حرية – (16/5/2022)
جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول قد استدان منه دراهم لم يحن بعد وقت سدادها، جبذ الحبر رداء الرسول بغلظة وقال: يا محمد، أد إليّ ديني، فإنكم يا بني هاشم قوم مُطل (تماطلون في أداء الدين). هز عمر سيفه منفعلاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان عليك أن تأمره بحسن الطلب وتأمرني بحسن الأداء.
يخطر هذا الحديث ببالي كثيراً، خاصة إذا ما ساقتني الحظوظ غير الحسنة لحضور برنامج حواري على أي فضائية عربية، فنادراً ما تجد فيها شيئاً من آداب الحوار التي ندعي الحرص عليها ونتمنى أن يشب عليها أبناؤنا، ورغم أن بداية عصر الفضائيات العربية ارتبطت بمثل هذه البرامج الحوارية التي أشعرتنا بداية ببعض البهجة لأنها كانت في الأغلب تتحدث عن المسكوت عنه في عالم السياسة، لكن هذه البرامج أصبحت بلغتها دليلاً ليس فقط على فشل العرب، بل على ابتذال لغتهم… إلخ، هل كان أحد منها يتوقع أن تصبح مفردات مثل العمى.. يخرب بيتك… شيئاً معتاداً في أشهر برنامج حواري عربي!
البرنامج الذي أصبح علماً على أشهر قناة سياسية عربية، إنك لتشعر أن البرنامج إنما جُعل ليظهر أن الحوار بين العرب ينحدر ليصلح سفالة مطلقة، أما كان يستطيع أن يرتفع بمستوى الحوار؟! أحياناً أشعر بالريبة وأنا أرى إصرار القناة على استمرار هذا البرنامج الذي ناف عمره على ربع قرن، أما كان البرنامج قادراً على أن يعبر عن أي موقف نقدي بتهذيب لا تضيق عنه كلمات العربية، دونما حاجة إلى الهبوط بمستوى الكلام، أليس ذلك دليلاً على انحراف بوصلة العمل الإعلامي، إذ يميل إلى الإثارة على حساب الموضوعية؟!
وعلى أي حال فإن مدرسة الحوار هذه تكتسب حظوة وتأثيراً، منذ سنوات مثلاً رأينا وزير خارجية أكبر حكومة عربية يلقي أرضاً باللاقط الصوتي الخاص بإحدى القنوات التي لا تسير على هواه، تصرف لا تقبله من رجل الشارع فكيف بعميد الدبلوماسية في بلد عربي!
الحوارات أيضاً في العوالم الغربية لا تخلو من إسفاف، لكنه أقل من الإسفاف الذي نراه في مجتمعاتنا. وحين تتذكر أننا نعلن الاقتداء بالرسول فعُد إلى الموقف الذي افتتحنا به لترى أين نحن منه، وإنك مهما حاولت أن ترى موقفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن تجد موقفاً واحداً في أي حوار أو استجابة لأي استفزاز يخرج على الأدب الرفيع.
هدف حواراتنا للأسف أن ينتهي بالضربة القاضية بل بالاستسلام على الملأ. لمَ لا يتذكر المتحاورون أن الاختلاف سنة في البشر (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) صدق الله العظيم.
(2)
حين بدأت العمل في الطب كنت أزامل اثنين من العرب ومجموعة من ذوي العيون الزرقاء يصل عددهم إلى ثمانية، منهم السويدي والهولندي والإنجليزي والفنلندي، وكنا نبدأ يومنا بجلسة نناقش فيها عمل اليوم، كان اجتماعنا حافلاً بالنقاش الذي يمتد يومياً إلى حوالي الساعة، ونادراً ما لم يستدع أي تعليق نقاشاً بين من يراه أبدع ما وصل إليه فن التوليد وطب النساء ومن يراه قديماً هدمه الافتقار إلى دليل قوي أو أن تقييم دليله منخفض، وبعد أن أظن ويظن رفاقي اليعربيون أن التوتر سيصبح سيد الموقف نفاجأ بإحدى عبارتين:
I am afraid i can’t agree more .
وهذا يعني الاستسلام بالضربة القاضية..
أو العبارة الأخرى
I am afraid I can’t agree.
وتعني أنني لن أتفق معك مهما سقت من قرائن، والفرق بينهما في الكلام فقط more وفي المعنى من النقيض إلى النقيض.
(3)
۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (24) قُل لَّا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّآ أَجۡرَمۡنَا وَلَا نُسۡـَٔلُ عَمَّا تَعۡمَلُونَ (25)
كلما مررت بهاتين الآيتين الكريمتين من سورة سبأ، وجدتني أتوقف وببطء شديد أعيد القراءة، وهكذا مرة أو اثنتين أو ثلاثاً، وكلما تذكرتها بعد حوار مع أحد ضبطتني ومحاوري في غاية الافتقار إلى ممارسة هذا القدر المترفع من ترويض النفس على هذا المستوى السامق من التهذيب، كم في هذه الآيات من أدب للحوار لا مزيد عليه!
إن الأصل في المتحاورين أن يفترض كل منهما إمكانية أن يكون على خطأ بنفس الدرجة التي يحتمل فيها أن يكون الطرف الآخر على صواب.
ولكن الآية تمضي بعيداً في ذلك فتجعل الطرف المحاور يقدم بأنه يقبل أن يصل إلى الحق ولو ثبت نتيجة للحوار أنه كان على ضلالة، ولا يتردد في إطلاق صفة الضلالة على من تثبت عليه أياً كان هذا الفريق، حتى لو كانت الضلالة من نصيب الطرف الذي فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، بل يمضي القرآن أبْعد من ذلك ليقر بأن نتيجة هذه المحاججة لا تحمّل هذا الطرف أو ذاك أية مسؤولية عن عمل الطرف الآخر إن تمسك بموقفه أو ثبت أنه لم يكن على صواب فى الماضي.
بل تمضي في التأدب مع المخالف إلى درجة تسمية عمل المعسكر الذي فيه الرسول وصحابته بالجرم، بينما لا تصف عمل الطرف الآخر الذي فيه المشركون بأكثر من أنه مجرد عمل، يأتي القرآن بهذين الفرضين أي الضلالة والجرم في حق الرسول وجماعته لكي يخلق جو التحاور الصحي. رغم أننا ننزه الحبيب رسول الله أن يكون على ضلال أو يأتي إجراماً.
صالح الشحري