حرية – (25/4/2022)
ساعة الإمام أبو حنيفة النعمان صنعها العراقي عبد الرزاق محسوب عام 1929
أنشئت ساعة القشلة عام 1869 ولا تزال تعمل بدقة متناهية و”هدية” الرشيد لملك فرنسا كانت الآلة الأولى في أوروبا
قبل أن يعرف البغداديون الساعات الحديثة ترشدنا كتب التراث لوصف ساعات عُرفت بها بغداد وأبهرت بها الأمم بسبب دقة صناعتها وجمالها، فالساعة المائية في عهد هارون الرشيد بلغت قمة الإبداع في الفن والدقة، وترجع قصتها إلى أن شارلمان ملك فرنسا الذي عاصر الخليفة العباسي هارون الرشيد أراد أن يوثق العلاقة بينه وبين الرشيد، فأرسل إليه السفراء يحملون الهدايا الفاخرة استرضاء له وكسباً لمودته، فرد عليه الرشيد بهدية عبارة عن ساعة مائية مصنوعة بمهارة أعجب بها شارلمان ودهش رجاله، وقيل إن بعضهم هرب من المجلس عند سماع دقاتها ظناً منهم أن شيطاناً يختفي داخلها.
وذكر فولتير المؤرخ الفرنسي، “أن أول ساعة عرفت في أوروبا هي التي أهداها الرشيد الى شارلمان ملك فرنسا سنة 807 م، وكان لها 12 باباً صغيراً بعدد الساعات فكلما مضت ساعة فتح باب وخرجت منه كرات نحاس صغيرة تقع على جرس فيقرع ويطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة وحينئذ تخرج صور 12 فارساً على خيل تدور على صفحة الساعة”.
هناك أيضاً ساعة المستنصرية المائية وكان الناس يطلقون على هذه الساعات تسمية “الساعات الروحانية” اعتقاداً منهم أن ما يحرك هذه الساعات شيء خفي يشبه الروح في تحريك الأجسام، تم تنصيبها لتتوسط المدرسة المستنصرية في سنة (633 هـ)، وقد تغنى بها الشعراء ونظموا لها القصائد في وصفها ودقة صناعتها”.
روح من الماء في جسم من الصغر مؤتلف بلطيف الحسن والنظر
تنشأ له حركات في أسافله كأنها حركات الماء في الشجر
لم يبق أثر لهذه النفائس من الساعات غير ما تركته لنا كتب التراث، إلا أن هناك ساعات بقيت شاخصة بأبراجها العالية لتبوح لنا بأسراها وتخبرنا عن تاريخ نشأتها والمراحل التاريخية التي عاصرتها.
“بيغ بن” بغداد
تعمل بدقة متناهية دون أن تنتابها مؤثرات الزمن، وهي ساعة القشلة التي تشبه بتصميمها ساعة “بيغ بن”، التي أنشأت في عام 1869، ارتبط تاريخها ببناء القشلة (الثكنة العسكرية وسراي الحكومة في ما بعد) كان الشروع في بناية القشلة أيام الوالي نامق باشا، ولم يكتمل بناؤها وأكمله مدحت باشا، وأقام في ساحتها برجاً نصب عليه ساعة القشلة لغرض إيقاظ الجنود في أوقات التدريب العسكري حيث اتخذ القشلة مركزاً لقواته الخيالة وكذلك مقراً لولايته.
ساعة مرقد السيد إدريس التي أنشئت في عام 2006 وهي متوقفة عن العمل الآن
كان رنين صوت ساعة القشلة تسمعه بغداد بجانبيها الرصافة والكرخ، بخاصة في أوقات الفجر والليل، حيث يستيقظ على دقاتها العمال والموظفون ليذهبوا إلى أعمالهم كما أنها كانت تزينها المصابيح مما يساعد على رؤيتها من مسافات بعيدة في الليل، يطلق عليها أهالي بغداد ساعة “بيغ بن” لتشابهها في الشكل مع نظيرتها في بريطانيا.
لهذه الساعة أربعة أوجه فالوجهان الجنوبي والغربي على التوقيت الغروبي، وتشير عقاربها إلى الزمن بالرقم العربي المألوف، أما الوجهان الآخران وهما الشمالي والشرقي، فعلى التوقيت الزوالي وتشير عقاربها إلى الزمن بالرقم اللاتيني.
يعتلي برج الساعة سهم حديدي بشكل أفقي متحرك، يؤشر هذا الرمح حركة الرياح واتجاهاتها، ويوجد سهم آخر تحت السهم المتحرك رسم فيه الحرفان بالإنجليزية (N) ويعني اتجاه الرياح الشمالية والحرف (S) ويعني اتجاه الرياح الجنوبية، وقد صنع هذا المؤشر مع التاج والجمل عند دخول البريطانيين إلى بغداد 1917، وكان تمثال الجمل الذي وضع فوق مركز الرمح صنع من البرونز للقائد الإنجليزي “لجمن”، فأسقط هذا التمثال مع التاج من فوق برج الساعة بسقوط النظام الملكي في البلاد عام 1958.
أيقونه محلة السراي وشارع المتنبي
يوجد في الساعة جرس يبلغ ارتفاعه متر واحد، وقطره ثلاثة أمتار، وهو منفصل عن الساعة. عند عملية التشغيل تتصل الساعة به بواسطة جسر صغير.
يقول أحمد حسن مايح، مدير موقع القشلة، “إن الساعة تعمل بنظام الضبط اليدوي وفيها ستة مسننات لرقاص الساعة وهذه الميزة اختصت بها، كون الساعات الاعتيادية يكون مسنن الرقاص حوالى 36 مسنناً، كما أنها تدق على رأس كل ساعة للتنبه لحلول الوقت”. يضيف، “هناك صيانة دورية للساعة تشمل تنظيفها مع برجها من الداخل للمحافظة عليها كونها معلماً مهماً في الموقع، وهنالك شخص متخصص بصيانتها ويكاد يكون الوحيد في هذا المجال، فلقد ورث تصليحها من والده وهو موظف في موقع القشلة”. يوضح أنه “من ضمن أعمال الصيانة إبدال بعض الأجزاء المتضررة لقدم الساعة، وفي بعض الأحيان تقف قلة التخصيصات المالية عائقاً أمام الصيانة”.
ساعة الكاظمين
في السابق وقبل أن تهيمن علينا التكنولوجيا بسطوتها يمسك الناس ساعاتهم اليدوية ويضبطون الوقت من خلال الساعات القائمة في مناطق بغداد المختلفة وأيضاً الموجودة في أضرحتها.
ومن ساعات بغداد القديمة تلك التي أقيمت في عام 1882، وهي ساعة الحضرة الكاظمية التي تضم قبري موسى الكاظم ومحمد الجواد، وتميزت بفخامتها وهي ذات أربعة أوجه مدورة، تدق الساعات والأنصاف والأرباع وتحتوي على جرس ومطرقة يتسمان بالفخامة، وكان الصوت المنبعث منها عالياً جداً، فتم وضع كمية من مادة الرصاص في الجرس للتخفيف من حدة الصوت”.
أهديت الساعة من قبل الوزير الإيراني “دورست محمد خان” عند زيارته للعراق بصحبة ملك إيران ناصر الدين شاه سنة 1870، ولم يكن لها موضع تنصب عليه، وبقيت في مخزون الهدايا لحين شيدت قاعدة وبرج لها نصبت عليه، وكان ذلك في عام 1882 وهي قائمة إلى اليوم تعمل بانتظام.
الساعاتي صفاء سعد الدين داود الذي توارث مهنة تصليح ساعة الحضرة الكيلانية من والده
الحضرة الكيلانية
وفي الحضرة الكيلانية حيث ضريح عبد القادر الكيلاني، الذي تنسب إليه إحدى الطرق الصوفية وهي الطريقة القادرية، أنشئت مدرسته في عام 538 هـ، وكانت تضيق بالناس من ازدحامهم على مجالسه، وكان لسِعة علمه يفتي على المذاهب الأربعة، وخرج من مدرسته كثير من العلماء والمريدين الذين انتشروا في أرجاء المعمورة حاملين الطريقة القادرية في التصوف كسلوك في الحياة.
وفي الحضرة الكيلانية توجد ساعة أقيمت في عام 1898، وهي ذات أربعة أوجه مدورة تحتوي على ثلاثة أجراس، أحدها للساعات والآخر للنصف، والثالث للأرباع. وقد تم صنع هذه الساعة في معمل “بونه” في مدينة بومباي في الهند، وقد شيد لها عبد الرحمن النقيب، نقيب أشراف بغداد وأول رئيس وزراء بعد سقوط الدولة العثمانية في 1920 برجاً عالياً من صنع المعمار البغدادي “أسطة درفي” الذي حاكى في بنائه برج ساعة القشلة.
تحتاج صيانة هذه الساعات لأياد ماهرة تتقن التعامل من ميكانيكا هذه الساعات الضخمة، وفي الغالب تتوارث حرفة “الساعاتي”، يحدثنا صفاء سعد الدين داود، الذي يعمل في صيانة ساعة الحضرة الكيلانية بأنه توارث هذه المهنة من والده “إذ كنت أحضر معه أثناء صيانتها منذ الصغر، والآن بلغت 42 سنة، وأصبحت المسؤول عن صيانتها”.
يكمل داود ويقول، إن ساعة الحضرة الكيلانية لم تشهد أي تغيير، فهي باقية محافظة على شكلها، منذ تأريخ وجودها في المكان “لم يطرأ أي تغير عليها منذ عملية نصبها، وتتم المحافظة على الساعة من خلال الصيانة الدورية لها وتزيت الأجزاء الخاصة بها”.
ساعة أبو حنيفة صناعة عراقية
وفي منطقة الأعظمية حيث مرقد الإمام أبو حنيفة النعمان من أبرز علماء الفقه الإسلامي، ومؤسس المدرسة الحنفية أحد أكثر المذاهب الإسلامية انتشاراً، يوجد بجانب المرقد جامع تقام فيه صلاة الجمعة والجماعة، وله صحن يجتمع فيه الناس في الأعياد والمواسم الدينية، وبجانب الصحن يوجد برج يضم ساعة صنعها الساعاتي العراقي عبد الرزاق محسوب في عام 1929، وجميع أجزاء هذه الساعة وآلاتها كانت عراقية الصنع بحيث لم يستورد أي جزء منها من الخارج، إذ قامت بصناعتها وهندستها الأيادي الفنية العراقية في معمل محسوب وبإشرافه، وبقيت مركونة حتى عام 1959 عندما تم بناء برج لها لتبدأ عقاربها بالدوران وصوت دقاتها يُسمع في أرجاء منطقة الأعظمية.
ساعتا المحطة أنشئتا في عام 1955 والآن توقفتا عقاربها عن الدوران ولم تشهدا أي أعمال صيانة بعد عام 2003
وصف الساعة
يقول خطيب جامع الإمام أبو حنيفة، عبد الستار عبد الجبار، “إن هذه الساعة تعمل في وقت واحد بأوجهها الأربعة، وفي السابق كان فيها ناقوس يمتاز بقوة صوته، لكن عندما تم بناء سقف للبرج في عام 1971 أدى ذلك لحجب الصوت”.
يبلغ ارتفاع هذه الساعة ثمانية أقدام، وهي ذات وجوه أربعة مدورة وعلى كل وجه ثلاث عقارب اثنتان منهما تشيران إلى الدقائق والساعات والثالثة تشير إلى الأيام، وصممت هذه الساعة على مبدأ الثقل، حيث يتدلى منها ثلاثة أثقال تحرك ثلاث مكائن، ويقع موقع الثقل الأول في الوسط، وهو الذي ينظم حركة العقارب، والثاني من الجهة اليمنى وينظم دقات أرباع الساعة، والثالث في الجهة اليسرى ويعلن بدقات قوية عن الوقت، ويبلغ وزنها ثمانية أطنان من الحديد.
ساعات توقفت عقاربها
هناك كثير من ساعات بغداد اختفت وطالها الإهمال ولم تعد موجودة، مثل ساعة الزهور التي نصبت في ساحات متنزه الزوراء، وساعة أخرى في باب المعظم، اختفت كونها كانت تشغل وتدار بواسطة التيار الكهربائي، فغالباً ما تتوقف عن العمل عند انقطاع التيار.
وهناك ساعات أخرى بقيت محافظة على وجودها، لكن عقاربها توقفت عن احتساب الوقت، ومنها ساعتا المحطة العالمية، نصبت هاتان الساعتان على برجين في عام 1955، وقد علت كل برج منهما ساعة كبيرة ذات وجه واحد مدور، فالساعة الجنوبية تعلن الوقت بالتوقيت الغروبي، والشمالية تشير إلى الزمن بالتوقيت الزوالي.
أعادت هيئة التصنيع العسكري قبل 2003 عقارب هذه الساعات للعمل، لكنها عادت وتوقفت منذ العام ذاته، ولم تشهد أي صيانة لإعادتها للعمل.
ساعات أخرى
وفي الجامعة المستنصرية التي تأسست عام 1963 بني في وسط الجامعة برج عالي من الكونكريت المسلح لساعتها، ولا يوجد فيه أي معالم تراثية أو تاريخية فهو هيكل من الأسمنت المسلح، يرتفع نحو 25 متراً، وهو مكشوف يشتمل على عمودين مستطيلي الشكل، أحدهما يقابل الآخر، لكن الضلع الشمالي يعلو على نظيره الجنوبي، وتقع الساعة وهي مربعة ذات وجهين في أعلى البرج في نهاية الضلعين.
ومن الساعات الحديثة هناك ساعة مرقد السيد إدريس التي أنشئت في 2006 على برج بُني في ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن الساعة متوقفة عن العمل.
أما ساعة بغداد التي تقع في مبنى أنشئ ليكون متحفاً في منطقة الحارثية نهاية شارع الكندي بين عامي (1993-1994)، بنيت هذه الساعة بأيد عراقية وتصميم هو كذلك، وداخل برج الساعة يوجد بندول كبير تحته ساعة كبيرة أيضاً، وفي التسعينيات تم اعتماد طريقة معينة لكي تكون دقات ساعة بغداد مسموعة في أنحاء العاصمة، إذ تم ربطها مع منظومة صافرات الإنذار المنتشرة في أرجاء العاصمة وبهذا أمكن سماع دقات ساعة بغداد في أنحاء العاصمة.
لعل انتشار الساعات في الشوارع والساحات العامة يدلل بوضوح على أهمية إدراك قيمة الوقت، أو لعلها تؤرخ لخسارات لا تحسب بالأيام، بل بكل الدقائق التي تقطعها الساعة كما قال الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي:
هــذه السـاعـة فـي دقـتـهـا قـرّبـت نـفـسـيَ مـن نـكـبتها
تسقط الساعات من أعمارنا والتـواقـيـع صـدى سـقـطتها
غفران يونس