي صنع فيلم “ولادة أمة” Birth of a Nation، مصممة لكسب تأييد المشاهدين الأميركيين للحرب. خلال الحرب العالمية الثانية، جندت وزارة الإعلام شركة “باول وبريسبرغر” للإنتاج الفني لصناعة عدد من الأفلام المحملة بالدعاية، بما في ذلك فيلم “خط 49” 49th Parallel، الذي كرر مسعى التأثير على الأميركيين المحايدين، وفاز بأوسكار أفضل نص أصلي.
لكن لم تكن أفلام الحرب فقط هي التي استخدمت للترويج. على سبيل المثال، قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سراً بتمويل معالجة سينمائية بريطانية لرواية “مزرعة الحيوانات” لـجورج أورويل في عام 1954 تم فيها تعديل النهاية لتحفيز الاضطرابات بين المشاهدين الشيوعيين في الخارج، وتثبيط المشاعر الشيوعية في الداخل. (من جانبه، لطالما كان الاتحاد السوفياتي رائداً عالمياً في فن الدعاية السينمائية، حيث كلفت الدولة بأفلام قادت عدداً من الابتكارات المنهجية والتقنية التي لم تتمكن الولايات المتحدة من تقليدها إلا بعد عقود من الزمن).
كما أن هذا التوجه، لم يقتصر على أوائل ومنتصف القرن العشرين. تثبت وثائق أظهرتها طلبات بموجب قانون حرية المعلومات أن وزارة الدفاع الأميركية مارست تأثيرها على أكثر من 800 فيلم بين عامي 1911 و2017، بما في ذلك أفلام رائجة ضخمة، من “كابتن أميركا” Captain America و”آيرون مان” Iron Man وصولاً إلى “المتحولون” Transformers. ورغم ندرة لعب الشخصيات العسكرية أدوار البطولة في سلسلة أفلام مارفل ذات الشعبية الكبيرة، لكن من المنصف القول، إن تصوير الجيش في فيلم “آيرون مان” مذهل، إذ كشف بحث أجراه توم سيكر [باحث مستقل يشرف على موقع spyculture.com، وهو أرشيف إلكتروني حول تدخل الحكومة في صناعة الترفيه] أن التغييرات التي فرضتها وزارة الدفاع تضمنت إزالة مشهد يتعرض فيه آيرون مان لإطلاق نار من قبل القوات الجوية، وحذف حوار يشير إلى حالات انتحار بين العسكريين. كما أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أنشأت مكتب اتصال ترفيهياً في عام 1996، وكشفت المذكرات المسربة أن المكتب تدخل بشكل كبير في فيلم “المجند” The Recruit من بطولة آل باتشينو عام 2003 [الهادف إلى إبراز الممارسات المتبعة من قبل الاستخبارات الأميركية تجاه الراغبين في الانضمام إلى إداراتها والاختبارات القاسية التي يتعرضون لها]، وفيلم الإثارة الذي أشعل جدلاً كبيراً “دقيقة بعد منتصف الليل”Zero Dark Thirty للمخرجة كاثرين بيغلو [الذي يؤرخ الجهود الأميركية لاعتقال أو قتل أسامة بن لادن].
في كثير من الأحيان، تكون الأعمال منسوجة بطريقة فظيعة لدرجة أنها تستحق الذكر. تعرض فيلم الدراما “القناص الأميركي” American Sniper، الذي أخرجه كلينت إيستوود عام 2014، ويدور حول القصة الحقيقية للطبيب البيطري كريس كايل الذي عمل خلال حرب العراق، للانتقاد على نطاق واسع بسبب مغالطاته التاريخية وميله إلى تأييد الجيش، مما فضح الكثير من عنصرية ووحشية كايل. ومع ذلك، فإن هذا لم يقف في طريق حصول الفيلم على ستة ترشيحات لجوائز الأوسكار. كان فيلم “كابتن مارفل” Captain Marvel أحد أضخم الأفلام في سنة 2019، وكان عبارة عن دعاية مكشوفة أنتجت بالتعاون مع القوات الجوية الأميركية. على نطاق واسع، بدا الفيلم وكأنه دعاية مطنبة بشكل غير عادي للتجنيد في القوات الجوية، وهي حقيقة لم تخف عن بعض النقاد. ورغم ذلك، حقق الفيلم أرباحاً تجاوزت مليار دولار.
في الواقع، أشار النقاد الغربيون إلى تلك التحيزات والتحريفات في فيلمي “القناص الأميركي” و”دقيقة بعد منتصف الليل” وانتقدوها عندما صدر الفيلمان. على كل حال، نادراً ما وصف العملان في الأخبار على أنهما “سينما دعائية” – رغم أن التعريف ينطبق عليهما بلا شك. ربما قد لا تكون مشكلة فيلم “معركة بحيرة تشانغجين” في كونه يلقن فكراً معيناً لجمهوره، بل في فشله في تورية رسالته السياسية الخبيثة بالدقة المطلوبة.
حتى أفلام بوند، تعتبر إلى حد ما مجرد دعاية- حيث تتبنى في الخفاء نظرة إمبريالية إنجليزية متفوقة للعالم، تشهد دائماً قيام المخابرات البريطانية بإنقاذ الموقف في النهاية. (تردد أن أوائل أفلام العميل السري 007 كانت بإشراف وزارة الدفاع الأميركية، بما في ذلك “غولدفينغر” Goldfinger و”ثاندربول” Thunderball و”العين الذهبية” GoldenEye و”غداً لا يموت أبداً” Tomorrow Never Dies).
من البديهي أن المقاومة والرفض يجب أن يكونا رد الفعل الوحيد على أي محاولة تقوم بها دولة ما لغسل أدمغة سكانها بشكل فعال. ولأسباب عديدة، لا تمكن مقارنة الصين بالمملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، وينبغي التعامل مع الانتقادات الموجهة إلى سجلها في مجال حقوق الإنسان بمنتهى الجدية. مع ذلك، وكما رأينا في بعض خطابات حملة دونالد ترمب الانتخابية، فإن تصنيف الصين على أنها بعبع قصي- فهي أرض الاستبداد والدعاية الفجة- لا يؤدي إلا إلى صرف الانتباه عن إخفاقات الغرب، وإخفاء عيوبنا الاجتماعية والسياسية.
نعم، قد تكون الدعاية على هيئة فيلم مثل “حرب بحيرة تشانغجين”. أو على شكل فيلم بالأبيض والأسود للمخرجة الألمانية “ليني ريفنشتايل” يستعرض حشوداً تتلهف أعينها لمشاهدة أدولف هتلر وخطابات النازية. لكن يمكن للدعاية أيضاً أن تكون في صورة الممثلة بري لارسون وهي تقود طائرة مقاتلة في فيلم “كابتن مارفل”، أو الممثل برادلي كوبر وهو يحدق من خلال عدسة بندقية في فيلم “القناص الأميركي”. الدعاية لها وجوه عديدة. ولا بد من أن تكون عاقبة القيام بانتقاء واختيار الأوجه التي نتعرف عليها، وخيمة.