حرية – (11/4/2022)
هكذا ازدهرت مستوطنة أوروبية من حقبة تشييد النصب الصخري “ستونهنج” عبر صناعة قطع للزينة من العاج والكريستال الصخري الذهبي والكهرمان
اكتشف علماء متخصصون في الآثار موقعاً كان، في ما يبدو، عاصمة الموضة في عالم ما قبل التاريخ.
الموقع الذي يرجع تاريخه إلى خمسة آلاف سنة مضت، عبارة عن مستوطنة من العصر النحاسي في ما يُسمّى الآن بـ”جنوب إسبانيا”، وتبين أنه أنتج الكمية الأكبر من سلع الزينة الراقية المتصلة بعصور ما قبل التاريخ التي يُعثر عليها على الإطلاق.
حتى الآن، عُثر فعلاً على مئات من القطع الأثرية المذهلة المصنوعة من الذهب والعاج والكريستال الصخري والكهرمان، فضلاً عن الحجر الأخضر وأصداف البحر وقشر بيض النعام، وحجر الصوان والنحاس – على الرغم من أن أعمال الحفر والتنقيب لم تبلغ بعد سوى واحد في المئة تقريباً من مساحة الموقع.
أعمال الحفر الدقيقة التي بقيت مستمرة خلال العقدين الماضيين، تشير إلى أن الموقع كان مركزاً تجارياً دولياً رئيساً، إذ اجتذب البضائع من على بعد آلاف الأميال حرفياً. وبيّنت فحوص علمية أن المواد الخام الأكثر غرابة المستخدمة في صناعة الأكسسوارات الأكثر فخامة، جاءت من مناطق بعيدة من قبيل غرب آسيا ومنطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وصقلية وشمال إسبانيا.
إلى الآن، وجد علماء الآثار الذين يتولّون عمليات البحث، من الجامعتين الإسبانيتين “إشبيلية” و”ولبة” ومن ألمانيا، عشرات من التماثيل العاجية، الكاملة منها والتي فقدت بعض أجزائها، مدفونة عميقاً تحت الأرض، وأكواباً للشرب وأمشاطاً تستخدم زينة للشعر، إضافة إلى جواهر وقطع أثاث فاخرة وزخارف للملابس. وتبيّن أن معظم العاج المستخدم في صناعة القطع اليدوية والحلي أخذ من فيلة أفريقية، وبعضه من فيلة آسيوية، كانت آنذاك ما زالت تجوب الأراضي الخضراء في غرب آسيا. وأسهم علماء الآثار وعلماء آخرون من خمس جامعات بريطانية ومؤسسات بحثية أخرى في تأريخ كثير من الاكتشافات الرئيسة وتحليلها.
استُخدم الذهب، بعدما استقدم من جنوب غربي إسبانيا على الأرجح، في صناعة رموز دينية ارتبطت بعبادة الشمس على شكل عين مصنوعة من رقائق الذهب. وأثمر الموقع حتى الآن اثنتين من تلك القطع اليدوية القيّمة، علماً أنه لم يُعثر على أي مصنوعات مثلها في أوروبا الغربية.
كذلك اكتشف علماء الآثار عشرات من حبات الخرز الكهرمانية الجميلة، التي ربما جرى استيرادها من صقلية. ويُعتقد أنها استخدمت في صناعة قطع الجواهر وفي رسم زخرفات على الملابس الرفيعة.
صُنعت حبات خرز أخرى من حجر كريم نادر أخضر يُسمّى بـ”الفاريسيت” variscite (فوسفات الألمنيوم)، جُلب من شمال إسبانيا.
كذلك كشفت أعمال الحفر النقاب عن قطع أثرية مذهلة أخرى، من بينها نصال استخدمت في الاحتفالات وشفرات صغيرة وخنجر، مصنوعة من الكريستال الصخري النقي، ربما جيء بها من وسط إسبانيا.
سكان المستوطنة التي تعود إلى ما قبل التاريخ، أوْلَوا أصداف إسقلوب البحر الكبيرة الآتية من أعماق البحار تقديراً بالغاً، وقد جلبت على الأغلب مما يُعرف الآن بالساحل الأطلسي في إسبانيا أو البرتغال.
حتى الآن، أخرج علماء الآثار ضمن أعمال الحفر ما يربو على 100 سكين وفأس ومخاريز ورأس حربة نحاسية. على الرغم من أنها مصنوعة في الغالب من نحاس محلي من جنوب غربي إسبانيا، إلا أن بعض العناصر النحاسية الأكثر روعة (رؤوس الحربة) صُنعت بأسلوب شرق البحر الأبيض المتوسط. بدت غالبيتها طويلة بصورة غير عادية (بين 20 و27 سنتيمتراً)، وبأسلوب لم يسبق أن لوحظ إلا في ما يعرف الآن بتركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل.
الدراسة العلمية للموقع، الموجود بين مدينتي كاستييخا دي غوسمان وبلنسينا دي لا كونسبسيون قرب إشبيلية، تكشف أيضاً عن تركيبة سكان المستوطنة. على ما يبدو، ليست وحدها المواد الخام المستخدمة في الأزياء الراقية تأتي من مناطق عدة مختلفة، بل أيضاً نحو 33 في المئة من سكان المستوطنة كانوا أيضاً من غير المحليين. خلص العلماء إلى هذه النتيجة عبر ما يُسمّى بـ”تحليل النظائر” للهياكل العظمية المدفونة في المستوطنة الضاربة في القدم، ولكن لم يُعرف بعد ما إذا كانت قد أتت من مكان آخر في إسبانيا أو من خارج البلاد.
اكتشف علماء الآثار أنه، في الموت كما في الحياة، اختار سكان المستوطنة التي ترجع إلى ما قبل التاريخ أزياء غريبة في طرازها، وذلك عبر طلاء جثثهم بصبغة حمراء زاهية (“الزنجفر” cinnabar)، جاؤوا بها خصيصاً من وسط إسبانيا. كذلك زُيّنت المساحات الداخلية للمباني الدينية في المستوطنة بالطلاء الأحمر ذاته ذي المكانة الرفيعة.
مشط من العاج مزين بأشكال خنازير (جامعة إشبيلية)
في أوج ازدهارها، قبل أربعة آلاف و500 سنة مضت، بلغت مساحة المستوطنة الغابرة في القدم ما يربو على 400 هكتار تقريباً (حوالى 2.5 ميل مربع)، وربما وصل عدد المجموعات السكانية التي قطنتها على نحو دائم أو غير منتظم، إلى آلاف عدة. من شبه المؤكد أنها اضطلعت بأعمال عدة، دينية واحتفالية وتجارية وسياسية. أما حجمها الفعلي، فيبدو أنها كانت أكبر مستوطنة في وقتها في أوروبا الغربية.
صحيح أنه حتى الآن لم ينجز من أعمال الحفر بشكل كامل سوى أربعة هكتارات، بيد أن تلك المنطقة الصغيرة أسفرت عن معلومات ومصنوعات يدوية كثيرة جداً (عشرات الآلاف من القطع الفنية الكاملة وبقايا القطع). حتى هذه المرحلة، اكتشف الآلاف من الأماكن التي استخدمت للتخزين وأداء الطقوس الدينية، وخنادق ضخمة تمتد على أميال عدة، ومئات المقابر وغيرها من المعالم. كانت أعمال الحفر معقدة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن جميع المواد الأثرية مدفونة على عمق أكثر من مترين تحت سطح الأرض الحديث.
ظهرت المستوطنة للمرة الأولى في أواخر العصر الحجري الحديث late Neolithic (نحو 3200 قبل الميلاد). بعد نمو سريع حققته، اكتست أهمية ثقافية واقتصادية وسياسية في معظم مراحل الألفية الثالثة قبل الميلاد – لكنها وصلت إلى نهاية مفاجئة نسبياً حوالى 2350 قبل الميلاد.
في أوج نموها، تزامن ازدهارها تقريباً مع بناء النصب الصخري الشهير “ستونهنج” Stonehenge.
أما انهيار المستوطنة، فيبقى لغزاً لن يحله سوى النهوض بعمليات تحقيق أثرية في المستقبل.
ومع ذلك، من شبه المؤكد أن التغيرات المناخية (وما ترتب عليها من عواقب اقتصادية وسياسية وغيرها) أدت دوراً ما في نهاية المستوطنة.
“تشكل بلنسينا أحد أهم المواقع التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ في أوروبا التي تساعدنا في التوصل إلى فهم لبزوغ المجتمعات المعقدة اجتماعياً في قارتنا. إنها تقدم أدلة مهمة حول العلاقة بين المنشآت الأثرية وممارسة الطقوس الدينية والثروة الدخيلة، ما يسمح لنا بأن نفهم بشكل أفضل بعض الأنظمة السياسية والدينية المبكرة في أوروبا”، على ما قال عالم الآثار الرائد الذي يعكف حالياً على دراسة الموقع، البروفيسور ليوناردو غارسيا سانخوان من “جامعة إشبيلية”.
الآن، بدأ البحث العلمي المستمر في الموقع عينه حول الاكتشافات بإلقاء ضوء جديد على النظم الاجتماعية التي كانت سائدة في عصور ما قبل التاريخ، خصوصاً معرفة ما إذا كانت أبوية تتميز بسيادة الذكر الأب وتبعية النساء والذرية له، أو أمومية السلطة فيها للمرأة. يدرس الباحثون أيضاً ما إذا كان حرفيو العصر النحاسي في بلنسينا، إضافة إلى استيرادهم قطع العاج من خارج البلاد، قد استفادوا أيضاً من عاج متحجر باقٍ من أفيال عاشت في إسبانيا قبل مئات الآلاف من السنين.
في المملكة المتحدة، يقوم علماء آثار من جامعات “كارديف” و”ساوثامبتون” و”دورهام” ببحوث حول مواد مأخوذة من الموقع، أما أعمال تأريخ الاكتشافات الرئيسة فيتولّاها “مركز البحوث البيئية في الجامعات الاسكتلندية (SUERC) قرب غلاسكو، و”مختبر بحوث علم الآثار” التابع لـ”جامعة أكسفورد”.
البحث الجاري في بلنسينا يساعد الدارسين أيضاً على أن يتعرفوا بشكل أفضل إلى حضارة ما قبل التاريخ الأوسع نطاقاً، التي ازدهرت في جنوب إسبانيا منذ نحو أربعة إلى ستة آلاف عام، وما زالت آثارها المذهلة موجودة حتى اليوم. علاوة على معلم أثري صخري جوفي رائع لممارسة الطقوس الدينية (دولمن دي لا باستورا Dolmen de La Pastora) في بلنسينا نفسها، يمكن للزوار أيضاً استكشاف الموقع الجنائزي الرائع “دولمين دي سوتو”Dolmen de Soto قرب ولبة، ومدينة “لوس ميلاريس” المدمرة التي تعود إلى العصر النحاسي (قرب ألمرية)، وموقع يونيسكو للتراث العالمي من عصور ما قبل التاريخ بالقرب من بلدة أنتقيرة، على بعد 30 ميلاً شمال مدينة مالقة.